نانا جاورجيوس
«أين هو المَوْلودُ مَلِكُ اليَهودِ؟ فإنَّنا رأينا نَجمَهُ في المَشرِقِ وأتَينا لنَسجُدَ لهُ»(مت ٢: ٢)
هذا كان سؤال المجوس الذين أتوا من المشرق ( بلاد فارس) حين وصلوا بيت لحم اليهودية، و المجوس كلمة فارسية تعني الكهنة ومنجِّمين تفسر الأحلام ،و هم الفلاسفة والحكماء و علماء علم الهيئة ( الفلك) ، قبائل يعبدون النار ويخدمون الديانة الزرادشتية، ويستدعيهم الملك لقراءة النجوم و الفلك كما ذكر سفر دانيال عنهم.
  
- أما مجوس المشرق الذين أتى ذكرهم بالإنجيل فهم مجموعة علماء و "حكماء" ماهرون في معرفة أسرار النجوم وعلم الفلك (متى 2: 1و 7و 16). الذين كانوا ينتظرون تحقيق نبوءة لزراديشت في كتابه يتكلم فيه عن ميلاد " طفل ملك" وسيكون من العظمة لدرجة أن إسرائيل تنتظر مجيئه إليهم، و سيكون له علامة واضحة في السماء وهو "نجم لامع"  لا يشبه كل نجوم السماء، وهذا النجم سيكون متحركاً وسيتخذ مساراً عكس كل النجوم فلم يكن له مساراً خاص به بل إرتبط تحركه بتحرك رحلة المجوس أنفسهم متخذاً مسار من الشمال حيث بلاد فارس لينزل جنوباً مروراً بـ" بابل" العراق ثم بسوريا ثم أورشليم ويقف فوق بيت لحم اليهودية، وهذا النجم الغريب كان يضيء للمجوس نهاراً ويختفي ليلاً ليستريحوا ويناموا ليلهم، فهو في شدة لمعانه أشد من ضوء شمس النهار الذي به يستطيعوا أن يميزوه نهاراً ليهتدوا به و هو ما يؤكد أنه نجم يختلف عن كل نجوم السماء التي عرفتها البشرية.سواء في شدة لمعانه أو في حركته او في سطوعه نهاراً.
 
- ذكر الإنجيل أن رؤساء المجوس الذي أتوا لبيت لحم ثلاثة، ولكن لم يذكر أن لكل رئيس مجوسي منهم أتى على رأس مجموعة أفراد من قبيلته، والدليل أن خبر وصولهم لمدينة أورشليم أحدث جلبة في المدينة كلها حتى أن أخبارهم وصلت للملك هيرودس ورؤساء كهنة الهيكل والكتبة والفريسيين. فمن المستحيل أن قدوم ثلاثة أفراد وزيارتهم تحدث كل هذا القلق والدبكة في المدينة، خصوصاً أنهم الحكماء الذين يحملون حساباتهم الفلكية المؤكدة لزمن تحقُيق نجم المشرق الآتي معهم ويتبعون مساره منذ أن خرجوا من بلادهم قبل ميلاد الطفل السماوي بعامين،وساروا مهتديين بهذا النجم الساطع كل هذه المدة. 
 
فهم المطلعين على نبوآت التوراة عن ميلاد هذا الملك اليهودي العظيم وخصوصاً نبوءة ميخا النبي: { الذي يكون متسلطاً علي إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل} (ميخا 5: 2) وكلمة " مخارجه " تعني "أصله" أي أن أصله منذ " القديم الأيام "، والقديم الأيام دلالة على أزليته، هو لقب الرب الإله المذكور في سفر دانيال النبي ، هذا النبي الذي كتب سفره في السبي البابلي وسط مجتمع هؤلاء المجوس المشرقيين والذين كانوا يعلمون سفر دانيال وتلك النبوءة جيداً التي تكمل ما جاء بكتاب زرادشت.حيث حلم دانيال رؤيته التي أفزعته عن هذا الملك الذي هو ( مثل إبن الإنسان) ( دانيال7: 1، 13، 22 ) :
 
1 فِي السَّنَةِ الأُولَى لِبَيْلْشَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ، رَأَى دَانِيآلُ حُلْمًا وَرُؤَى رَأْسِهِ عَلَى فِرَاشِهِ. حِينَئِذٍ كَتَبَ الْحُلْمَ وَأَخْبَرَ بِرَأْسِ الْكَلاَمِ.
13 «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ.
14 فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ.
22 حَتَّى جَاءَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ، وَأُعْطِيَ الدِّينُ لِقِدِّيسِيِ الْعَلِيِّ، وَبَلَغَ الْوَقْتُ، فَامْتَلَكَ الْقِدِّيسُونَ الْمَمْلَكَةَ.
 
 ومن كل هذه النبوآت كتبوا حكماء المجوس حساباتهم الفلكية. وتحققوا من زمن نجم المشرق
 
- فكان المجوس أول من أدركوا عظمة هذا الطفل الذي إعتبروا الملك القادم ليحكم إسرائيل. الذي تحدثت عنه نبوآت كثيرة بتوراة اليهود، وعندما توقف النجم بهم فوق بيت لحم ،يقول الإنجيل عنهم: { وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَ وَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَأَوْا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا }(متى2: 9- 10)
 
أتت ذِكر قصة المجوس بالإنجيل وكانت من الأهمية القصوى رغم أنها لم تتعدى بضع سطور قليلة بالإنجيل. لتؤكد أن المسيح لم يأت فقط لبني إسرائيل بل أن أول من إحتفى به وفرح بميلاده وقدموا له هداياهم " ذهباً ولُباناً و مُرّاً" وهم شعوب الأمميين وأن أول من سجدوا له كملك هم المجوس الأمميون، وأول من عرفوا بخبره في أورشليم هم الرعاة الساهرين على ذبائح الهيكل حين اخبرهم ملاك الرب بالخبر وكانه يقول لهم أن دورهم في رعاية تلك الذبائح الحيوانية قد أنتهى لأن الله إفتقد شعبه بتجسده الإلهي ليصير هو الذبيحة الحقيقية التي ستبطل عمل الذبيحة الحيوانية، فإن الحقيقي يُبطل الرمز، والنور يبطل الظل. 
 
بينما السيد المسيح الذي وُلد في وطنه فقد كان بلا كرامة من شعبه.كما قال المسيح لهم، ولد فقير في مذود للبهايم ولم يلتفت أحد لمجيئه والمدينة نيام، ولم يكن مرحباً به في وطنه بل أراد هيرودس قتله قبل أن يكبر كي لا يسلبه كرسي مُلكه  كما خُيِّل إليه. وهو لا يعلم أنه الملك السماوي الذي مملكته ليست من هذا العالم. وعندما تحقق من المجوس أهمية هذه النبوآت والحسابات الفلكية لنجم المشرق فأمر بقتل كل أطفال بيت لحم! حتى أن الإنجيل يخبرنا عن يوم هذه المذبحة.( رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ) -متى2: 18
وهي النبوأة نفسها التي كتبها إرميا النبي 31: 5 قبل مئات السنين من التجسد الإلهي:
 « هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ، بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلاَدِهَا لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ. هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: امْنَعِي صَوْتَكِ عَنِ الْبُكَاءِ، وَعَيْنَيْكِ عَنِ الدُّمُوعِ، لأَنَّهُ يُوجَدُ جَزَاءٌ لِعَمَلِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجِعُونَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ. وَيُوجَدُ رَجَاءٌ لآخِرَتِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَرْجعُ الأَبْنَاءُ إِلَى تُخُمِهِمْ. َ».
 
قصة المجوس تدعونا للتأمل وكيفية التناقض بين إيمانهم العجيب عن ملك لا يخضعون لشريعة توراته ولا يؤمنون بأنه مخلص العالم، فقط رأوه ملكاً يستحق تقديم الهدايا والسجود له وهم ليسوا من شعبه، وعن زمن تحقق نبوآت توراية ونبوءة زرادشت وبين عدم إيمان اليهود أنفسهم بهذا الملك الماسيا الذي كم خاطبهم وأوحى لأنبيائهم بوعوده الإلهية قبل تجسده، وكم اخبرهم بما ذُكر من نبوآت في توراتهم !
تجسد المسيح وسط هذا الجو من الإرهاب والمذابح ومطاردات العالم له لم يكن وليد صدفة، فالإرهاب له أوجه كثيرة منذ بداية العالم ليتخفى فيها أبليس وقوات مملكة الشر السفلية، فلم يقتصر الإرهاب على أيامنا هذه فقط بل إرتبط بأطماع لعالم ومؤامرات قادة الكراسي والولاة والسلاطين منذ بدأ الخليقة. فلكل عصر فريسييه الذين يخشون هدم عروشهم و زوال كراسيهم.