بقلم شكري بسطوروس – لوس انجيلوس
أياماً قليلة تفصلنا عن عيد الحب (Valentine Day) الذي يحتفل به الملايين حول العالم. وهو عيد ذو جذور مسيحية أذ أنه عيد استشهاد القديس فالنتاين (فالنتينو). كان كاهناً في الكنيسة الرومانية واستشهد على الارجح في 14 فبراير عام 269 م. حينها كانت المسيحية ديانة مُحَّرمة ومُجرَّمة في الدولة الرومانية. وبالتالي أُعتبر الانتماء إليها أو مساعدة اتباعها جريمة يستوجب مرتكبها القتل.
 
وبسبب الاضطهاد كانت القداسات واجتماعات العبادة تقام في سراديب تحت الارض او في اماكن سرية بعيدة عن الاعين. في ذلك الوقت كان ضمن واجبات القديس فالنتينو الخطرة ككاهن إتمام طقس سر الزيجة المقدس للشباب والشابات المسيحيين، الامر الذي اشتهر به وصار سبباً لارتباط اسمه - لاحقاً - بعيد الحب الذي انحرف به الكثيرون اليوم عن اصله المقدس.
 
فالكنيسة لا تعرف ولا تعترف في الحب بين رجل وامرأة إلا بالحب الزوجي اي الحب بهدف الزواج. اما اي علاقة لا تهدف إلى الزواج بل إلى التمتع الوقتي طال ام قصر، اتخذ هذا الشكل او ذاك فهي علاقة مرفوضة بسبب اضرارها النفسية والاجتماعية على طرفي العلاقة ومجتمعهما وبالتالي فهي خطية. بالطبع هذا لا ينطبق على علاقات الحب الاخوي بين الاقارب والاصدقاء من الجنسين.. ومع هذا يجب أن ينتبه الانسان بان يلتزم بالحدود المسيحية لهذه العلاقات في قداسة وكرامة. (تسالونيكي الاولي 4: 3- 9).
 
نعود لإستكمال حديثنا عن الأسس النفسية والاجتماعية للزواج المسيحي والتي تضمن استقرار الاسرة ككيان جمعي وكذلك الصحة والاستقرار النفسيان والاجتماعيان لكل اعضاءها فرادا. 

من هذه الاسس:
الاختيار الحر الواعى:
أي قبول كل من الزوجين للاخر بكمال وعيه وحريته واختياره دون ضغوط خارجية أو داخلية، ودون تعجل أو استعجال. وهو ما تعبر عنه الكنيسة بتتويج العروسين بأكليلين وكأنهما ملك وملكة يملكان قرارهما الحر الواعي بالزواج. فالوعي يسبق الحرية، ثم ان الحرية تستتبعها المسؤولية...
هذا يعني أن:
 
· يختار كلا الطرفين شريك الحياة بفهم وادراك واضحين لمعنى الزواج. وما سيترتب عليه من مسئوليات وتبعات والتزامات نهائية تمتد إلى نهاية العمر. 
· أن يكون لدى كل طرف قبولاً نهائياً للطرف الاخر الذي تعرف على شخصيته عن قرب وقبلها وأقتنع داخلياً بأنه الشخص الوحيد المناسب الذي يمكنه ان يكمل ما بقى من حياته معه، وأحبه بحيث لا يمكن ان يرضى عنه بديلاً. ويثق فيه بحيث يمكن ان يأتمنه ليس فقط على حياته بل على تربية ابناءه في المستقبل بمفرده لو لم يعش ليقوما معاً بهذه المهمة.
 
ولمزيد من التوضيح نقول: ان الحرية ليست فقط أن أتصرف بمعزل عن أي ضغط خارجي مباشر يُملي عليَّ سلوكي، فهذا هو الوجه الخارجي للحرية، وهو مرفوض تماماً في الزواج وفي غير الزواج. وأن حدث وان اُكرٍه احد الطرفين على الزواج، فإن الكنيسة تعتبره زواجاً باطلاً، كأنه لم يكن لأنتفاء احد اركانه الاساسية وهو توفر الارادة الحرة بمعزل عن اي ضغط خارجي.
 
لكن الحرية بمعناها الداخلي هي أن يأتي سلوكي معبراً عن كياني كله وليس عن أحد جوانب شخصيتي دون بقية الجوانب، فمثلاً قد يجد شاب نفسه مدفوعاً نحو فتاة معينة بشهوة او نزوة او مشاعر عارمة إلى حد أن تفرض هذه الشهوة او تلك المشاعر ذاتها عليه فرضاً، فلا يعود بإمكانه التحكم بها بل هي التي تتحكم به وتقوده ليتصرف بموجبها دون النظر إلى ما يقاومها ويرفضها من جوانب كيانه الاخرى(كضميره أو عقله أو روحه) بل قد تعطل قدرته على التفكير السليم والمحاكمة العقلية المتزنة... حينئذ لا يكون حراً بل عبداً لهذه الشهوة أو تلك المشاعر. فلا يكفي أن يتزوج شاب فقط ليخفف من الزخم الجنسي الواقع تحته أو لأنه تعرف على بنت جميلة ورشيقة ذات ابتسامة ساحرة، او لأنها اجتماعية وخفيفة الظل، أو لأنها غنية ومن بيت دون النظر للجوانب الاخرى للشخصية!! فالهوى شريك العمى. وذات مرة سأل احدهم المتنيح قداسة البابا شنودة: "لماذا يتم الطلاق لأتفه الاسباب؟"فاجاب: "لأن الزواج يتم لأتفة الاسباب!" 
 
فالحرية الحقة هي التي تصدر عن شخصية ناضجة مستقرة نفسياً اي مستقرة القناعات النفسية والعقلية، شخصية واعية مسئولة تدرك ذاتها وتعرف ما تريد سعياً لتحقيق صالحها. ان مسالة الاختيار الحر الواعي لا يقوم بها إلا انساناً ناضجاً.. فمثلاً لا يصلح اتخاذ قرار الزواج اثناء فترة المراهقة او بعدها بقليل حيث انها مرحلة تذبدب نفسي وعقلي وتغير مستمر بتجاه النضج نتيجة النمو وتراكم خبرات الحياة. 
 
بل يجب ان يصل كل من الشخصين المقبلين على الزواج إلى النضج النفسي (يضبط سلوكه بحسب قناعاته) والعقلي (تقدير سليم للامور)والروحي (علاقة حية بالله دليلها ان يجد لذة في البذل) والنضج المادي (ضروري للرجل على الاقل بأن يكون لديه عمل يكسب منه ما يكفي لتدبير بيته) بالاضافة طبعا للنضج الجسدي اللازم للزواج.كل انواع النضج السابقة ضرورية حتى يكون كل منهما واعياً ومسئولاً عن اتخاذ قرار الزواج المصيري بكامل حريته.
كما لا يجوز الاستعجال في اتخاذ قرار الزواج حيث لا تتوفر فرصة لفهم كل طرف للاخر فينتفي شرط الاختيار الواعي، فكما يحدث في احيان كثيرة هنا في امريكا، ينزل شاب إلى مصر في اجازة لمدة شهر بغرض الزواج ولابد ان يرجع وقد ارتبط بخطوبة، وليتعرفا على بعضهما “on line”لكي يتمكن من الزواج في الاجازة التالية، هذا لا يتفق مع الاختيار الواعي المسئول.
 
أيضاً لكي يكون الاختيار حرا وواعيا ومسئولاً، يجب ان يكون هناك صلاة ومشورة ووقت كافى للتفكير لكلا الطرفين. فهذا الاختيار سيترتب عليه ان يشارك كل طرف الطرف الاخر ما تبقى من حياته الزمنية بحلوها ومرها.. بل ويشاركه ايضا البعد الابدي لهذه الحياه بالجهاد الروحى المشترك... محتملاً معه مسئوليات جسام بلا إمكانية للتراجع. 
 
الالتزام المتبادل النهائي :
الزواج المسيحي قائم على الإلتزام المتبادل بين الزوجين التزاماً نهائياً حتى الموت "أخطبك لنفسي إلى الأبد.وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب." (هوشع 2: 19، 20) وبالتالي "فان المراة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحي ولكن ان مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل. فاذاً ما دام الرجل حيا تدعى زانية ان صارت لرجل اخر ولكن ان مات الرجل فهي حرة من الناموس حتى انها ليست زانية ان صارت لرجل اخر. " (رومية 7 : 2 ،3) .
 
فالزواج المسيحي قائم على إلتزام كل من الزوجين بالآخر وكلاهما بالأطفال مهما تغيرت ظروف احد الزوجين النفسية أو المزاجية أو العقلية أو الصحية أو الجسدية أو المادية. لأننا لابد ان نتغير مع الزمن وقد يتغير البعض سريعاً جداً او بصورة مفاجئة! ومع هذا يظل التزام الزوجين المملوء حباً متبادلاً ودائماً: "اما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يرضي امراته... واما المتزوجة فتهتم في ما للعالم كيف ترضي رجلها." (كورنثوس الاولى 33:7، 34) 
امران فقط ينحل بسببهما هذا الالتزام: حياة الزنا او ترك الايمان. عن السبب الاول يقول لنا السيد المسيح: "إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني." (متى 5 :32) أما عن ترك الإيمان فنقرأ "لأن الرجل غير المؤمن مقدس في المرأة، والمرأة غير المؤمنة مقدسة في الرجل. وإلا فأولادكم نجسون، وأما الآن فهم مقدسون.ولكن إن فارق غير المؤمن، فليفارق. ليس الأخ أو الأخت مستعبدا في مثل هذه الأحوال.." (كورنثوس الاولى 7: 14، 15) "لا تكونوا تحت نير (= شركة = رابطة) مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟" (كورنثوس الثانية 6: 14) فلا انفصال إلا لهذين السببين.
 
ولكن احد المشكلات الكبرى التي تواجه الانسان المعاصر هي صراعه بين الحرية والالتزام، رغم ان الشخص الذي يرى حريته تتناقض مع التزامه إنما لديه مشكلة في نضجه النفسي. فهذه حرية مرضية مرتبطة بأنانية مرحلة الطفولة، اي حرية غير ناضجة نابعة من التمركز حول الذات، كان من المتوقع التخلص منها مع انتهاء مرحلة المراهقة. ذلك لأن الحرية الحقيقية هي ملازمة للمسئولية، فلا حرية بدون مسئولية. فالمسؤولية تعني الالتزام الطوعي. من اهم الفلسفات التي شرحت الحرية الفلسفة الوجودية. وهي تري ان الاختيار البشري هو عملية ذاتية، فنظراً لأن البشر يختارون بحرية فإنهم "مسؤولون" تماماً عن اختياراتهم وبالتالي فإن الحرية تقترن بالمسئولية. ومع ذلك تُعدُّ المسؤولية من وجهة نظر الوجودية الجانب المظلم للحرية.
 
فيحاول بعض البشر الهروب بتجاهل أو إنكار حريتهم ومسؤوليتهم، أي إنكار موقفهم الحقيقي بانهم احرار، وبهذا ينجحون فقط في خداع أنفسهم. في حين يرفض البعض الاخر هذا الخداع الذاتي، ويصرون على قبول المسؤولية الكاملة عن سلوكهم مهما كانت هذه المسؤولية صعبة. اما الكتاب المقدس فيعلمنا المسئولية والالتزام الطوعي الممزوجين بالمحبة تجاه الاخرين هكذا: "فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا. فليرض كل واحد منا قريبه للخير، لأجل البنيان. لأن المسيح أيضا لم يرض نفسه.." (رومية 15: 1- 3)
وللحديث بقية.