بقلم
شنودة ميخائيل
قارئى
العزيز ! هناك شىء فى نفسى أود أن أعترف به ... وهو
أننى عندما هممت أن أعنون هذه الدراسة تملكتـنى
الحيرة ... وكان لزاماً على أن أختار من بين ثلاثة
عناوين ... الأول منها هو " محاكمة
أمير المؤمنين " , والثانى " العاص فى قفص
لاتهام ",
أما الثالث فهو عنواننا الحالى ... وبعد أن أرهقتنى
الحيرة ... وجدتنى أعنونها بعنوانها الحالى , ليس
لأنه هو الأنسب من بين هؤلاء الثلاث , ولكن لأن هدف
جريدتنا الكريمة ليس إلصاق التهم بأحد " حتى ولو
حقيقة " ولكن هدفها الرئيسى هو تحرير الهوية القبطية
من كل ظلم وافتراء ... فحرصاً من جريدتنا الغراء
على مواصلة عملها الدءوب لتحرير الهوية القبطية من
كل ما يلصق بها من مظالم وافتراءات ... نرى أنه من
واجبنا التصدى لمثل هذه الأكاذيب , التى ما هى إلا
محاولات لتشويه الحقائق , وتزييف التاريخ ... وإحدى
هذه التهم الملفقة والتى ألصقت بالأقباط وببطريركهم
البابا ثاؤفيليس البطريرك الـ ( 23 ) من سلسلة
باباوات الإسكندرية , بأنهم أحرقوا مكتبة الإسكندرية
... ففى يوم الأربعاء الموافق 16 أكتوبر من عام
2002م. , وعلى هامش افتتاح مكتبة الإسكندرية الجديدة
سنت الأقلام , وجلجلت الألسن معلنة حرق الأقباط
وبطريركهم البابا ثاؤفيليس لمكتبة الإسكندرية
القديمة ... وها هنا نحن نقوم بعرض دراسة مبسطة
ودقيقة ووافية لهذا الحدث , مؤكدين براءة الأقباط
وبطريركهم من هذه التهمة التى هى بحق جريمة فى حق كل
إنسان يستقى من نهر العلم , بعد أن أصبح العلم
للإنسان كالماء والهواء ... ومنوهين عن المرتكب
الحقيقى لهذا الجرم فى حق التاريخ والعلم والإنسانية
, ومدعمين أقوالنا بالعديد من كتابات أشهر المؤرخين
والكتاب العرب والمسلمين ... وليس لنا هدف من هذه
الدراسة لإلصاق التهم بأحد بعينه , وإنما يكمن هدفنا
الحقيقى فى نزع تهمة التصقت بالأقباط وببطريركهم ,
ومحاولة منا لكسر كل قلم , وإسكات كل لسان يتطاول
على الأقباط بأى تهمة دون دليل أو سند , بهدف تشويه
التاريخ وتزييف الحقائق ... ما هى القيمة العلمية
لمكتبة الإسكندرية ؟! بداية .. وإمعاناً فى تجريد
الحقيقة وإصراراً فى الضغط على الجرح ليس بهدف الألم
, ولكن بهدف الكشف عن جسامة الجرم وهول المأساة التى
لحقت بالإنسانية , سنورد لمحة تاريخية مختصرة عن
قيمة تلك المنارة الثقافية والصرح العلمى , والتى
كانت تعد على الإطلاق أعظم إنجازات العقل البشرى فى
تاريخ العلم والثقافة والأدب , والتى كانت هى بحق
أعظم كنز جادت به محافل العلم ... فلقد قام
الإمبراطور بطلميوس الأول ( المعروف باسم سوتير ) فى
عام ٢٨٨ قبل الميلاد بتأسيس هذه المكتبة , وعهد إلى
" ديميتريوس الفاليرى " بمهمة الإشراف والتنفيذ ...
ولقد كان هذا الصرح العلمى يتكون من أكاديمية للعلوم
، ومركز للأبحاث ، ومكتبة تضم ما يقرب من ٠٠٠,٧٠٠
لفافة ، أى ما يعادل أكثر من ١٠٠.٠٠٠ كتاب من الكتب
الحديثة المطبوعة ... ولقد كانت هذه المكتبة تضم
ثلاثة مبان هى ... 1 - المكتبة الأم ... وتقع فى
الحى الملكى للمدينة , وكان بها النسخ الأصلية
للمجلدات. 2 - مكتبة صغيرة ... وتقع فى معبد
الإلهة سيرابيس إلهة العبادات الدينية بالإسكندرية ,
والمسمى " معبد السرابيوم " ويقع فى القسم الجنوبى
من المدينة , وكان بها نسخ منسوخة عن المجلدات
الأصلية التى فى المكتبة الأم. 3 - مبنى إضافى
لتخزين الكتب ... وكان يقع على الميناء فى القسم
الغربى من المدينة وهو المعروف باسم " الحي الشعبى
". ولقد أتى إلى هذه المكتبة بهدف تبادل الأفكار
بل والدراسة فيها أيضاً أعظم مفكرى وفلاسفة وشعراء
وعلماء العالم من كل مكان وفى كل مجال , بل وهم من
يرجع إليهم الفضل فى إرساء قواعد الحضارة والمعرفة
فى شتى فروع العلم ... ويمكن على سبيل المثال
وليس الحصر أن نسرد بعضاً من أهم الأسماء التى يرجع
لها الفضل فى تثبيت وترسيخ قواعد العلوم الحديثة ممن
أتوا ودرسوا فى مكتبة الإسكندرية. ومن أمثلة هؤلاء
... 1 - أريستارخوس أول من اكتشف بأن الأرض تدور
حول الشمس ، وذلك قبل ١٨٠٠ عام من اكتشاف كوبرنيكوس
لهذه الحقيقة. 2 - إيراتوسثينس وهو أول من أثبت
أن الأرض كروية ، وحسب محيط الكرة الأرضية بدقة
مذهلة. كما تحدث عن إمكانية الإبحار حول العالم ،
وذلك قبل ١٧٠٠ عام من قيام كولومبوس برحلته الشهيرة
والتى اكتشف فيها أمريكا. 3 - هيبارخوس وهو أول
من وضع أطلس للنجوم ، وحسب السنة الشمسية بدقة. 4
- الشاعر اليوناني العظيم كاليماخوس الذى يعد هو أول
من وضع فهرس للكتب مقسمة تبعاً لمواضيعها ومؤلفيها ،
ولذلك اعتبر كاليماخوس أباً لعلم المكتبات "Library
Science". 5 - إقليدس وهو الذى وضع مبادئ علم
الهندسة التى مازالت تدرس حتى الآن فى جميع المدارس
حول العالم. 6 - هيروفيلوس وهو أول من حدَّد بأن
المخ هو العضو المتحكم في جسم الإنسان ، بادئاً بذلك
عصراً جديداً فى مجال الطب. 7 - مانيثو وهو أول
من حدَّد تواريخ حكام مصر الفراعنة وقسَّم التاريخ
المصري حسب الأسرات ، وهو ذات التصنيف الذي نستخدمه
حتى يومنا هذا. 8 - زينودوتيس وهو الذى وضع مع
علماء اللغة ، أُسس علوم الأدب ، مع تحرير ونقد دقيق
للكلاسيكيات ، وعلى وجه الخصوص إلياذة هوميروس
الشهيرة، والأوديسا. 9 - بالإضافة إلى 72 مترجماً
متخصصاً من علماء هذه المكتبة قاموا بترجمة العهد
القديم لأول مرة من العبرية إلى اليونانية ( وهو
النص الشهير المعروف باسم السيبتوجينت – أو الترجمة
السبعينية للتوراة ) وهو الذى حدث فى الفترة من (
253 – 246 ق.م. ) بدعوة من الإمبراطور بطليموس
الثانى والمعروف باسم ( فلادلفيوس ) ( 284 – 246
ق.م. ) , وقد أشرف على هذه الترجمة ديمتريوس
فاليريوس وهو المسؤول عن المكتبة. 10 - كما تمتد
قائمة الأسماء العظيمة وأعمالهم الخالدة إلى ما لا
نهاية ... وتتضمن علماء عظاماً من أمثال ديوفانتس ،
وأبولونيوس ، وهيرون ، بالإضافة إلى العلماء
الزائرين مثل أرشيميدس. ولقد استمرت هذه "
المكتبة " قرابة العشرة قرون فى القيام بأهم وأعظم
الأعمال الثقافية والتعليمية بل والتنويرية فى كل
أرجاء المسكونة , ولتكون بمثابة منهل يروى الفكر
ويشبع القلب ويرضى النفس ... هكذا وبعد هذا
العرض المختصر الذى أخرج لنا هذا الكشف الثمين عن
الكنز الدفين بين طيات عبق التاريخ الكامن فى تلك
المكتبة , يمكننا الآن أن نكشف عن الكيفية التى تم
بها إطفاء وطمس ذاك الكوكب المنير. حرق
المكتبة. تعرضت مكتبة الإسكندرية للحريق ثلاثة
مرات , بالإضافة إلى مرتين أخرتين تعرضت فيهما لبعض
أعمال التخريب وليس الحرق ... كانتا المرتان
الأوليتان على غير عمد , أما المرة الثالثة والأخيرة
وهى التى كانت عن عمد وقصد ( سبق الإصرار والترصد )
, وهو نتيجة للجهل بالقيمة الثقافية والعلمية لهذا
الصرح العظيم. وإن كانتا المرتين الأوليتين لم يمحيا
المكتبة , إلا أن المرة الأخيرة هى التى كانت
كالإعصار الذى التهم كل شئ فى طريقه دون تميز بين
الصالح والطالح , وهى التى محت وطمست كل ما يرنو
بصلة قريبة أو بعيدة لذاك النجم اللامع والذى كان
يضئ به اسم مصر عبر التاريخ فى كل أرجاء
المسكونة. ويمكننا الآن أن نسرد تلك المراحل
الثلاثة التى مر بها حريق مكتبة الإسكندرية بالتفصيل
فيما يلى :- المرة الأولى. وقعت الكارثة
الأولى للمكتبة في عام ٤٨ قبل الميلاد ... وتبدأ
القصة عندما دخل يوليوس قيصر مصر وكانت هناك حرب على
السلطة بين كل من كليوباترة , وأخيها بطليموس الثالث
عشر ... فوقف يوليوس قيصر إلى جانب كليوباترة وانتصر
على بطليموس , الأمر الذى أدى إلى ثورة المصريين
بثورة عارمة ضد يوليوس قيصر لأنه ناصر كليوباترة ...
وهكذا وجد يوليوس قيصر نفسه محاصراً فى البر من
المصريين , وفى البحر من أسطول بطليموس , حيث قطعت
إمدادات المياة عن قواته التى كادت أن تهلك عطشاً ,
ولكى يخرج من هذا المأزق , قام بإشعال النيران فى كل
السفن الراسية على الميناء , ولقد كان هذا الحريق
هائلاً لدرجة أن امتدت ألسنة اللهب إلى الكثير من
المبانى المحيطة بالميناء , وكان من ضمنها مخزن
المكتبة فى المبنى الواقع على الميناء فى القسم
الغربى من المدينة وهو المعروف باسم " الحي الشعبى "
... أى أن الذى أحترق فى هذه المرة هو المبنى الخاص
بتخزين الكتب ( وليس المكتبة الأم ). ولم يكن هذا
الحريق قد أضر المكتبة بقدر ما عاد إليها بالنفع ...
حيث أن مارك أنطونيو عندما دخل مصر وتزوج بكليوباترا
, وإيماناً منه بقيمة مثل هذه المكتبة لمصر التى
كانت هى منارة الثقافة والعلم للعالم أجمع , أهدى
لها المائتين ألف لفافة التى كانت موجودة فى مكتبة "
برجاما " ( أحد مدن آسيا الصغرى ) على سبيل التعويض
للخسائر الفادحة التى نجمت عن الحريق بمكتبة
الإسكندرية. فباتت مكتبة الإسكندرية أعظم قدراً
وأكثر شهرة عن ذى قبل. المرة الثانية. والمرة
الثانية التى تعرضت فيها مكتبة الإسكندرية للحريق ,
كانت فى عصر الإمبراطور المسيحى ثيؤديسيوس الكبير (
378 – 395 م. ) . وكان لهذا الإمبراطور دوراً كبيراً
فى نشر المسيحية وإرساء قواعدها ... حيث أصدر هذا
الإمبراطور عام 381 م. مرسوماً بجعل المسيحية هى
الديانة الرسمية للبلاد , وتم تحويل أكثر من 400 من
المعابد الوثنية إلى كنائس. وكان معبد السرابيوم "
معبد الإلهة سيرابيس " أحد هذا المعابد. وتبدأ
هذه القصة عندما رأى الوثنيين أن معابدهم تتحول إلى
كنائس ... شعروا بالحقد والضغينة على المسيحيين ...
فقاموا بإشعال الحرائق داخل المعبد حتى لا يستولى
المسيحيين على تراثهم ولا يتسنى لهم الاستفادة بشئ
من محتوياته ... وكان ضمن محتويات هذا المعبد "
المكتبة الصغرى " فطالها الحريق. ولقد كانت هذه
المكتبة تضم نسخ من المجلدات الموجودة فى المكتبة
الأم , ولم تكن هى نسخ أصلية ... " وربما هذا ما
يدعيه بعضاً من الكتاب غير المدققين , بأن المسيحيين
وعلى رأسهم البابا ثاؤفيلس البطرك الـ ( 23 ) من
باباوات الإسكندرية فى عام 391 م , وبأمر من
الإمبراطور ثيؤديسيوس المسيحى ... هم الذين أحرقوا
المكتبة " ولكن فى حقيقة الأمر ما هذا إلا
مغالطة تاريخية , حيث لا يمكن للمسيحيين أن يحرقوا
المكتبة وذلك للأسباب الآتية : 1 – إن أعمال
العنف المتمثلة فى الحرق والنهب والسلب وحمل السيوف
هى ليست من مبادئ المسيحية ولا من ثمار الإيمان
المسيحى التى هى محبة فرح سلام. 2 – كان
المسيحيون يقدرون العلم والفلسفة , بل وصل بهم حد
التقدير أن حسبوا فلاسفة الوثنيين فى عداد الأنبياء
, واعتبروهم هم أنبياء الوثنية , رغم أن كتاباتهم
ومعتقداتهم تخالف , بل وفى بعض الأحيان تعارض وتهاجم
الكتابات والمعتقدات المسيحية. 3 – لقد ضمت
المكتبة بعد دخول المسيحية العديد من الكتب المسيحية
, فهل يعقل أن المسيحيين يحرقوا تراثهم الدينى أو
كتبهم المقدسة , خاصة وأن هذه المكتبة هى أول من قام
بترجمة العهد القديم من الكتاب المقدس من اللغة
العبرية إلى اللغة اليونانية ( وهى المسماة بالترجمة
السبعينية Septuagint ). 4 – إن ما تم حرقه فى
هذه المرة هو المكتبة الصغرى وليست المكتبة
الأم. 5 – يذكر ثلاثة من أهم المؤرخين القدامى
وهم سوزومين , وثيودريت , وروفينوس بأن المكتبة كانت
موجودة فى القرنيين الرابع والخامس. أى بعد التاريخ
المذكور. 6 – فى بحث عن معبد السرابيوم
بالإسكندرية أعده البابا كيرلس مقار بطريرك الأقباط
الكاثوليك والذى كان رئيساً للمجمع العلمى المصرى
بالانتداب ... ذكر بأن مكتبة الإسكندرية لم يحرقها
الإمبراطور الرومانى , ولم يخربها البابا ثاؤفيلس
... بل أن طوال القرن الخامس وحتى أواخر القرن
السادس كانت المكتبة موجودة. 7 – ذكر بعض
المؤرخين أنه عندما أتى الفرس لغزو مصر وأرادوا دخول
الإسكندرية ... ( أن طالباً من إقليم البحرين اسمه "
بطرس " كان مقيم بالإسكندرية حيث كان يدرس العلم فى
مكتبة الإسكندرية الشهيرة ... هو الذى أرشد الفرس
إلى مواطن الضعف فى سور المدينة ليدخلوا منه ) ...
وعلى هذا فإن مكتبة الإسكندرية كانت مازالت موجودة
وتقوم بدورها حتى الغزو الفارسى , أى قبيل الغزو
الإسلامى ببضعة سنوات. 8 – ذكر بتلر فى كتابه (
فتح العرب لمصر ... ترجمة محمد فريد أبو حديد )
عندما كتب عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين يصف له
مدينة الإسكندرية , فكتب يقول ... " ... ولنصف
بعد ذلك السرابيوم وهو طائفة من الأبنية ذات جمال
رائع كان لها أثر عظيم فى نفوس العرب ...
". ولنرى من هذا أن السرابيوم كان موجود وقت
الغزو العربى لمصر. وعلى هذا فما يجب أن نركز
عليه هو أن الأقباط لم يحرقوها ( المكتبة الصغرى ) ,
بل أن الوثنيين أنفسهم هم من قاموا بحرق المكتبة حيث
كانت ضمن محتويات المعبد الذى أشعلوا فيه النيران.
وبالإضافة إلى هذا فإن ما حرق من المكتبة هو المكتبة
الصغرى , فى حين أن المكتبة الأم والرئيسية كانت لا
تزال موجودة ولم يمسسها أى ضرر لوقوعها داخل الحى
الملكى. ولكن تم حرقها بالكامل على يد عمرو بن العاص
بناء على فتوى من عمر بن الخطاب إبان الغزو الإسلامى
للبلاد كما سيجئ بالتفصيل فى المرحلة
التالية. المرة الثالثة. كما سبق وذكرنا بأن
المكتبة تعرضت للحريق على ثلاث مراحل , وشمل الحريق
الأول مخزن المكتبة , وطالت ألسنة نيران المعبد فى
الحريق الثانى المكتبة الصغرى ... أما الحريق الثالث
فهو ما كان عن عمد وقصد , وقد تناول المكتبة
الرئيسية أو المكتبة الأم ... وهو ما حدث فى منتصف
القرن السابع الميلادى وبالتحديد فى عام 642 م. ,
حيث قام أبن العاص بناء على فتوى من الخليفة عمر بن
الخطاب أمير المؤمنين بإحراق هذا الصرح العظيم وأشعل
النيران فى أمهات الكتب , وهى التى لا يدرك قيمتها
العظيمة إلا من نهل من نهر العلم والثقافة , ليجور
على حق البشرية فى أن تسير فى النور مهتدية بمصباح
العلم الذى يبدد غياهب الظلام من حولها , لتسقط
الإنسانية فى هوة سحيقة من الجهل والظلام
العلمى. وقبل أن نعرض لتفاصيل هذا الحادث المروع
سأقتبس بعضاً من أقوال المؤرخين والكتاب المسلمين
لكى تكون لنا خلفية تاريخية عما سنتحدث عنه , أو
بلغة المعماريين تكون حصيرة نبنى عليها أسس الحديث
... وأول هؤلاء هو العلامة ابن خلدون فى كتابه (
مقدمة ابن خلدون ) حيث يقول فى ص 194 كاشفاً الستار
عن بعض خصال العرب ... " العرب إذا تغلبوا على
الأوطان أسرع إليها الخراب والسبب فى ذلك إنهم امة
وحشية باستكمال عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم
خلقاً وجبلة ... " ثم يقول لنا فى موضع أخر من
نفس الكتاب عن خصال العربى ... " ... انه لا يطيق
أن يرى حضارة مزدهرة وانه يميل إلى تخريبها كلما
سنحت له الفرصة , وكان الجنود الذين صحبهم عمرو بن
العاص فى فتوحاته فى مصر من البدو القح الذين لم
تهذبهم الحضارة والمدنية بعد , ومن ثم فإنهم لم
يقدروا الكتب والمكتبات حق قدرها ". كما أنه يكشف
لنا عن سابقة للعرب فى حرق الكتب فيقول ... " ...
أن للعرب سابقة حرق جميع كتب الفرس بإلقائها فى
الماء والنار ... " ... الأمر الذى يؤكد وصمة العاص
فى حرق مكتبة الإسكندرية. ثم تأتى الدكتورة سناء
المصرى وتقول فى كتابها ( هوامش الفتح العربى لمصر ص
120 ) .. " ربما كان الحرق أو التهديد بالحرق
أكثر وسائل عمرو بن العاص الموجهة ضد مقاومة العزل
من سكان المدن.. ". ويستكمل الصورة الدكتور شعبان
خليفة فى كتابه ( مكتبة الإسكندرية الحريق والإحياء
ص 107 ) فيقول ... " ... وأنظر إلى صلاح الدين
الأيوبى نفسه عندما أمر بتدمير المكتبات الفاطمية فى
مصر سواء بيت العلم أو مكتبات القصور , وكيف أن
جنوده كانوا ينزعون جلود الكتب ليصنعوا منها نعال
وأحذية لهم , ونفس صلاح الدين الأيوبى فعل بمكتبات
الشام نفس ما فعله بمكتبات مصر , حتى قيل أن
المجموعات التى دمرها قد بلغت فى مصر والشام نحو
أربعة ملايين مجلد ". والآن !!! وبعد تلك المقدمة
التمهيدية التى لعلها تكشف لنا عن بعض الخصال التى
تميز بها العرب إثناء غزواتهم التى فتحوا بها البلاد
يمكننا أن نستعرض تفاصيل هذا الحادث كما دونه عظماء
مؤرخى العرب والمسلمين ... 1 – كان أول من تعرض
لحرق العرب لمكتبة الإسكندرية هو الرحالة الفارسى
والطبيب المشهور عبد اللطيف البغدادى الذى عاش فى
الفترة ما بين ( 557 - 622 هـ. ) ... وقد زار هذا
الرحالة مصر فى نهاية القرن السادس الهجرى , وكتب عن
أثار مصر وحوادثها فى كتاب أسماه ( الإفادة
والإعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة فى
مصر ) ففى ص 28 من هذا الكتاب , كتب هذا الرحالة
ويقول ... " ... وأرى أنه كان الرواق الذى يدرس
فيه أرسطو طاليس وشيعته من بعده وانه دار العلم التى
بناها الإسكندر حين بنى مدينته وفيها كانت خزانة
الكتب التى أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر رضى الله
عنه ". ولعل ذكر البغدادى لهذا الحادث بهذا الشكل
المختصر دون تفاصيل , يدل على أن هذه القصة كانت
شائعة ومتداولة فى هذا العصر , وليس هناك ما يدعو
للخوض فى تفاصيل. 2 – ثم يأتى ابن القفطى وهو
مؤرخ مسلم مصرى عاصر البغدادى , وقد ولد فى مصر
بمدينة قفط وعاش فى الفترة ما بين ( 565 – 646 هـ. )
وقد تعرض ابن القفطى للحادث بشىء من التفصيل فى
كتابه ( أخبار العلماء فى أخيار العلماء ) وهو ما
ذكره جورجى زيدان فى كتابه ( التمدن الإسلامى ص 42 –
43 ) ... وكانت البداية عندما علم يوحنا الفراماطيقى
وكان هذا أحد علماء الروم القاطنين بالإسكندرية ,
حيث علم بأن ابن العاص ينوى حرق المكتبة , فتقدم
إليه وطلب منه أن يمنحه محتويات المكتبة من لفائف
ورقوق. حيث كان يوحنا قد اعتزل الحياة وانكب على
الدراسة والمطالعة , وهو الذى يعرف بحق قيمة هذه
الثروة العظيمة. فظنه العاص معتوهاً لأنه يبحث عن
أوراق بالية. فكتب ابن القفطى يقول ... }} قال
يحى النحوى للعاص ( يقصد به يوحنا الفراماطيقى ) ...
" انك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل
الأجناس الموصوفة الموجودة بها , فأما ما لك به
انتفاع فلا أعارضك فيه , وأما ما لا نفع لكم به فنحن
أولى به , فأمر بالإفراج عنه " , فقال عمرو ...
" وما الذى تحتاج إليه ؟ " , قال ... " كتب
الحكمة فى الخزائن الملوكية , وقد أوقعت الحوطة
عليها ونحن محتاجون إليها ولا نفع لكم بها ... وهذه
الكتب لم تزل محروسة , محفوظة ... " , فقال عمرو ...
" لا يمكننى أن أمر فيها إلا بعد استئذان أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب " , وكتب إلى عمر وعرفه بقول
يحى الذى ذكر واستأذنه فى ما الذى يصنعه بها , فورد
عليه كتاب عمر يقول فيه ... " وأما الكتب التى
ذكرتها فإن كان ما فيها ما يوافق كتاب الله ففى كتاب
الله عنه غنى , وان كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا
حاجة إليها . فتقدم بإعدامها " , فشرع عمرو بن العاص
فى تفريقها على حمامات الإسكندرية وإحراقها فى
مواقدها , وذكرت عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا
أنها استنفذت فى مدة ستة أشهر , فاسمع ما جرى وأعجب
" {{ 3 - وهذه القصة أيضاً يؤكدها المؤرخ العربى
أبو الفرج المالطى فى كتابه ( مختصر الدول ص 180 )
فكتب ... }} قال يحى النحوى للعاص ... " لقد رأيت
المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف ولست أطلب
إليك شيئاً مما تنتفع به بل لا نفع له عندك وهو
عندنا نافع " , فقال له عمرو ... " ماذا تعنى
بقولك ؟ " , قال يحى ... " أعنى بقولى ما فى خزائن
الروم من كتب الحكمة " , فقال عمرو ... " إن ذلك أمر
ليس لى أن أقتطع فيه رأياً دون إذن الخليفة " , ثم
أرسل كتاباً إلى عمر يسأله فى الأمر , فأجابه عمر
قائلاً ... " وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما
جاء بها يوافق كتاب الله فلا حاجة لنا به , وإذا
خالفه فلا إرب لنا فيه . فإحرقها " , فلما جاء هذا
الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوزعت على حمامات
الإسكندرية لتوقد بها , فمازالوا يوقدون بها ستة
أشهر, فاسمع وتعجب " {{ 4 – ثم يعرض لنا أيضاً
المؤرخ المسلم العربى الشهير ( المقريزى ) فى كتابه
( المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار ) فى
حديثه عن عمود السوارى فى ص 159 فكتب يقول ... "...
إن هذا العمود من جملة أعمدة كانت تحمل رواق
أرسطاطاليس الذى كان يدرس به الحكمة وانه كان دار
علم وفيه خزانة كتب أحرقها عمرو بن العاص بإشارة من
عمر بن الخطاب رضى الله عنه ... ". * لقد ذكر
المستشرق جيبون Gibbon بأن عدد الحمامات التى تغذت
على مكتبة الإسكندرية طيلة ستة أشهر كان أربعة آلاف
حمام ... فلك أن تتخيل الكم الهائل من الكتب التى
تظل تتغذى عليها أربعة آلاف حمام طيلة ستة أشهر ...
كم يكون ؟؟؟ ". ومن الدلائل التى يدعم بها
كتابنا فى العصر الحديث هذه الحقيقة كما رآها
المؤرخين ما يلى :- 1- يقول د. شعبان خليفة فى
كتابه ( مكتبة الإسكندرية الحريق والإحياء )
... " إن عمر بن الخطاب يمكن أن يكون فعلاً قد
أصدر تعليماته المذكورة بحرق المكتبة والكتب
باعتبارها من تراث الوثنية , وقد أراد بحسه الدينى
أن يجنب المسلمين كل ما يفتنهم فى دينهم ... " ,
وقال أيضاً ... " تردد فى المصادر المختلفة حالات
إحراق المكتبات على يد المسلمين فى بلاد أخرى غير
مصر ... " , كما قال أيضاً فى موضع أخر من نفس
الكتاب ... " إن سلوك المنتصر فى كل العصور بعد
الانتصار العسكرى أن يأخذ فى تدمير فكر المهزوم حتى
لا تقوم له قائمة بعد ذلك أبداً ويكون ذلك إما
بإحراق وسحق الكتب والمكتبات أو نقل تلك الكتب إلى
بلد المنتصر ". 2 - يقول لنا عبد الخالق سيد أبو
رابية فى كتابه ( عمرو بن العاص بين يدى التاريخ )
... " إن إحراق الكتب كان أمراً معروفاً وشائعاً
, يتنقى به كل مخالف ممن خالفه فى رأيه , وذكر بأن
عبد الله بن طاهر أتلف فى سنة 213 هـ. كتباً فارسية
من مؤلفات المجوس ... ". 3 - ويقول حاجى خليفة فى
كتابه ( كشف الظنون فى أسامى الكتب والفنون )
... " أن العرب فى صدر الإسلام لتعلقهم وخوفهم من
تسلط العلوم الأجنبية على عقولهم كانوا يحرقون الكتب
التى يعثرون عليها فى البلاد التى يفتحونها
". وقال أيضاً فى نفس الكتاب ... " إن العرب
فى صدر الإسلام لم يقنعوا بشىء من العلوم إلا بلغتهم
وشريعتهم ". كما قال أيضاً فى موضع أخر من نفس
الكتاب ... " إن المسلمين عندما فتحوا بلاد فارس
وأصابوا من كتبهم , كتب سعد بن أبى وقاص إلى عمر بن
الخطاب يستأذنه فى شأنها ... فكتب إليه عمر " أن
اطرحوها فى الماء فإن يكن بها هدى فقد هدانا الله
تعالى بأهدى منه وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله
تعالى فاطرحوها فى الماء أو فى النار فذهبت علوم
الفرس فيها ". * وكما هو معلوم للجميع بأن عثمان
بن عفان قام بحرق جميع نسخ القرآن من قبل , وانه
استبقى نسخة واحدة. اعتراض على حرق العرب
للمكتبة. وهناك بعضاً من الكتاب المسلمين غير
المدققين ممن يعارضون القول بأن العرب هم الذين
أحرقوا مكتبة الإسكندرية , مدعين بأن هذه قصة خيالية
, لأن يوحنا النحوى كان قد توفى قبل هذا الحادث ...
ولكن ابن النديم ( كما يقول د. كمال فريد فى كتابه
.. مكتبة الإسكندرية لم نحرق المكتبة ... أثبت بأن
يوحنا الذى عاصر حادث إحراق العرب للمكتبة ليس هو
ذاته يوحنا الذى توفى قبل هذا الحادث وإنما شخص أخر
غيره يحمل نفس الاسم ).
" وهكذا
طمست بل اندثرت كل معالم المكتبة وخيمت أستار الظلام
فى كل أرجاء المسكونة وتلاشى اسم مصر
رويداً رويداً حتى كاد أن يمحى عن خرائط العالم
"
ولا يسعنى
وأنا أسطر هذه السطور الأليمة ليس فى حق مصر وحدها
بل فى حق العالم بأسره , إلا أن أختتم هذه الدراسة
المبسطة بما ذكره الأستاذ أسامة أنور عكاشة الكاتب
الروائى والأديب المعروف فى قوله ... " إن عمرو
بن العاص هو أحقر شخصية عرفها التاريخ ...
" ويمكن لمن يريد الاستزادة أن يطلع على المصادر
التالية ... 1- عبد الطيف البغدادى ( الإفادة
والإعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة فى
مصر ). 2 - أبو الحسن على بن القفطى
.......................... ( أخبار العلماء فى
أخيار العلماء ). 3 - أبى الفرج المالطى
...................................................
( مختصر تاريخ الدول ). 4 - المقريزى
................................... ( المواعظ
والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار ). 5 - ابن خلدون
.................................................................
( مقدمة ابن خلدون ). 5 - د. حسن إبراهيم
...........................................................
( عمرو بن العاص ). 6 - د. شعبان عبد العزيز
خليفة .................... ( مكتبة الإسكندرية
الحريق والإحياء ). 7 - عبد الخالق سيد أبو رابية
........................ ( عمرو بن العاص بين يدى
التاريخ ). 8 - سناء المصرى
............................................. (
هوامش الفتح العربى لمصر ). 9 - د. إبراهيم نصحى
...................................... ( تاريخ مصر
فى عصر البطالمة ). 10 - حاجى خليفة
.............................. ( كشف الظنون فى
أسامى الكتب والفنون ). 11 - جورجى زيدان
..........................................................
( التمدن الإسلامى ). 12 - د. كمال فريد اسحق
........................... ( مكتبة الإسكندرية لم
نحرق المكتبة ). 13 - عزت اندراوس
..................................................
( موسوعة تاريخ الأقباط ). 14 - عادل فرج
........................................... (
الإسكندرية منارة الشرق والغرب ). 15 - ألفرد .ج
. بتلر ................. ( فتح العرب لمصر ...
ترجمة محمد فريد أبو حديد ). 16 - جيبون
............................................. (
اضمحلال وسقوط الدولة الرومانية ). 17 - جوستاف
لوبون
...........................................................
( حضارة الشرق ). 18 - سيريو
.........................................................................
( تاريخ العرب ). 19- لويزا بوتشر .. ( تاريخ
الكنيسة المصرية ... ترجمة د. ميخائيل ميكسى اسكندر
). 20 - الأنبا ديسقورس
.................................................
( موجز تاريخ المسيحية ). 21 - القمص أنطونيوس
الأنطونى ................... ( وطنية الكنيسة
القبطية وتاريخها ). 22 - القس منسى يوحنا
.............................................. (
تاريخ الكنيسة القبطية
). |