بقلم: د. مصطفي النبراوي
في ظل مناخ تسيطر عليه الرغبة في أحداث خطوات إصلاح حقيقية سواء من قِبل قوىَ الواقع أو قوى التغيير... وأيضًا في ظل الحاجة إلى خطاب تغيير جديد... خطاب لا يدعو إلى الإطاحة بقوى الواقع بل خطاب يُنير لها الطريق، خطاب يتمتع بموافقة الأغلبية. تقدمت أربع مؤسسات مجتمع مدني (مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية / جمعية التنمية الإنسانية بالمنصورة / جمعية الرواق الجديد بالقاهرة / مركز العدالة والمواطنة وحقوق الإنسان بالمنيا)  بمبادرة إصلاح تحت اسم "مبادرة المصالحة الوطنية" وقد شُرفت بالاطلاع عليها.
 وقد جاءت مدنية الدولة وتفعيل حق المواطنة مطلب أول في مبادرة الإصلاح المقدمة... وأتفق هنا مع أولوية هذا المطلب لكونه هو مفتاح بوابة الإصلاح الحقيقي، فمدنية الدولة هي ضمان لحرية الفكر والضمير –أنها حماية لحرية المعتقد بوجوده أو عدمه، أنها تُؤمن لكل فرد إمكانية ممارسة شعائره والتعبير عن إيمانه بكل طمأنينة- وحرية دون أن يجد نفسه تحت وطأة التهديد بأن تفرض عليه ثقافات أو معتقدات أخرى. فمدنية الدولة بانفتاحها السخي تمثل مكمنًا متميزًا للتلاقي والتبادل يتواجد فيه كل فرد لتقديم أفضل ما لديه للمجتمع.

إن الحيادية التي تتمتع بها الدولة المدنية في المجال العام هي التي تسمح بتعايش وانسجام وتناسق بين جميع الديانات على اختلاف أنواعها، ونؤكد على أنه لا قيود للتعبير عن حرية المُعتقد إلا في حدود عدم المساس بحرية الآخرين واحترام قواعد الحياة في المجتمع، وفي ظل الدولة المدنية تجد أفضل صور تفعيل حق المواطنة... ونقصد هنا بالمواطنة (الحق الفردي لكل أبناء الوطن في تقرير مصير الوطن، والتمتع بكل خيراته في الخارج والداخل، والمشاركة في الدفاع عنه من خلال توفير مناخ المشاركة والعدالة وتكافؤ الفرص) حق فردى لا تجوز فيه الإنابة لأي سبب من الأسباب.
إنَّ قوة الدولة العصرية تكمن في مفهوم العدل والإنصاف وحسن الانسجام والتوازن بين السلطات. أن مصر في حاجة إلى أن تنتقل من الدولة السلطوية إلى دولة القانون، ودولة القانون هي "تلك الدولة التي تُبنىَ على أسس قانونية ويخضع لحكمها كافة السلطات العامة والأفراد على حد سواء بصرف النظر عن وظائفهم أو مراكزهم الاجتماعية بهدف تحقيق العدالة والخير العام والنظام العام واستقرار المجتمع.

 ثم جاء مطلب تداول السلطة و هو النتيجة المباشرة للمطلب الأول...... فشرعية الحكم تقاس الآن بعدة معايير دولية.
الأول: الطريقة التي تم بها إفراز هذه الشرعية سواء فيما يتعلق بتنافسية، شفافية، نزاهة الانتخابات.
والمعيار الثاني: مدة صلاحية هذه الشرعية فلم يعد مقبولاً على المستوى الدولي أن تستمر الصلاحية لأكثر من 12 سنة على أكثر تقدير.
والمعيار الثالث: إمكانية تداول السلطة.
والمعيار الرابع: هو حجم المعارضة.

وأني أرى أن المادتين 76 و 77  بصياغتهما الحالية لا يحققا المعايير الدولية لشرعية الحكم فمازالت درجة شفافية الانتخابات صعودًا وهبوطًا في أيدي الدولة ترفعها وتخفضها طبقًا لتقديراتها وحساباتها، وكذلك غياب معيار التنافسية رغم توافر معيار التعددية (نعم لدينا 24 حزبًا سياسيًا... لكن الواقع السياسي يؤكد أنه لا توجد قوى سياسية تستطيع أن تنافس قوى الواقع) ومن هنا تأتي ضرورة أحداث تغيير في هاتين المادتين يحقق الهدف المنشود وهو أن يحدث إفراز طبيعي لشرعية الحكم طبقًا للمعايير الدولية وتداول سياسي/ سلمي/ حقيقي/ للسلطة في مصر من خلال مشروعية تتمتع بمدة صلاحية محددة. ولذلك أرى فيما يتعلق بالمادة (76) أن يكفل حق الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية لكل حزب يتمتع بتمثيل داخل البرلمان على أساس أن نظامنا الجمهوري يقوم على أساس تعدد الأحزاب، مع ضرورة الأخذ بملاحظة أستاذنا الدكتور حازم الببلاوي فيما يتعلق بالتزكية المنصوص عليها في هذه المادة بأن شروط التزكية ينقل الانتخاب من مباشر إلى غير مباشر (على مرحلتين) وهو ما يخالف نص الدستور وكذلك أن تحصين قرارات لجنة الإشراف على الانتخابات الرئاسية ضد الطعن مخالفة صريحة لحق التقاضي وتؤثر سلبًا على شرعية النتيجة.
أن السبب الرئيسي لهشاشة الحياة الحزبية في تقديري يرجع إلى مناخ النشأة وهو المناخ الذي احتكر فيه الحزب الحاكم الرأي والقرار والتفكير والتنفيذ بالتالي نشأت الأحزاب نشأة ضعيفة غير قادرة على النمو والاستمرارية، لذا أرى أن الخطوة الأساسية التي يجب أن تواكب التعديل الدستوري المقترح هو إزالة العوائق من أمام الممارسة النشطة لهذه الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات ورفع أسقف الحريات سواء فيما يتعلق بالإنشاء أو الممارسة حتى يساعد هذا على نشر وتكريس قيم الديمقراطية في المجتمع لكي يتواكب ذلك مع تفعيل الديمقراطية كآلية اختيار وإدارة اختلاف.

أن توافر أحزاب سياسية حقيقية ومؤسسات مجتمع مدني نشطة يُؤمن الانتقال السلس للمجتمع من مرحلة سياسية إلى مرحلة سياسية أخرى ويقلل كثيرًا من تكلفة التغيير ويمنع أي خطوات ارتدادية، أما فيما يتعلق بالمادة (77) فأني أتمنى على السيد الرئيس أن يضمها إلى جملة المواد المطلوب تعديلها بحيث يفعل التعديل قيمة التداول بحيث تصبح الصلاحية لمدتين متتاليتين وأن يترك للرئيس السابق حق الترشح بعد الفاصل الزمني (مدة رئاسة واحدة). سيادة الرئيس أن ممارسة قيمة التداول أهم من الاختيار الجيد.
 وأكدت المبادرة على ضرورة الفصل بين السلطات (التنفيذية / التشريعية /القضائية) ونقصد هنا بالفصل بين السلطات هو أن لا تقوم سلطة بوظيفة سلطة أخرى... وأن تراقب كلاً منهم الأخرى، وهو مطلب يتطابق مع ما نادىَ به السيد الرئيس خلال حملته الانتخابية في 2005 حيث وعد سيادته:

1- بإصلاحات تعيد تنظيم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بما يحقق مزيدًا من التوازن فيما بينهما‏..‏ ويعزز دور البرلمان في الرقابة والمساءلة‏.‏
2- إصلاحات تعزز دور مجلس الوزراء‏..‏ توسع اختصاصاته‏..‏ وتوسع المدى الذي تشارك فيه الحكومة رئيس الجمهورية في أعمال السلطة التنفيذية‏.‏
3- ونضيف هنا بضرورة أن تستعيد السلطة القضائية استقلالها المالي والفني والإداري.

ثم يأتي مطلب حرية الصحافة الإعلام، وهنا تطالب المبادرة بحرية إصدار الصحف وملكية وسائل الإعلام لذلك فأن هذا المجال يحتاج قانون جديد:
- يتيح حرية إصدار الصحف خصوصًا للأفراد ويضمن استمراريتها.
- وأن تفسح الصحف القومية المجال لكل التيارات السياسية والفكرية بغض النظر عن الانتماء الحزبي وأن يختار رؤساء تحرير الصحف القومية بالانتخاب المباشر بواسطة الصحفيين العاملين في كل صحفية.
- وأن يجرم بها الخلط بين ما هو قومي وما هو حزبي.
كذلك في حاجة لقانون جديد للإذاعة والتلفزيون:
- يسمح بحرية امتلاك محطات إذاعة وقنوات تليفزيون.
- ترفع عنه كل القيود التي تقف بين الإعلام وأداء رسالته بحرية واستقلال.
- أن يفسح إعلام الدولة المجال لكل التيارات السياسية والفكرية بغض النظر عن الانتماء الحزبي.   

 من مطالب المبادرة أيضًا تفعيل مبادئ المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان... فمن أهم المعايير التي تقاس بها قدرة الشعوب على التقدم هي المسافة بين المبدأ أو القانون من ناحية والتطبيق من ناحية أخرى، فقصر هذه المسافة مؤشر إيجابي على قدرة المجتمع أي مجتمع على النمو والتقدم.... والعكس صحيح.
نعم لدينا مبادئ دستورية فيما يتعلق بحقوق الإنسان مشرفة لكن مازالت المسافة بينها وبين التطبيق بعيدة، ومن ناحية أخرى لدينا مبادئ دستورية مازالت مصبوغة بصبغات نوعية، دينية، توصيفية وهي صبغات تتعارض مع المبادئ الدستورية التي ينبغي أن تكون محايدة.
 ومن المطالب الرئيسة في المبادرة مطلب إعطاء أولوية إستراتيجية للتعليم بصفة عامة والجامعي والبحث العلمي بصفة خاصة، فالجامعة ركنًا أساسيًا وجوهريًا في عقل الأمة وضميرها، فهي البوتقة التي تخرج منها الأفكار والأبحاث في فروع المعرفة كافة.

وقد أثبت التاريخ الحديث أن تقدم الأمم مرتبط بالمستوى العلمي لجامعتها أن إصلاح الجامعة يَُعد من أهم مفاتيح الإصلاح العام، أن المجتمع الجامعي هو أكثر البيئات حاجة إلى المنهج الديمقراطي لكي تقوم الجامعة بدورها الحقيقي ولكونها تمثل قاطرة المجتمع فهي أنسب دوائره لنشر قيم الديمقراطية بين أفرادها سواء  هيئة التدريس / الطلاب / عاملين بحيث يكون هؤلاء نواة حقيقية مؤمنة وداعية للديمقراطية كقيم وآلية في مصر والوطن العربي، ومشكلة التعليم الجامعي من المشاكل المركزية التي لن تُحَل إلا بحلول لا مركزية ولذلك اقترح خطوط عامة لحل هذه المشكلات:

1- إعادة هيكلية النظام التعليمي كله من خلال نظرة متكاملة، والتقليل من الازدواجية فيما يقدم من خدمة تعليمية.
2- ربط خطة التعليم الجامعي بخطط التنمية من خلال رصد دقيق لاحتياجات التنمية من الموارد البشرية مع ما يتطلبه ذلك من تطوير للمناهج الدراسية وأيضًا طرق التدريس في اتجاه التعليم المتخصص وليس العام.
3- التعامل مع الجامعة على أنها مؤسسة تعليمية اقتصادية استثمارية، أن الاستثمار في عقول البشر هو أعظم وأئمن وأنظف استثمار لذا يجب إعادة النظر في مجانية التعليم الجامعي المزعومة بما لا يخل بحق التعلم والنبوغ، مع تبني التفوق والموهبة سواء من قبل الدولة أو المجتمع وأن يعود للتعليم مرة أخرى أهميته كأحد أهم مفاتيح الترقي وتحسين مستوى المعيشة وأن التفوق والنبوغ هو أساس التمايز.
4- لابد من البحث عن مصادر تمويل جديدة للعملية التعليمية و البحثية بالجامعة سواء من خلال الجمعيات الأهلية / رجال الأعمال / البنوك.

5- تشجيع إنشاء الجامعات الأهلية على أن تتخصص في مجالات جديدة تخدم خطط التنمية.
6- الاستقلال الإداري والمالي للجامعة والكلية، وأن القسم الأكاديمي هو الوحدة الأساسية لكل كلية، ومن ثم يجب أن يتوافر له الاستقلال الكامل من الناحية المالية والإدارية والأكاديمية وأن يتولى شئونه (عن طريق الإعلان المفتوح) من يتمتع بأعلى قيمة علمية محكمة دوليًا.
7- إعادة النظر في نظام القبول المعمول به الآن بالجامعة والبديل هو وضع حد أدنى للقبول بالجامعة، ثم اختبار حقيقي مَؤهل للقبول بالكلية المرغوبة مع الاسترشاد بمستوى وتوجه وميول الطالب في مراحل التعليم الأساسي وتحديد الأعداد طبقًا لخطط التنمية.
8- الاعتماد على نظام الإعلان الحر الغير موصف بدلاً من التكليف أو التعيين الآلي لاختيار المناسب والأكفأ لوظيفة عضو هيئة التدريس ومعاونيهم (المعيد والمدرس المساعد) بما يضمن عدم الترقية بنظام الزحف وبما يحفز أعضاء هيئة التدريس على مواصلة البحث العلمي.
9- الاهتمام بتطوير وتحديث المكتبات (الكمبيوتر والإنترنت) سواء على مستوى الجامعة أو الكلية أو القسم و إلغاء نظام الكتاب الجامعي (المذكرات) والعودة إلى "الكتب الأم".

10- التقليل من اللوائح الإدارية المعيقة للعملية التعليمية والبحثية والإبداعية.
11- إنشاء هيئة غير حكومية للمراقبة وتقييم الأداء الجامعي من جميع أوجهه مع نشر هذا التقييم سنويًا لكي يقف (الطالب وولي الأمر والمجتمع) على مستوى ومعدل تقدم أو تأخر كل جامعة، وبالتالي تفعيل آليات السوق في فرز وتصنيف الجامعات المختلفة.
12- ضمان الحرية والحصانة والمستوى المعيشي المناسب لعضو هيئة التدريس حتى تنطلق إبداعاته ويرتفع مستوى أدائه المهني.
13- إعادة النظر في ضوابط الترقية لعضو هيئة التدريس بما يتطلبه البحث العلمي الجيد (سواء من ناحية أسلوب تقييم البحث/ عدد البحوث / فردية أو جماعية البحث / الفترة الأزمة للترقي) على أن يتم التحكيم والنشر خارج الجامعة التي ينتمي إليها الباحث.
14- إعادة النظر في تصنيف هيئة التدريس بالجامعة (مدرس / أستاذ مساعد / أستاذ) إلى أستاذ محاضر ( أكاديمي) / أستاذ باحث (تطبيقي) / أستاذ محاضر وباحث (أكاديمي وتطبيقي) ولكل مجال أهميته ودوره الهام والمكمل للآخر على أن يوضع لكل مجال معاييره الدقيقة سواء عند الاختيار أو عند الترقية أو عند الانتقال من مجال لآخر.

15- وضع نظام لتقييم أداء الأستاذ الجامعي بمختلف مستوياته مع ضرورة إشراك الطلاب في آلياته.
16- الاهتمام بالبعثات العلمية للدول المتقدمة على أن تخدم هذه البعثات خطط التنمية وأن تُعني هذه البعثات بالكادر العلمي والفني والإداري، وتشجيع تبادل أعضاء هيئة التدريس بين الجامعات المختلفة لتبادل الخبرات حتى يمكن تقليل الفجوة العلمية الكبيرة التي نعاني منها.
17- إنشاء مجلس أعلى للبحوث للتنسيق بين الجهات البحثية المختلفة وخصوصًا التي تعمل في تخصص علمي وبحثي واحد يُشكل من أئمة علماء هذا التخصص على أن تتوافر لديه أحدث الوسائل التكنولوجية وأن يتمتع باستقلالية وحصانة كاملتين.
18- إعادة النظر في ضوابط تشكيل لجان فحص ومناقشة الرسائل العلمية بحيث يتوافر لها التخصص - الحيدة– مع ضرورة عدم الجمع بين عضوية لجنة الإشراف ولجنة التحكيم والفحص.
19- أن يكون لعضو هيئة التدريس حق الطعن في الجزاء الموقع عليه من رئيس الجامعة وأيضًا إعادة النظر في تشكيل مجالس التأديب في حالة اختصام رئيس الجامعة.

20- ألا تشكل القيادات الجامعية الحالية (بمستوياتها المختلفة) الأغلبية في اللجان التي عهد إليها تشخيص الأزمة واقتراح الحلول والاستعانة بوجهة نظر خارجية محايدة (مصرية أو أجنبية) حتى نتجنب عبارة "كله تمام يا أفندم" وكذلك تأثير قوى الواقع في إعاقة قوى التغيير.
تمنياتي لهذه المحاولة أن تلقى آذان صاغية.. سواء من قوى الواقع أو قوى التغيير اللاتي يتفقان على ضرورة أن تستعيد مصر مكانتها وتشارك في صنع الحضارة الإنسانية مرة أخرى.. لذا أرى ضرورة أن تمارس كلتا القوتين على اختلاف مكوناتها مستوى من مستويات المراجعة.. مراجعة تفعل الطاقات الحقيقية وتعيد ترتيب الأولويات مراجعة تُفعل الممكن والمتاح من أجل أن تستعيد مصر مكانتها التي تستحقها سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.

Mostafa_elnabarawy@yahoo.com