هذه الأحداث من تاريخ مصر تثبت أن
العرب حينما دخلوا مصر بالسيف لم
يكن ذلك بغرض فتحها وتبشير أهلها
الأقباط بالإسلام وحمايتهم- فهذه
الأكذوبة للأسف الشديد قد صدَّقها
وما زال يصدِّقها غالبية مسلمي
مصر.. كلا، بل كان بدافع أطماع
استعمارية لنهب ثرواتها والسيطرة
على شعبها- كإحدى خطوات طموح غزو
بلاد العالم والسيطرة على العالم
كله.. وهو ما يحقق التعريف الدقيق
لمفهوم الاستعمار السياسي..
ومنها نفهم أسباب استعلاء عرب
السعودية وجاراتها على المصريين..
ومن هنا أطالب كل المحدثين من
المؤرخين باستبدال الكلمة
المزيّفة "الفتح الإسلامي لمصر"
بالكلمة الدقيقة "الغزو العربي
لمصر"- إحقاقاً للحق وطلباً
لعودة كرامة المصريين التائهة وسط
زيف الألفاظ..
أنقل أحداث تلك الحقبة التاريخية
عن الكاتبة والمؤرِّخة "سناء
المصري" كما ذكرتها في كتابها
"هوامش الفتح العربي لمصر":
قضية أهل الحرس
كان إسلام القبط يعفيهم من بعض
المظالم، ولكنه لا يفتح لهم باب
الاندماج الكامل في حياة العرب
ولا يسمح لهم بحالة التساوي
الكامل معهم.. وظل الأصل القبطي
مُداناً وكأنه وصمة تطارد صاحبه
حتى بعد إعلان إسلامه، ودخوله
الحياة الجديدة في وضع أدنى مرتبة
من السادة ذوي الأصل العربية
والعنجهية القبلية.
وقد أُثيرت تلك العنصرية السلالية
فيما يسمَّى بـ "قضية أحل الحرس"
التي شغلت الرأي العام المصري
زمناً طويلاً (185 – 194 هجرية)..
وأهل الحرس هم جماعة من القبط
المصريين الذين أسلموا، ورغبوا في
أن يتساووا مع العرب في جميع
الأوضاع الاجتماعية، فكتبوا
لأنفسهم نسباً يعود إلى "حوتك"-
إحدى القبائل العربية.. فثارت
عنصرية عرب مصر، ورفضوا أن يُنتسب
غير عربي إليهم.. وتحرّش العرب
بهؤلاء القوم وآذوهم.. فجمع أهل
الحرس من بينهم نقوداً ودفعوها
إلى القاضي "العمري" ليثبت لهم
نسباً عربياً، وأتوا ببعض أعراب
الحوف الشرقي ليشهدوا معهم أن
نسبتهم إلى بني حوتكة من قضاعة..
وقبل القاضي العمري شهادة عرب
الشام، وسجّل لهم نسباً بذلك..
فثار عرب مصر، وقام الشعراء يهجون
القاضي وأهل الحرس..
ويقول أحدهم ويُدعى "يحيى
الخولاني"
ومن أعجب الأشياء أن عصابة
من القبط فينا أصبحوا قد
تعرّبوا
وقالوا أبونا حوتك،
وأبوهم
من
القبط علج حبلهِ يتذبذبُ
وفي البيت الثاني (حبله يتذبذب)
إشارة إلى التمييز في الملبس الذي
كان يَفرِض على قبط مصر أن يربط
الرجال والنساء زناراً في وسطهم
بالإضافة إلى التمييزات الأخرى في
اللون ونوع الملابس.
ويقول آخر "معلى بن المعلى
الطائي" موجهاً حديثه للقاضي
العمري الذي أثبت لهم هذا النسب
العربي
إن كنت قد
ألحقتهم
عرباً فزوِّجهم بناتك
وفى ذلك إشارة إلى استحالة زواج
القبطي من المرآة العربية وحتى
إذا أسلم القبطي وسقط حاجز اختلاف
الدين، فإن الصعوبة أو الاستحالة
ظلت قائمة لزمن طويل لتكشف عن
العنصرية القبلية وليست العنصرية
الدينية فقط.
ويمكننا أن نلمس بعض الاختلاف بين
موطن العرب الشماليين والعرب ذوي
الأصول الجنوبية بالنسبة لأهل
الحرس، فيذكر "الكندي" أن العرب
اليمانيّة ومَن ينتمي منهم إلى
قبيلة قضاعة بالذات هم الذين
وقفوا إلى جانب أهل الحرس
واعترفوا لهم بنسب عربي، أو بمعنى
آخر لم يكن عندهم غضاضة من قبول
فكرة مساواة القبط معهم في شتّى
مناحي الحياة وفي إمكانية
الاختلاط والانصهار والتزاوج
واختلاط الأنساب والتساوي في
المجالس وإرتياد أندية العرب
ومواضع الشورى لديهم.. خصوصاً وأن
بداية التداخل والجوار الحسن قد
بدأت بين هؤلاء العرب اليمانيّة
الذين كانوا يحتلّون أسفل قاعدة
ديوان العطاء ويحصلون على أقل حصص
الأموال المستنزَفة من مصر، لأنهم
كانوا من الجند ذوي المرتبات
الأقل بل والتي أخذت في الانخفاض
والتلاشي أكثر فأكثر بفعل تحيّزات
الولاة وسوء سياستهم، حتى انتهى
الأمر بهؤلاء العرب ذوى الأصول
الجنوبية إلى تفضّل الإقامة في
المرابع والاشتغال بزراعة الأرض
ومجاورة القبط.. ولم يكن لدى
هؤلاء العرب ذوي الأصول الجنوبية
والمُضارين من عنصرية عرب الشمال
غضاضة في التساوي مع أهل الحرس.
وظل الأمر مَثاراً للخلاف
والشِجار حتى تولّى القاضي
"البكري" أمر القضاء (194- 196
هجرية) ومال إلى رأي عرب الشمال
في عدم صحة نسب أهل الحرس، ودعاهم
إلى دار القضاء.. ويروي "الكندي"
في كتابه "الولاة والقضاة" ص 414
أنهم حينما ذهبوا إليه (أخرج
البكري مقراضاً من تحت مصلاه فقطع
قضية العمري قال لهم: العرب لا
تحتاج إلى كتاب من قاضِ، إن كنتم
عرباً فليس ينازعكم أحد).. وألغى
البكري حُكم القاضي الذي سبقه
ومزَّق الشهادة التي تثبت هذا
النسب..
ففرح العرب المتعصِّبون، وأخذ
شعراؤهم ينشدون أشعاراً تهجو
القبط جميعاً وتُحطّ من شأنهم..
فيقول "معلى الطائي" الذي سبق
وسبَّهم
يا بني البظراءِ موتوا
كمداً واسخنوا عيناً
بتخريق السجِل
لو أراد الله أن
يجعلكم من بني
العباسِ طُراً لفعِل
لكن الرحمن قد صيّركم
قبط مصر ومن القبط سفِل
كيف يا قبط تكونوا عرباً
وَريَس أصلكم شر الجيل
وقال "يحيى الخولاني"
أشكروا الله على إحسانه
فله الحمد كثيراً والرُغَب
رجع القبط إلى أصلهم
بعد خزي طوّقوه وتعب
ودنانير رشوها قاضياً
جائراً قد كان فينا يغتصب
وقال "طاهر القيسي" يمدح القاضي
البكري
ولقد قمعت بني الخبائث عندما
راموا العُلى وتحَوتَكوا
وتعرَّبوا
فرددتُهم قبطاً إلى
آبائهم ونسيبَ
أصلِهمُ الذي قد غيَّبوا
وتركتهم مثلاً لكل مُلصقِ
نسباً إذا إلتقت المحافل
يضربُ
وبعد انتهاء قضية أهل الحرس بنفي
أصولهم العربية، لم تهدأ ثائرة
العرب ضد أقباط مصر الداخلين في
الإسلام بل إحتدَّت النبرة أكثرة
من زمن المأمون بعد القضاء على
ثورات الحوف الشرقي وقمع قبطها
وعربها ذوي الأصول الجنوبية.
قضية الثلاثين رجل من مسلمي القبط
في أثناء ولاية "لهيعة بن عيسى"
على القضاء قرَّب منه عدداً من
مسلمي القبط وإتّخذ من بعضهم
مساعدين له.. فأسند كتابة القضاء
إلى "سعيد بن تليد"- وكانت كتابة
القضاء في ذلك العهد مَن أسمى ما
يصبو إليه الفقهاء، كما إتّخذ
شهوداً جعلهم بطانته منهم "معاوية
الأسواني" و"سليمان بن برد
"وغيرهما في نحو من ثلاثين
رجلاً..
مما أثار العرب ضد هذا القاضي وضد
مسلمي القبط الداخلين في مجال
العمل الفقهي والشرعي أو قدس
الأقداس العربي الإسلامي.. ونظم
الشعراء القصائد المعبِّرة عن هذا
الموقف الجمعي الرافض، وتصاعد
سخطهم حتى شمل القبط جميعاً..
وأخذ الشعراء يحطّون من شأن القبط
مرة أخرى، كما حدث في قضية الحرس
السابقة..
فيقول الشاعر "أبو شبيب أنيس بن
دارم"
قبَّح الله زماناً
رَأَس فيه ابن تليد
بعد مقراضِ وخيطِ
وأُبَيراتِ حديد
وأبو الزنباغ خناق
غراميل العبيد
بعد سيفِ خشبى وسهام من
حديد
وابن تدراق الأفا نين
البَليدَينِ التليد
وابن بكار كراكير وغطّاس
الثريد
وأبو الروس المريسى بن
دبّاغ الجلود
واللقيط ابن بكير نطفهُ
القم الطريد
وابن سهم حارس الجيزة
حلوان البريد
عصبة من طينةِ النيلِ ميامين
الخدود
لبسوا بعد التبابين
نفيسات البرود
لازموا المسجد ضلاً لا من
الأمرِ الرشيد
لحوانيتَ بنوها بفنا
كل عمود
وتسوموا وتكنّوا بعد
جُرجِ وشنود
فالقضية -إذاً- ليست قضية
الإسلام، وليست قضية إختلاف
الأديان.. فقد دخل أهل الحرس
الإسلام، ودخل الثلاثون رجلاً
المحيطين بالقاضى لهيعة بن عيسى
الإسلام وأتقنوا اللغة العربة
كأبنائها ونبغوا في علوم الفقه
والتفسير وغيرها من العلوم
العربية وتبنّوا الثقافة العربية
قلباً وقالباً، وصاروا نموذج
المصري الحامل للعقل العربي
الوافد.. ولم يشفع لهم كل هذا، بل
أصرَّت الروح القبلية المتعصِّبة
على أن تضعهم في مرتبة أدنى.
رغم أن العرب كانوا يسكنون أرض
القبط، وينعمون بثروات القبط،
ويأكلون مما يزرع القبط.. إلا أن
شعراءهم يعبِّرون عن ترفُّع العرب
على سائر القبط ومهنهم، وكأنه من
المسلَّمات الطبيعية أن يعمل
القبط للعرب ويكونون في مرتبة
الخدم.. فكيف يخرق القبط هذه
النواميس ويزاحمون العرب في
مكانتهم الشَرَفية !!! |