المجامع المسكونية (3)

بدعة نسطور:
بقلم/ سوزان قسطندي
14 ديسمبر 2006

ولد نسطور (نسطوريوس) في مدينة جرمانيقية (وهى الآن مرعش بشمال سوريا)، وترهَّب في دير قرب أنطاكية (أنطاكية تقع في شمال غرب سوريا على ضفاف نهر العاصي قرب مصبه، إلا أنها منذ عام 1939م أصبحت خاضعة لولاية هاتاي التركية)، واشتهر بالفصاحة وأظهر نبوغاً في الدفاع عن الإيمان القويم ضد هرطقات أريوس وأبوليناريوس، فانتخبه الإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير (408- 450م) بطريركاً على القسطنطينية عام 428م.. فلما عظم شأنه سلك بالكبرياء والعظمة كل مسلك، وكان يوماً يعظ في الكنيسة فوجه خطاباً نحو الملك قائلاً: "استأصل أيها الملك معي الهراطقة وأنا أستأصل معك جنود الفرس وأملِّكك فوق ذلك جنة خلد"..
فلم يلبث مدة حتى سقط في هرطقة شنيعة أقلقت الكنيسة زمناً وما زالت أذيالها حية حتى الآن - حتى قال بعضهم "أن نسطور حارب جميع الهرطقات ليمهد السبيل إلى هرطقته" - ومؤداها إنكار +ألوهية المسيح، وابتدأ فيها بإنكار كون السيدة العذراء والدة الإله إذ قال: "إني أعترف موقناً أن كلمة الله هو قبل كل الدهور إلا أني أنكر على القائل بأن مريم والدة الإله فذلك عين البطلان لأنها كانت امرأة والحال أنه من المستحيل أن يولد الله من امرأة ولا أنكر أنها أم السيد المسيح إلا أن الأمومة من حيث الناسوت"، وهو بذلك قسَّم السيد المسيح إلى شخصين (طبيعتين) معتقداً أن الطبيعة الإلهية لم تتحد بالإنسان الكامل وإنما ساعدته في حياته فقط، وتجرأ على أن يستقطع من الثلاث تقديسات بالقداس الإلهي العبارة التي تدل على ولادة الله من العذراء..
فلما انتشرت هذه البدعة، رفض مؤمنو القسطنطينية تعاليم أسقفهم الغريبة وبدأوا يثورون ضده لكنه أمعن في عناده، فحضر بعض الرهبان ومثلوا أمامه وأبانوا له خطأ تعاليمه وانحرافه عن الإيمان القويم فثار عليهم وأمر بحبسهم في الكنيسة كما أمر خدامه بضربهم وإهانتهم.. وحالما سمع البابا كيرلس بطريرك الإسكندرية (24) (412- 444م) بهذه البدعة كتب يُفنِّدها ويثبت التعليم الصحيح وأرسل رسائل كثيرة لنسطور، لكنه على الرغم من كل هذا لم يتنازل عن آرائه.. ولما رأى البابا كيرلس أن الإمبراطور ثيئودوسيوس يدافع عن نسطور ويحامي عنه لاعتباره رجلاً فاضلاً عالماً كتب إليه رسالة يوضح له فيها ضلال نسطور ويشرح فيها سر التجسد..
استمر البابا كيرلس في كفاحه ضد النسطورية فكتب يفنِّد هذه البدعة في رسالته الرعوية التي أصدرها على عيد القيامة عام 428م والتي أرسلها من الكرسي المرقسي إلى جميع الكنائس في كل مكان..
ولما وقف القديس كليستينوس أسقف رومية على حقيقة الأمر عقد مجمعاً بروما عام 430م حرم فيه تعليم نسطور وهدد بحرمه من شركة رومية إن لم يعد إلى الإيمان المستقيم، وحرر رسائل إلى كيرلس الإسكندري وبعض أساقفة الشرق يطلب منهم إقناع نسطور بالرجوع عن آرائه، وعُقد مجمعاً بالإسكندرية قُرئت فيه كل رسائله وحُكم بصحتها وحُررت رسالة لنسطور فيها كيف ينبغي أن يؤمن..
ثم وضع القديس كيرلس اثنى عشر بنداً يشمل كل بند منها على قضية إيمانية وحرم كل من يعمل بخلافها، وهى معروفة باسم "حرومات القديس كيرلس" The Anathemas of SR. Cyril وبعث بها إلى نسطور طالباً إليه التوقيع عليها، غير أنه رفض وقابل ذلك بكتابة بنود ضدها تؤيد بدعته وساعده في ذلك بعض أساقفة كرسي أنطاكية من معتنقي بدعته.. ولما انتشرت رسائل البابا كيرلس في القسطنطينية اقتنع بها الشعب وأبغضوا نسطور للغاية وانضموا للبابا كيرلس.. وهكذا انقسمت الكنيسة إلى قسمين: كنائس روما وأورشليم وآسيا الصغرى وقفت بجانب القديس كيرلس الإسكندري، وكنيسة إنطاكية انحازت إلى نسطور..
مجمع أفسس المسكوني الثالث عام 431م لمواجهة بدعة نسطور:
وافق الإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير على عقد مجمع مسكوني بناءً على طلب البابا كيرلس الإسكندري وإكليروس القسطنطينية، وأمر بعقد المجمع في مدينة أفسس (مكانها الآن خرائب أفيس التركية) عام 431م مرسلاً رسائل دعوة إلى جميع أساقفة العالم..
ويعتبر مجمع أفسس هو ثالث وآخر المجامع المسكونية المُعتَرَف بها من جميع كنائس العالم شرقاً وغرباً..
بدأ المجمع انعقاد جلساته في شهر يونيو من هذا العام (وكان القيصر قد حدد يوماً لافتتاحه يوم عيد العنصرة، بالكنيسة الكبرى بأفسس)..
وكان عدد الحاضرين 200 أسقف، واختير البابا كيرلس الإسكندري لرئاسة المجمع.. وأرسل أسقف روما نواباً عنه..
حضر مع البابا كيرلس خمسون أسقفاً مصرياً، كما حضر معه القديس الأنبا شنوده الإخميمي رئيس المتوحدين والأنبا بقطر السوهاجي الراهبين..
ودافع القديس كيرلس الإسكندري عن سر التجسد الإلهي، مستشهداً بشواهد إنجيلية وبكتابات القديس أثناسيوس الرسولى عن "تجسد الكلمة" متمسكاً بالتعبيرات اللاهوتية: "طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد"، و"سر تجسد ابن الله قائم في اتحاد لاهوته مع ناسوته في أقنوم الكلمة الأزلي بدون انفصال ولا امتزاج ولا استحالة"، "لاهوت ابن الله لم يفارق ناسوته لحظة واحدة منذ اللحظة الأولى للحَبَل الإلهي"، و"السيدة العذراء هي والدة الإله (ثيئوطوكوس)"..
وتم وضع مقدمة قانون الإيمان "نعظمك يا أم النور الحقيقى.. إلى آخره"..
(ووُضعت عبارة "بالحقيقة أؤمن أن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين" في صلاة القداس الإلهي)
وتم حرم نسطور وتعاليمه الفاسدة..
وتقابل وفدان يمثلان الفئتين المختلفتين مع الإمبراطور في مدينة خلقيدونية - لأنه لم يكن حاضراً جلسات المجمع، بل أن مندوباً عنه كان حاضراً وكان موالياً لنسطور وقد أتعب الآباء الأرثوذكسيين كثيراً - وبعد مباحثات طويلة اقتنع الإمبراطور بصحة أحكام المجمع فثبَّتها وأمر بنفي نسطور بعيداً عن القسطنطينية.
كما تم حرم بيلاجيوس وبدعته (وكان قساً بريطانياً ادعى أن خطيئة آدم قاصرة عليه دون نسله وأن الإنسان قادر بقدراته الطبيعية على الوصول إلى أسمى درجات القداسة دون الحاجة إلى معونة الله).
كما وضع المجمع في جلساته الختامية ثمانية قوانين لسياسة الكنيسة.. مقرراً في الستة الأولى منها توقيع الحرم على كل من ينحرف عن الإيمان القويم ويشارك نسطور في معتقده الفاسد، مع قبول كل من يرذل هذه التعاليم النفاقية، وأن ما يجريه الأساقفة المنحرفون من رسامات تعتبر باطلة.. وفى القانون السابع تحذير وحرم كل من تسول له نفسه أن يعبث بقانون الإيمان الذي وضعه الآباء بزيادة أو نقص.. أما القانون الثامن فقد حدَّد سلطة كل من الأساقفة كما حرَّم على الأسقف أن يعتدي على حقوق غيره أي أن لا يتدخل في أيبارشية خارج دائرته.
نهاية نسطور، وذيول النسطورية:
نُفى نسطور إلى ديره الأول علَّه يرتدع، فلم يقلع بل صار ينفث سمومه بين رهبان ذلك الدير، فقرر الإمبراطور نفيه إلى إخميم بصعيد مصر عام 435م.. وأخيراً مات هذا الشقي بغوايته عام 440م إذ قيل أنه لشدة يأسه كسر رأسه، وقيل في رواية أخرى أن آفة أصابته في لسانه فأكله الدود عقاب كونه قد جدَّف على المسيح.
لم تمت النسطورية بحرم نسطور ولا بموته - وإن كانت قد ضعفت كثيراً - إذ كان في الرها (بالعراق) مدرسة شهيرة تشبَّث معلموها وتلامذتها بتعاليم نسطور ونشطوا في نشرها.. ولما طردهم أسقف المدينة هربوا إلى مدينة نصيبين (بشمال شرق سوريا) ومعهم بعض الكهنة، وهناك شيَّّدوا لهم مقراً وشرطنوا رئيساً عليهم أطلقوا عليه لقب "جاثليق"، وظل مركزهم ينشر ضلالهم في بلاد فارس وأشور والأناضول والهند حتى وصلت الصين.. وما زال فريق منهم إلى الآن منتشراً في جبل سنجار على حدود العجم (سنجار الآن تقع الى الغرب من محافظة نينوى شمال العراق وهى منطقة جبلية سياحية) وفى ملبار بالهند..
(وحتى اليوم ما زال أناس يتبعون النسطورية ولا يزيد عددهم عن النصف مليون وهم النساطرة والأشوريين ويقطن أغلبهم في إيران والعراق).
أعمال وكرامة البابا كيرلس الأول:
لقَّبته الكنيسة بلقب "الكبير"، ولقب "عامود الدين"، و"مصباح الكنيسة الأرثوذكسية".. لجهاده العظيم في محاربة بدعة نسطور، وفى حفظ الإيمان المستقيم..
يُحكى أن الجلسة الأولى لمجمع أفسس استغرقت من الصباح إلى المساء، وقد مكث الشعب الأفسسي النهار كله منتظراً حكم المجمع، وحالما أَُعلن الحكم بحرم نسطور ووصفه بـ "يهوذا الثاني" أخذوا يصيحون "ليحيى كيرلس عضد الإيمان" و"ليحيى الأساقفة الشرفاء المحامون عن لاهوت سيدنا يسوع المسيح وعن الأمومة الألوهية لمريم البتول"، ثم أن الشعب أوقدوا شموعاً ورافقوا الآباء إلى منازلهم وكانت النار تُوقَد كالنجوم في الشوارع واستمر الشعب يُسبِّحون الليل كله.
كتب كتباً عديدة جليلة الشأن في تفاسير الكتاب المقدس، وفى الثالوث الأقدس، وفى التجسد، وفى العبادة الروحية، وفى تفنيد تعاليم الوثنيين والهراطقة..
رتَّب القداس الإلهي الذي وضعه مار مرقس الرسول، ولذلك نُسِب إليه، وهو المعروف الآن بـ "القداس الكيرلسي"..
________________________________
المراجع:
تاريخ الكنيسة القبطية - القس منسى يوحنا
تاريخ الكنيسة القبطية – إصدار كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل وما رمينا بستاتين إيلاند بنيويورك
الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة - للأسقف الأنبا إيسيذورس

جميع الحقوق محفوظة لـ دراسات مصرية، موقع تابع للأقباط متحدون

© 2006 Copts United  http://www.copts-united.com/, all rights reserved .
Best view : IE6 ,IE7  Screen resolution 800 by 600 pixels