المجامع المسكونية (4)

مجمع أفسس الثاني
بقلم/ سوزان قسطندي
23 ديسمبر 2006
بدعة أوطاخي:
كان أوطاخي (أوطيخا، أفتيخوس) أرشيمندريت (أي رئيس دير) بالقسطنطينية، وكان معروفاًُ بعلمه وفضله ونسكه كما كان من أشد المقاومين لبدعة نسطور، غير أن تطرفه في المدافعة نظَّمه في سلك الهراطقة، فقد تطرف في تعبيره عن سر التجسد إلى أن قال بوحدة طبيعة المسيح وأن جسده مع كونه جسد إله ليس مساوياً لجسدنا في الجوهر لأن الطبيعة البشرية بحسب زعمه - قد إبتُلعت واندثرت في الطبيعة الإلهية، وعلَّم بحدوث إندماج أو إمتزاج بين الطبعيتين واستحالة (أي تحوّل) الناسوت إلى اللاهوت (ما يشبه بدعة أبوليناريوس.
فعقد فلابيانوس أسقف القسطنطينية (وكان نسطورياً) مجمع مكاني بالقسطنطينية في شهر نوفمبر عام 448م مكوَّن من 29 أسقف و23 أرشيمندريت، وحكم فيه بحرم أوطاخي وعزله عن رئاسة ديره، إلا أن أعضاء المجمع أقروا القول بطبيعتين ومشيئتين للمسيح بعد الاتحاد مجددين بذلك بدعة نسطور كما أن كنيسة أنطاكية في ذلك الوقت قد أوشكت أن تكون كلها نسطورية.
فرفع أوطاخي دعاوى ومظلمات أمام الإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير، كما لجأ إلى ليو الأول (لاون) أسقف رومية - الذي لم يكن يطلب مساندته إلا المبتدعون، وكان يسر بذلك لشعوره بأنه رئيس الكنيسة العام الذي يرفع رؤساء الكهنة دعاويهم إليه - فشجعه ووعده بالمساندة.
كل ذلك كان سبباً في اقتناع الإمبراطور بضرورة عقد مجمع عام في مدينة أفسس للنظر في هذه المشكلة الجديدة التي تعرضت لها الكنيسة.
مجمع أفسس الثاني عام 449م لمواجهة بدعة أوطاخي والنسطورية الجديدة:
وجه الإمبراطور ثيئودوسيوس الصغير الدعوة لجميع الأساقفة لحضور هذا المجمع بالكنيسة الكبرى (كنيسة السيدة العذراء) بأفسس في 8 أغسطس عام 449م، وطلب من البابا ديوسقورس بطريرك الإسكندرية (25) (444- 457م) رئاسة المجمع لشدة ثقته بغيرة آباء الكنيسة القبطية على سلامة الإيمان.
ويقول بعض المؤرخون أنه برغم من أن هذا المجمع قد حضره أساقفة الشرق والغرب إلا أنه لا يعتبر مسكونيا،ً حيث أن الدعوة إليه كانت من أجل فحص قرارات المجمع المكاني الذي عقده فلابيانوس في القسطنطينية وحرم فيه أوطاخى.
فلما شعر فلابيانوس بطريرك القسطنطينية بأنه سيقع تحت الحرم نظير باقي النسطوريين لجأ إلى لاون أسقف رومية (ملجأ الهراطقة) يستعين به، وقد كان قد وصل إلي لاون إعلان القيصر بالمجمع تحت رئاسة بطريرك الإسكندرية فطار شعاع الشر والغيرة والغضب من عينيه وكشَّر عن ناب العداء والخصام نحو ديوسقوروس.. ونسي لاون "محسوبه" أوطاخي الذي وعده بالمساندة.. ولما لم يحصل على أمنيته بسيادة أسقف رومية يوماً ما ويُدعى ولو مرة واحدة ليرأس مجمعاً عاماً امتنع عن الحضور إلى أفسس وأرسل نواباً عنه (كما هي عادة أساقفة رومية) وأعطاهم رسالة إلى الملك؛ ورسالة أخرى إلى فلابيانوس (لا إلى المجمع كما هو الواجب) وهى المعروفة بالـ "طومس" أو "طومس لاون" (طومس كلمة يونانية معناها كتاب أو رسالة) وشرح فيها رأيه وكان على أتم الموافقة لبدعة نسطور، إذ قال فيها: "حقاً يأتي المسيح الإثنان الإله والإنسان، الأول كان يبهر بالمعجزات والآخر مُلقَى للإهانات".
حضر المجمع 130 أسقف.. وأرسل القيصر إثنين من قبله نائبين عنه.. وجلس الآباء على هذا الترتيب: أولهم ديوسقوروس أسقف الإسكندرية رئيس المجمع، ثم نواب أسقف رومية، ثم يوبينال أسقف أورشليم، ثم دامنوس أسقف إنطاكية، ثم فلابيانوس أسقف القسطنطينية، ثم إسطفانوس أسقف أفسس، ثم طلاسيوس أسقف قيصرية الكبادوك.
وبعد قراءة رسائل الملك إلى الأساقفة وإلى نوابه، طلب نواب رومية قراءة طومس لاون، فوافق ديوسقوروس فقُدِّمت الرسالة فقال القس يوحنا كبير الكهنة: عندنا رسائل أخرى من الملك إلى أسقفنا ديوسقوروس فأمروا بما تشاءون، فأجاب أسقف أورشليم: تُقرأ وتُحفظ بين الأعمال، فلما قُرئت قال ديوسقوروس: قد ظهر لنا مضمون رسائل ملوكنا المسيحيين بأنهم أمروا بإجتماع هذا المجمع بسبب الخصومة التي حدثت في القسطنطينية فإذاً يُكشف أولاً عما صار..
فطلب أسقف أورشليم أن يحضر أوطاخى إلى المجمع ويحتج عن نفسه، فحضر أوطاخى وبيده كتاب إعتقاده، فطلب أسقف أفسس قراءته، فقرأه يوحنا كبير الكتبة، وقد قدّم أوطاخى إلى المجمع صورة إيمان مستقيمة (فقد كان من عادة الهراطقة التلّون في أقوالهم وإعتقادهم).
ثم طلب أعضاء المجمع قراءة بقية الأعمال التي صارت في مدينة الملك، إلا أن نواب رومية طلبوا قراءة طومس لاون أولاً، فقال أوطاخى: إعلموا أيها الآباء أننى متشكك بالرجال المرسَلين من طرف البابا لأنهم لما وصلوا إلى هذه المدينة نزلوا في منزل فلابيانوس وهو أكرمهم للغاية ومنحهم مواهب وعطايا فلذلك أنا أتضرع إلى قدس أبوتكم أن تنظروا إلىَّ لئلا يقضوا علىَّ بغير الصواب ويأتى لى ضرر، فقال ديوسقوروس الأب المكرم: ينبغى أن تُقرأ بقية الأعمال كأمر المجمع المقدس وبعد ذلك تُقرأ رسالة لاون، فقُرئت الأعمال.
وبعد ذلك صار ذكر طيب للأب كيرلس الأسكندرى وقُرئت له رسالتان، فقال مجمع الأساقفة: ليس أحد يقول أن المسيح إثنان من بعد الإتحاد، ولا يُفصَل الغير المنفصل، هذا كان إعتقاد نسطور.. فقال ديوسقوروس: إنصتوا قليلاً لماذا نذم نسطور وحده؟ كثيرون هم بمقام نسطور.. فسُئل أوطاخى: أتعتقد بطبيعتين بعد التجسد أيها الأرشيمندريت؟ وإن كان المسيح مساوِ لنا في الجسد أم لا؟
فإعترف أوطاخى بأنه على إيمان مجمعى نيقية وأفسس الأول المسكونيين.. حينئذ قال ديوسقوروس للمجمع: قولوا الآن ما ظهر لكم من إيمان أوطاخى وما هو مرادكم وحكمكم في دعوته؟ فأجاب أسقف أورشليم: لأنه إعترف وإقتدى بإعتقاد مجمع نيقية وأفسس الأول قد ظهر لى أنه أرثوذكسى من أقواله فمن أجل ذلك قد حكمت بأنه يثبَّت في درجته وفى ديره، فأجاب المجمع وقال: حق وعدل هذا الكلام، ثم قال أسقف أنطاكية: قد كنت سابقاً أثبِّت القضية التي أوجبها فلابيانوس على أوطاخى لأجل الرسالة التي وجهوها إلىَّ في هذا الأمر لكن قد ظهر لى أن المذكور أرثوذكسى من الكتاب الذي قدمه لهذا المجمع حيث يعترف بأنه متمسك بإعتقاد الآباء، وقال مثل هذا القول أسقف أفسس وأسقف قيصرية، وقال كذلك جميع آباء المجمع وعددهم خلاف من ذُكروا 107 أسقف من أقاليم مختلفة.
فمن ثم قال ديوسقوروس: أثبّت أنا أيضاً حكم هذا المجمع المقدس وحكمت أن أوطاخى يُحصى في عدد الكهنة ويتولى ديره كما كان سابقاً.
ثم بعد ذلك قُدّم عرض حال من رهبان أوطاخى (الذين قد سبق وحرمهم فلابيانوس في مجمعه)،فقال ديوسقوروس: أجهروا لنا صورة إيمانكم لأن ذلك هو يحلكم من كل حرم، فأجاب أحدهم: إن إعتقادنا هو بموجب ما شرحه الآباء في نيقية وثبتَّه الذين إجتمعوا في هذه المدينة ولا نفهم أو نعرف مذهباً آخر دون ذلك كما إعتقد رئيسنا أوطاخى، فقال ديوسقوروس: قولوا لنا هل تعترفون بذات مخلصنا وإلهنا المتجسد كما إعتقد أثناسيوس وكيرلس وإغريغوريوس المغبوطون وكافة الأساقفة الأرثوذكسيون؟ فأجاب أحدهم: كلنا يعترف هكذا.
فقال أسقف أورشليم: حيث قد إعترفوا بالإيمان فليُحصوا في شركة القديسين وفى مدرجاتهم، فأجاب المجمع قد إرتضينا بذلك.
ثم قال ديوسقوروس:حيث قد نظرنا في أوطاخى ورهبانه وأشركناهم في درجة الكهنوت، فيجب أن نفحص عما صار من خصوص الإيمان ونقرا أعمال ذلك المجمع الذي إجتمع في هذه المدينة (أفسس الأول)، فقُرئت.
وخلص المجمع إلى القرار الآتى بخصوص الإيمان: "للمرة الثانية نجدد القول بطبيعة واحدة بعد الإتحاد للكلمة المتجسد بدون إختلاط أو إمتزاج أو إستحالة" .
(ووُضعت عبارة "وجعله (أى ناسوته) واحداً مع لاهوته بغير إختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير" في صلاة القداس الإلهي
وفى الجلسة الثانية نظر المجمع في شكايات كثيرة قُدمت ضد أساقفة نسطوريين، فحكم فيها المجمع ضدهم..
وكان فلابيانوس أسقف القسطنطينية مستمراً على عناده، من الجهة الواحدة لم يتنازل عن قوله بطبيعتين بعد الاتحاد وأيد رأيه غير مكترث بتحديد المجمع الأفسسي الأول ومن الجهة الأخرى لم يُؤّمن على الحكم الذي أصدره المجمع بحل أوطاخي فظهر مضاداً للآباء، فتعين لهم حرمه وعزله عن الرئاسة (وحرم ستة من أساقفته)، وحكم بذلك واحد بعد واحد بما فيهم البابا ديوسقوروس رئيس المجمع.
كما حكم المجمع بحرم كل من ثاوذوريتوس أسقف كورش، وهيبا أسقف الرها، ودمنوس أسقف أنطاكية وعُين بدله مكسيموس، وإيريناوس أسقف صور الذي كان متزوجاً بإمرأتين ورُسم عوضاً عنه فوتيوس.. بسبب مدافعتهم عن تعاليم نسطور.
وربما رفض ديوسقوروس قراءة طومس لاون أو نسيها أو تناساها لاشتمالها على لهجات غير أرثوذكسية، أو لأنها غير مُرسَلة بإسم المجمع بل كانت مُرسَلة لشخص.
ثم عرض المجمع أعماله على القيصر، فأمَّن على تحديدهم وحكمهم، وأصدر أمراً بنفي فلابيانوس.
وانفض المجمع وعاد الأساقفة إلى كراسيهم.
غضب لاون وبدء انشقاق الكنيسة:
خرج نواب رومية بالخيبة إذ لم يتمكنوا من نجاة فلابيانوس وحزبه، فتجمهروا معاً عصبة واحدة وانطلقوا إلى رومية يحتجّون لدى أسقفهم الذي كان يتوهم أن الرسالة التي قد أرسلها "طومس لاون" سيتخذها المجمع كقانون للإيمان أو كوحى إلهى، فلما خاب رجاؤه شعر الأسقف الرومانى بالإهانة في الوقت الذي كان يحلم فيه بالرياسة العامة على الكنيسة وبالعصمة، فأضمر سوءاً لجميع آباء المجمع وعلى رأسهم ديوسقوروس (وقد كان أسقف رومية وبعض أساقفة الشرق يغارون من رؤساء الكرسى المرقسى لتعويل القياصرة على آرائهم في المسائل الكنسية وذلك لما أحرزوه من الصيت الجليل في العالم المسيحى أجمع بسبب مقاومتهم للهراطقة أمثال أريوس ونسطور حتى اعتُبر رأيهم هو رأى المملكة ذاتها)..

وشمَّر لاون عن ساعده للحرب والمقاومة، فمن جهة رد الأساقفة المقطوعين الذين رفعوا إليه شكواهم إلى درجاتهم ومن جهة أخرى إلتمس من فالنتيانوس قيصر رومية (قيصر الغرب) بتوُّسل ودموع (ولدى أفدوكيا زوجته وابلاكيديا أمه أيضاً) أن يدَّعى لدى زميله قيصر الشرق باستصدار أمر بعقد مجمع عام لإستئناف الأحكام التي صدرت في مجمع أفسس الثانى، فأجاب قيصر الغرب طلب لاون ولكن بدون فائدة لأن ثيئودوسيوس الصغير رفض لثقته في البابا ديوسقوروس ورد على زميله وشريكه في المُلك قائلاً: "إن ما جرى يكفى وهو حسن، ولا حاجة إلى مجمع آخر" وكان ذلك في فاتحة عام 450م.
وهكذا إستمر أسقف رومية سنتين وهو على أحَّر من جمر النار حتى تغير جو السياسة.
انتهاء بدعة أوطاخى:
عاد أوطاخى (الذى عاش حوالى 378- 454م) إلى هرطقته، فقد كان إعترافه في مجمع أفسس الثانى مستقيماً في ظاهره ولم يكن حجاب هرطقته مكشوفاً بعد.. وعندما ظهرت حقيقة معتقده رفضه البابا ديوسقوروس، فقد كتب - وهو في منفاه- رسالة ضد أوطاخى لشخص أسمه ابريطن وهى مسجلة ضمن كتاب "إعترافات الآباء".. والكنيسة القبطية تشجب أوطاخى وتعتبره هرطوقياً.
وقد قام بنشر مذهب أوطاخى الأب برسوما وتلميذه صموئيل بين الأرمن عام 460م.
إلا أن السوريين تركوا بعد ذلك نظام التعليم الأوطاخى بفضل جهاد الأب بطرس القصّار بطريرك أنطاكية.
_____________________________
المراجع:
تاريخ الكنيسة القبطية - القس منسى يوحنا
تاريخ الكنيسة القبطية – إصداركنيسة رئيس الملائكة ميخائيل ومارمينا بستاتين أيلاند بنيويورك
الخريدة النفيسة في تاريخ الكنيسة - للأسقف الأنبا إيسيذورس

جميع الحقوق محفوظة لـ دراسات مصرية، موقع تابع للأقباط متحدون

© 2006 Copts United  http://www.copts-united.com/, all rights reserved .
Best view : IE6 ,IE7  Screen resolution 800 by 600 pixels