بقلم: نبيل شرف الدين
كأنه أبو عبد الله الصغير، "آخر ملوك الأندلس المسلمين"، وكان ملكًا على غرناطة، وفي عام 1489 استدعاه فرناندو وإيزابيلا لتسليم غرناطة، ثم فرضا حصارًا محكمًا على المدينة. وبعد نحو ثلاث سنوات، وتحديدًا في يناير عام 1492 استسلم في مشهد درامي، تجسدت ذروته في المكان الذي ألقى منه نظرته الأخيرة على غرناطة وما زال الموقع معروفًا باسم زفرة العربي الأخيرة (el último suspiro del Moro) وبكى حزنًا على عرش تهاوى، وملك ضاع، فقالت له أمه عائشة الحرة عبارتها الشهيرة: "ابك كالنساء ملكًا ضاع لأنك لم تحافظ عليه كالرجال". خلال سنوات طويلة نشر عشرات الكتّاب والسياسيين في مصر ـ وكنت من بينهم ـ في صحف رصينة ومواقع موثوقة، نناشد ونحثّ أبا عبد الله الصغير، مبارك أن يستمع للناس، ويكف عن ممارسة التجاهل والاستعلاء وأن يخترق تلك الدائرة الشيطانية التي حاصرته، بعد أن أقنعته بأنهم خدمه المخلصون.
لكنهم كانوا "سجّانين" عزلوه عن ناسه وأهله، لهذا بدت على وجه مبارك في خطاباته الأخيرة ملامح الصدمة والذهول كأنه قادم للتّو من كوكب آخر.
كلهم باعوك يا أبا علاء، وليتك حتى تنازلت عن صلفك وعنادك وتصرَّفت بذات الضعف الإنساني، الذي دفع أبا عبد الله الصغير للبكاء على أطلال ملكه الزائل، لكنك أبيت إلا أن تتحدَّث بذات اللغة الخشبية، واللهجة المتعالية، فلم تذرف دمعة واحدة، ولم تستدر عطف أهلك ممن سلموك زمام الأمر ثلاثة عقود، فلم تكن أهلاً له، وكانت النتيجة أن تدول دولتك على نحو مهين، لم يحدث لحاكم مصري منذ عهد المماليك، الذي كانت آخر أيامك تجسيدًا له في أكثر مراحله انحطاطًا، حينما تفرغت حاشيتك للاقتتال فيما بينهم كما كان يحدث بين المماليك البحرية والبرجية، فكان أن انهار البيت من داخله.
ألم يكن من الحكمة أن تتحلى يا أبا علاء بقدر من التواضع تذرف معه دمعة صادقة؟ تبدي من خلالها بعض الندم عما اقترفته أنت وبطانة السوء التي اخترتها لتحاصرك بما تريدك أن تسمعه وتراه وتفهمه وتحبه وتكرهه، حتى بلغ الأمر بك أنك أصبحت مثل دمية بين أصابعهم، وسبحانه تعالى القائل في محكم آياته البيّنات "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ"، وهو ما حصل بالفعل، وأفضى بك لتلك النهاية المأساوية المزرية.
لعلك لو فعلتها وكنت صادقًا متصالحًا متواضعًا ولو لمرة وحيدة في حياتك، لربما كف الناس أياديهم عنك وسامحوك، لا سيما وأن المصريين عاطفيون متسامحون بطبيعتهم، وممن يتبنون مبدأ "عفا الله عما سلف"، بدلاً من لغة التحدي التي سعيت فيها لتبرئة نفسك وأسرتك من تهم التربّح واستغلال السلطة، بل بلغ بك الكبر والعناد حد التهديد بمقاضاة مَنتقديك، في خطاب استفزّ الملايين وعجّل في تقديمك للمحاكمة على نحو لا تقبله الذائقة الشعبية المصرية إلا مضطرة وعلى مضض، وحين يفيض بها الكيل.
ثلاث رصاصات أطلقت عليك، وعلى عهدك وتاريخك كله يا أبا علاء، الأولى خرجت من مسدس وزيرك المدلَّل حبيب العادلي، الذي تسامحت مع خطاياه وتجاوزاته، بينما كانت إقالة أسلافه من وزراء الداخلية أقرب إليك من حبل الوريد، أما الرصاصة الثانية فأطلقتها غوغائية حزبك "المزعوم"، حينما تفتَّق خيالهم الفقير المتواضع والوضيع عن فكرة خرقاء لمحاربة "الفيسبوك" بالإبل والخيل في "موقعة الجمل"، التي بدَّدت كل تعاطف محتمل معك، لخروج آمن مشرف، نصحك به رجل لم يكن يومًا من أعدائك، وأقصد الأستاذ عماد أديب، الذي أطلقت عليه الشتَّامين والرداحين لينهشوه، ولم يكن يقول إلا الحق.
وأخيرًا جاءتك الرصاصة الثالثة والأخيرة من "رفاق السلاح" حينما وجدوا أنفسهم مضطرين لرفع أياديهم عنك بعدما حشرتهم في الزاوية، ولم يعد بوسعهم سوى أن يقولوها لك صريحة: "لا نستطيع تقديم مزيد من الخدمات لفخامتك"، وانتهى الأمر بك وأسرتك بين سجون مصر ومشافيها، والقادم أسوأ.
على أية حال ليس من النُّبل ولا الشرف أن يتصرف الأحرار بروح الشماتة، ولا يسمح الفرسان لأنفسهم بأن تدفعهم شهوة الانتقام للتمثيل بـ"جثة"، فغاية ما يمكن قوله هنا أن نتعظ مما جرى وأن تكون نهايتك المؤسفة عبرة لمن ستقيِّض له الأقدار حكم مصر خلال المرحلة المقبلة، التي يُجمع العارفون بأحوال البلاد و"الكود الثقافي" للعباد، أنها مرحلة مفصلية بالغة الصعوبة والتعقيد، فخلالها ستتبلور خيارات الأمة المصرية بين منعطفات شتى، لعل أكثرها خطورة ووعورة هو سؤال الهوية، بمعنى هل نلوذ بالمظلة الأوسع والهوية الأشمل "الوطن"، كمرجعية لنا حينما نرسم ملامح النظام الجديد، أم سيرتد كل فريق لهويته الفرعية "دينية ـ مذهبية ـ عرقية.. الخ"، ليفضي بنا الأمر إلى الاقتتال الذي يفتح الطريق أمام شيطان الحرب الأهلية والتقسيم؟
"الطغاة يجلبون الغزاة".. قالها سعد الدين إبراهيم عقب إطاحة نظام صدام حسين وكال له الشتامون التهم حينها، ونقول إن الطغاة أيضًا يمهدون الأرض للبغاة من المتعصبين المسكونين بثقافة الكراهية، الذين يلعبون السياسة بمنطق "الغزوات"، ولا يرون في الكون سوى أنفسهم، وقد انفلتوا من عقالهم بعد أن أسهمت أجهزة الأمن السابقة في تمكينهم ضمن مخططات ساذجة لضرب تيار آخر، وهنا أقصد اختراع السلفيين لمواجهة الإخوان، حتى انتهى بنا المطاف كالمستجير من الرمضاء بالنار أو كما يقول المثل الشعبي "اللي ما رضيش بالخوخ.. يرضى بشرابه"، لكن المؤكد في الأمر أننا سنظل طويلاً نسدِّد فواتير عقود من الحكم الشمولي الذي جمع بين الفساد والاستبداد والانسداد، وبدأ منذ انقلاب العسكر عام 1952، وها هي كل المعطيات تؤدي إلى صورة ضبابية لا يعرف معها المرء إلى أين يمكن أن تؤول أحوال مصر في نهاية المطاف؟
هل سنتجه مثلاً إلى السيناريو التركي الذي يفصل بين السلطة السياسية "النسبية" والتعاليم الدينية "المطلقة"، ويستلهم تجربة الغرب المتحضر، ويلحق بركاب الأمم التي سبقتنا في سلم الارتقاء الحضاري والسياسي، أم أننا بصدد "نموذج هجين" يجمع بين نفايات التجارب الباكستانية والأفغانية والإيرانية والصومالية، وغيرها من الأنظمة التي تتجرع شعوبها كل صنوف القمع باسم قداسة السماء، وتحارب السلطة المتاجرة بالدين كل ما هو جميل في الحياة، من المرأة إلى الإبداع الأدبي والفنون المختلفة وحرية الفكر والاعتقاد واحترام حقوق الإنسان وحماية الأقليات وغيرها من القيم التي تشكل أرقى ما وصل إليه الضمير الإنساني من منظومة أخلاقية توافقت عليها الأمم المتحضرة، لأنها تكفل العيش المشترك بين كل البشر، وترى في التنوع ثراء وليس عداء، وتخوض المنافسات السياسية بروح المباراة، وليس بذهنية الغزوات وإلا فإن الجميع سيدفعون الثمن، وغاية ما يخشاه المرء أن يتعمد هذا الوطن بالدم.
والله المستعان