د. توفيق أكليمندوس
شئنا أم أبينا، فى مصر تقف الفلسفة وأهلها فى قفص الاتهام ويحاكمهم أهل العلوم الدينية. والمحكمة تحظى بتأييد قطاعات واسعة من الأهالى، تشكل غالبا أغلبية ساحقة، ولكن التعسف فى استخدام النفوذ تسبب فى تزايد عدد المستاءين من هذا الوضع. وأهل الفلسفة متهمون بتهم عدة منها الإلحاد ومنها «التمنطق» أى تحويل العقل البشرى إلى صنم، ومنها العمل على قلب الوضع ليصبحوا هم المحكمة ورجال الدين المتهمين.

ويقول أهل الفلسفة إن الوضع موروث، وينتمى إلى عصور ولت بخيرها وشرها، وأن لا تقدم ولا رقى ولا نهضة دون سيادة للعقل. وقبل أن أستمر أشرح للقارئ وضعى الشخصى، منعا لتأويلات واتهامات، عقلى مؤمن بدينى باستمرار، قلبى متذبذب وحاليا مؤمن، موقفى من قضية «من يحاكم من» مع أهل الفلسفة قلبا وقالبا وأعرف كيف استفاد أهل اللاهوت بنقدهم وأفكارهم وحديثهم، ولكننى أتصور أننى متفهم لدوافع ومحددات مواقف رجال الدين، وأراها مشروعة، ولكننى أرى أن الكثيرين منهم فى مرحلتنا الحالية عالة على قضيتهم يسيئون إليها.

يزعجنى التنديد المستمر بالعصور الوسطى، أميل مع أهل الفلسفة إلى القول أن هذا العصر ولى وأن منظومته الفكرية تعجز عن فهم الواقع المعاصر، لإصرار الكثيرين من رجالها على تجاهل تأثير الثورات العلمية على المنظومة الذهنية، وعلى النفس البشرية، وإصرارهم على قراءة واقع معاصر شديد التعقيد – ومثير لقلق أى مؤمن وأى عاقل- بأدوات ومفاهيم لا تسمح بالفهم والتوقع والتحرك الرشيد.

ولكن العصور الوسطى ليست كما يصورها أعداء رجال الدين المعاصرين. هى ليست عصور «ظلام» – ولا عصور «تنوير»، لا يوجد اليوم فطاحل من عينة الفارابى وابن تيمية وابن رشد وأبى حامد الغزالى، أو توما الأقوينى، أو ابن ميمون. وموقف الرافض منهم للفلسفة مبنى على معرفة حقيقية متعمقة لمقولاتها – علينا الإقرار بهذا سواء ذهبنا مذهبهم أم نددنا به.

المشهد الحالى يرى ميل الكثير من أهل الدين إلى توسيع نطاق ما هو من الثوابت وما هو مطلق، وما هو غير خاضع للمناقشة، وفى المقابل يميل الكثير من أهل الفلسفة إلى التضييق من نطاق المطلق، ويرون إما أن الأصل أن الأمور متغيرة ونسبية، وإما أن الدين نطاق الثوابت والمطلق فى حين أن السياسة مجال النسبى والمتغير، ويرون أن النقد والحوار النقدى بدون قيود شرطان ضروريان للنهوض والتقدم.

كلمة «نسبية» تحتاج إلى تحديد. قد تعنى أن لا أحد يستطيع أن يرى الصورة كلها ويلم بكل أبعاد ظاهرة. أقصد أنها قد تعنى «نعم هناك حقيقة ولكن المرء لا يدركها كاملة وفهمنا لها يختلف عن فهم غيرنا لها»، قد تعنى أن فى بعض المجالات والمسائل لا توجد أصلا حقيقة تفرض نفسها أو رد حاسم ولن يوجدا، وقد تعنى أن معنى مفهوم ما يتغير من عصر لآخر... تأمل على سبيل المثال مفهوم المخاطر، قبل الثورة الصناعية المخاطر مفهوم يشير إلى الحادثة أو الحوادث غير المتوقعة التى تؤثر سلبا على مسار أو حياة الفرد. اليوم المفهوم أكثر تعقيدا، لأن شركات التأمين قادرة على توقع عدد الحوادث السنوية وتبنى حساباتها على هذا الأساس. القيادات العسكرية تستطيع أن تتوقع حجم خسائرها فى عملية ما..إلخ، وأخيرا قد يتغير تقييمنا لفرد أو لكائن أو لشىء مع تغيير المجموعة التى نقيس على أساسها، سيتغير تقييمى للمستشار الألمانى، إن قارنته بمعارضيه سأقول شيئا، إن قارنته بأسلافه قد أقول العكس، الخ. وهناك معان أخرى لكلمة نسبية، بعضها خاص بالعلوم الطبيعية وبعض آخر بالعلوم الإنسانية.

ما هو مؤكد أن مقولة «كل الأمور نسبية» تناقض نفسها. لأنها تقول إن النسبية أمر مطلق. وأن مقولة «كل الأمور مطلقة» لا معنى لها وتثير السخرية.

إضافة إلى ذلك، أرى أنه لا يمكن القول إن الدين لا يعرف ما هو نسبى والسياسة لا تعرف ما هو مطلق، وأفضل أن أقول إن العلاقة بين المطلق والنسبى تختلف فى المجال الدينى عما هى فى المجال السياسى. وفى المجالين تختلف هذه العلاقة من عصر إلى آخر ومن ظرف إلى غيره. وفى كل الأحوال تلعب كفاءة الفاعلين وتوجهات الرأى العام دورا ما.

حاليا نعيش مرحلة تشهد ثورات علمية وتكنولوجية متسارعة، وتتعاقب الأزمات الاقتصادية والصحية والمناخية والسياسية، وتتكاثر المخاطر المهددة لكيان الدول والشعوب، وتزداد حدة التحديات الأمنية وتتنوع، وهناك تطورات فى ثقافة الناس، أهمها أن التقدم العلمى بات مثيرا للخوف بعد أن كان مصدر آمال عظيمة، والكثير منها ناتج عن تفاعلات مع شعوب وثقافات أخرى، أو عن تدهور الأحوال المعيشية، وهى تطورات تدفع الكثيرين إلى طرح سؤال الهوية، وإلى البحث عن ردود سهلة قاطعة، تؤله وتشيطن، وتمنح إطارا يسمح بالتعامل مع العالم ومع الآخر.

كل هذا يدفع الفريقين إلى تصلب فى مواقفهم، ومما يزيد الوضع سوءا تدهور مستوى التعليم فى مصر وغياب الرغبة والقدرة على فهم أمهات الكتب ورفض فكرة ملحة – ضرورة فض الاشتباك بين المقدس والعلم، فلكل منهما مجاله، وهو سيد فيه، ومنطقه هو الواجب اتباعه، لن يقول لى طبيب كيف أعبدالله وكيف أعامل الآخر، ولن يقول لى قسيس كيف أعالج ورما سرطانيا، وطبعا سيقر البعض بضرورة هذا الفصل دون أن يفكر جديا فيما هو لازم لتحقيقه، وعلينا الإقرار أن هناك مجالات تزاحم فيها السياسة الدين – أو العكس.