بقلم: د. مصطفي النبراوي
ما زلت أُعزى عدم انتشار العَلمانية في مصر وأنحصارها بشكل كبير ابتداءًا من سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن إلى خطاب متطرفيها وتشويه رافضيها، فقد أدى الخطاب العَلماني الصادر عن متطرفي العَلمانية وكذلك الخطاب المضاد الصادر عن أصحاب المرجعيات الدينية بغض النظر عن الصبغة الدينية إلى أن أصبح الشائع عن العَلمانية أنها بالضرورة مرادفة للألحاد، لذلك اسمح لي عزيزى القارئ أن نطرح خطاب عَلماني جديد لعل وعسى يرفع الإفتراء والظلم عن هذا المفهوم.

* أولاً: يذكرنا ويرشدنا مناخ نشأة مفهوم العَلمانية ومضمونه إلى حقيقة ما زالت غائبة بل قل مُغيبة، فقد ظهر هذا المصطلح أول مرة في أوروبا في نهاية القرن الأول الميلادي ثم شاع في القرون الوسطى عندما احتكرت الكنيسة الرأي والقرار بل وصبغت فعلها على الدوام بصبغة مقدسة. فالنشأة الأولى لهذا المفهوم "اللائكية" Laïcité كانت فرنسية حيث سادت الكاثوليكية، والأفراد الذين يطلق عليهم لفظ لائكي "laic" كانوا يعتبرون مسيحيين بالتمام والكمال، يؤمنون بالمسيح وهم أتباع خُلص له لكنهم لا يتمتعون بعضوية التنظيم الكهنوتي الذي تتشكل منه الإمبراطورية البابوية، إذًا فاللائكية وهي اللفظ الفرنسي للعَلمانية في الأصل لا تعني اللادينية وإنما تعني عدم الانتظام في التنظيم الكهنوتي الكنسي (المؤسسة الدينية)، ويُضاف إلى ذلك إشارة في غاية الأهمية وهي أنه ليس كل رجل دين كان يعتبر "كاهنًا" فقد كان هناك رجال دين ضمن صنف اللائكيين لكونهم لم يكونوا منتظمين في سلك الكهنوت الكنسي وهذا يؤكد على حقيقة في غاية الأهمية وهي أن المعيار لم يكن التدين أو عدم التدين بل كان المعيار هو الانتساب إلى المؤسسة الدينية.

* أما مفهوم Secularization (والفعل منه secularize بمعنى إعادة الكهان إلى الحياة المدنية، أي إلى الحياة خارج نظام الكنيسة، وأيضًا بمعنى "تحرير" ممتلكات الكنيسة وجعلها جزءًا من الشأن الدنيوي) فهو إفراز التجربة الألمانية والإنجلوسكسونية (إنجلترا وأميركا) حيث سادت البروتستانتية، ومع أن معناه لا يختلف اختلافًا جوهريًا عن معنى اللائكية فهو أكثر مرونة منه، وهكذا فإذا كان المفهوم "الفرنسي" (اللائكية) ينص -كما ذكرنا- على إقصاء أية سلطة للكنيسة سواء في المجال السياسي والإجتماعي أو في المجال التعليمي، فإن مقابله الألماني/ الإنجلوسكسوني يعني ابتداء ضعف الروح الدينية في مجتمع من المجتمعات. وهكذا فعندما تتراجع مكانة الاهتمامات الدينية لدى معتنقي دين معين في مجتمع ما فحينئذ يقال عن هذا الدين إنه أصبح موضوعًا لعملية Secularization بالمعنى العام للكلمة.

* كانت هناك ضرورة لهذه المقدمة لكي أدلل بها على أن المفاهيم والمصطلحات تنمو وتتطور وتتأثر بالبيئة والعوامل المحددة لها –وبالتالي فالعَلمانية ليست "وصفة مطلقة" بل هى بالتأكيد مفهوم قابل للنمو والتطور مع الزمن والمكان، أي هى "وصفة نسبية"- كذلك تؤكد المقدمة على أنه عند نقل تجربة ناجحة من بيئة المنشأ إلى بيئات أخرى مختلفة عنها يجب أن يُجرى عليها بعض التعديلات Modifications حتى تتوافق مع البيئة الجديدة ولا ترفضها الأخيرة- وبمعنى آخر عند تبنى مفهوم العَلمانية في بيئات مختلفة علينا أن ننتظر بالضرورة تطبيقات مختلفة لها يجمعها قاسم مشترك هو تخليص الدين من المنافسات والصراعات البشرية والمصالح النسبية حتى يكون أكثر صفاء وفي نفس الوقت تخليص المنافسات والصراعات البشرية والمصالح النسبية المتغيرة من تحكم رجال الدين حتى تكون أكثر فاعلية واقل حده وأوسع مشاركة.

* لذا أرى أن الدعوة إلى دولة عَلمانية في مصر تُعد مبادرة جيدة تنتقل بمصر إلى منظومة العصر وهي التعددية والعقلانية والديمقراطية. لذا أرى من وجهة نظر نسبية أن الخطاب العَلمانى في مصر والعالم العربي يحتاج الى مراجعة لأنه بالضرورة أحد أهم الأسباب الذاتية لعدم انتشار العَلمانية في مصر. ومن هنا أرى ضرورة مراجعة الخطاب العَلماني فيما يتعلق بالإيمان والدين والتيارات الدينية، وأن تبذل دوائر التيار العَلمانى مجهودًا أكبر في توضيح هذه العلاقة وفك الإشكالية المزعومة.

* هناك فرق كبير وهام بين الإيمان والدين، فالأيمان معالمه ثلاث... الإيمان بوجود قوة مطلقة مسيطرة ومتحكمة بقوانين مُحكمة على الكون ثم الأيمان بضرورة وأهمية العمل الصالح الذى يخدم المؤمن والبشرية جمعاء وأخيرًا الأيمان بحتمية الحساب الختامي. أما الدين فهو إفراز أيماني (أو صبغة إيمانية) قد تختلف من مؤمن لمؤمن لآخر. ومن هنا أرى أنه لا تعارض بين العَلمانية من جهة والإيمان والدين من جهة أخرى، فالعلاقة ليست مع الإيمان والدين وليست أيضًا مع رجال الدين بصفة عامة ولكن مع أداء وسيطرة رجال الدين وتدخلهم في تسيير أمور الدنيا بما فيها العلوم الطبيعية... وهو عمل نسبي/ متغير/ اعتمادًا على نصوص مقدسة وهس بالضرورة مطلقة/ ثابتة.. وهنا تكمن اللإشكالية التس أربكت العقل العربي وهس كيف أدير نسبي ومتغيير بمطلق وثابت؟ ومن ناحية أخرى أرى ضرورة التأكيد على أنه في فضاء العَلمانية يظل الكنيس كنيس والكنيسة كنيسة والجامع جامع قبلة لكل مؤمن بيتغي جرعة روحانية يتوازن بها مع ماديات الحياة، على اعتبار أن العلاقة الروحية هي فعلاً علاقة عاطفية وسيكلوجية بين الإنسان وربه ولا يمكن إنزال الدين من عليائه ليكون أداة تسيير الدنيا بكل ما تحتويه هذه الأخيرة من مصالح ومنافسات وصراعات ومناورات يعالجها البشر بالعقل والممكن والسياسة لا بالدين.

* ويؤكد هذا الطرح أن فرنسا التي ينص دستورها على عَلمانية الدولة ما زالت حتى يومنا هذا تُعلن أنها رافعة راية الكاثوليكية في العالم –فالعَلمانية دعوة لفصل الدين ورجاله عن الدولة وليس عن الحياة. وسوف أستشهد هنا بكلمة الرئيس شيراك عقب أحداث قرار الحكومة الفرنسية منع ارتداء الرموز الدينية في المدارس والمصالح الحكومية حيث أكد شيراك على أن "العَلمانية هي ضمان لحرية الفكر والضمير– إنها حماية لحرية المعتقد بوجوده أو عدمه. إنها تُؤمن لكل فرد إمكانيه ممارسة شعائره والتعبير عن إيمانه بكل طمأنينه وحرية دون أن يجد نفسه تحت وطأة التهديد بأن تفرض عليه ثقافات أو معتقدات أخرى. إنها تسمح لأشخاص نساءً كانوا ام رجالاً قادمين من آفاق مختلفة ومنتمين لثقافات متنوعة بأن يشعروا بأن الجمهورية ومؤسساتها تصون معتقداتهم وتحميها. فالعَلمانية بانفتاحها السخي تمثل مكمنًا متميزًا للتلاقي والتبادل يتواجد فيه كل فرد لتقديم أفضل ما لديه للمجتمع. إن الحيادية التي تتمتع بها العَلمانية في المجال العام هي التي تسمح بتعايش وانسجام وتناسق بين جميع الديانات على اختلاف انواعها". وأضاف شيراك أنه "لا قيود للتعبير عن حرية المُعتقد إلا في حدود عدم المساس بحرية الآخرين واحترام قواعد الحياة في المجتمع. إن الحرية الدينية التي هي موضع احترام وحماية في بلادنا لا يجوز الانحراف بها. فمن غير الممكن لها أن تنال من القانون العام أو تطال من حرية مُعتقد الآخرين، فهذا التوازن الدقيق والقيم والحساس الذى بُنى بصبر منذ عدة عقود هو الذي يؤمن احترام مبدأ العَلمانية".

* إن الدولة العَلمانية تتعامل مع الإنسان المواطن بغض النظر عن نوعه أو كونه مؤمن أو غير مؤمن أو كونه ينتمي إلى الأغلبية أو إلى الأقلية، من هنا أرى أنه يجب أن يهتم الخطاب العَلماني بتوضيح في غاية الأهمية أن التيار العَلمانى لا يناصب أحد العداء وخصوصًا التيار الديني أو أفراده –فقد أثبتت كل تجارب العَلمانية التي اتخذت من الدين خصمًا وغابت عنها الديمقراطية فشلاً زريعًا (مثل النازية في التجربة الألمانية /الفاشية في التجربة الأيطالية/ الإتحاد السوفيتي..) بل هى دعوة لخلق مناخ صحي تتنافس فيه كل التيارات على خدمة مصرنا الحبيبة شريطة أن لا يمارس أحداها ثقافة الوصاية على الآخرين، فهي تستقبل كل الأفكار وتتعامل مع كل الاتجاهات بعيدًا عن الاستلاب والإقصاء والتهميش والتفريق والتكفير والتخوين– ولنا في التجربة التركية خير مثال عندما نرى رجب طيب أدرخان (ذو المرجعية الدينية) يترأس مجلس وزراءه وخلفه على الحائط صورة مصطفى كمال أتاتورك الأب الروحى للعَلمانية التركية. فكل نظام ديمقراطي حقيقي بالضرورة يكون عَلمانيًا –وليس العكس بمعنى أنه ليس كل نظام عَلماني بالضرورة يكون ديمقراطي، فالديمقراطية هى الآلية التي يجب أن تدار بها المجتمعات العَلمانية- فمعادلة العَلمانية هي: العَلمانية = تعددية وتنوع خلاق + عقلانية الرؤى والأفكار + ديمقراطية إدارة التنوع والاختلاف.

* أخيرًا أؤكد على أن الليبرالي العَلماني الحق هو الذي يمارس التسامح والتعايش والنسبية في علاقاته بكافة ألوان الطيف الثقافي والسياسي، وهو الذي يتمكن من إيجاد مجالات تماس وتواصل وتخاطب مشتركة مع الآخرين مهما كانوا مختلفين عنه من خلال عقلانية الرؤى والأفكار... إيمانًا بنسبية الحقيقة وحاجة كل منا للآخر، وهو أخيرًا الذى يدرك أن الناس خلقوا متنوعين متباينين في القدرات والمشاعر والأفكار والمصالح وسيظلون كذلك.
يتبقى لى سؤال ورجاء.. السؤال أوجه إلى كل من المنتمين للتيار العَلماني والتيار الديني... هل يوجد الآن وأكرر الآن مشترك يجمع بين التيارين؟؟؟ إن السبب الرئيسي لأمراض الحياة السياسية في مصر يرجع إلى غياب أسس وقواعد اللعبة السياسية. وغياب "الملعب"... لذا أرجو من مُعتدلي العَلمانية التركيز في الخطاب العَلماني على الدعوة إلى وضع قواعد اللعبة السياسية و(تأسيس الملعب... ملعب عَلمانى يتيح الفرصة لكل اللاعبين).