بقلم/ سُوزان قسطندي
17 نوفمبر 2007
أولاً: تأثـُر اللحن القبطي بالفرعوني:
كان الفراعنة شعب متعبد ومتدين كثيراً..
ويظهر ذلك من النشيد الديني ل"آمون" كبير آلهة
الدولة الحديثة، إذ يقول: "يا آمون أنت سيد
الصامتين، الذي يأتي على صوت الفقير، عندما ناديتك
في محنتي جئت لتخلصني" .. فنجد أن هناك تقارب لفظي
ونفسي بينه وبين مزمور داود النبي للإله الحي، حينما
يقول: "في يوم ضيقي أدعوك لأنك تستجيب لي" (مز 86:
7) .. إنها مشاعر متقاربة لإنسان ينادي إلهه في
محنته وفي ضيقته ويطلبه ليخلصه.
وفي نشيد آخر كان كهنة الفراعنة يرتلونه للإله
"آمون" ويقولون: "الحمد لك يا آمون رع، يارب الكرنك،
المسيطر في طيبة.. أعظم من في السماء وأكبر من في
الأرض، رب كل ما هو كائن، الذي يستقر في كل شيء.. لا
شبيه له في طبيعته بين الآلهة.. رئيس كل المعبودات،
رب الحق، وأب الآلهة، الذى برأ الإنسان وخلق
الحيوانات، الذي يخلق شجر الفاكهة، والذي ينشئ
الأعشاب الخضراء، ويموِّن الماشية.. هو الذي صنع ما
على الأرض وما في السماء، وهو الذي يضيء القطرين، هو
الذي يخترق السماء في سلام، رع المبَجَّل، زعيم
الأرضيين، عظيم القوة، رب المقدرة، صاحب الأمر، الذي
خلق الأرض كلها.. أقوي في طبيعته من كل إله آخر،
الذى يبتهج الآلهة الآخرون بجماله، ذلك الذى يقدَّم
له الحمد في البيت العظيم، من يحب الآلهة رائحته
الطيبة.. ذو الإرادة القوية وصاحب الطلعة العظيمة..
الإبتهال لك يا من خلقت الآلهة ورفعت السماء وبسطت
الأرض".
وأناشيد أخرى عديدة ل "أخناتون" وغيره من الملوك
والآلهة الأرضيين، معظمها يتطابق ألفاظه وفحواه مع
ما كتبه داود النبي وآساف وهيمان ويدثون وكل الذين
سبحوا الإله الواحد الحقيقى- هذا الذي بحث عنه هؤلاء
الفراعنة، وبداخلهم يقين أنه يوجد إله عظيم فوق كل
الآلهة هو الذي خلق كل ما هو موجود وأنه رفع السماء
وبسط الأرض وأنه ليس له شبيه في الآلهة.
ومن بين الأمور التي مهدت الطريق للإيمان الجديد
المختلف في جوهره عن إيمان الفراعنة: "وحدانية الله"
التي عرفها المصريون على يد الثائر "أخناتون" (1383-
1365 ق.م) وفي الأسرة الثامنة عشر.. و"علامة عنخ"
التي تعني "مفتاح الحياة" عند المصريين القدماء-
والتي تشبه علامة الصليب رمز الخلاص في المسيحية..
والإعتقاد في الحياة الأخرى بعد الموت، وأن الموت ما
هو إلا طريق إلى الحياة وليس نهاية لها، بل أن
الأحياء كانوا يرسلون خطابات إلى أقاربهم المتوفيين
يسألونهم العون على متاعبهم في الحياة الدنيا- ما
يعد صورة من صور الشفاعة التي تؤمن بها الكنيسة
القبطية..
لذلك كان من السهل على هؤلاء الفراعنة أن يتقبلوا
الإيمان المسيحي..
وهذا ما حدث بالفعل.. في أول لقاء للقديس مرقس
الرسول بالأسكندرية مع "إنيانوس" الإسكافي، هذا
الفرعون الذي دخل المخراز في إصبعه وهو يصلح حذاء
القديس مرقس، فصرخ متوجعاً "يا الله الواحد"، فشفاه
القديس بأن تفل في الطين ودهن به إصبعه قائلاً "بإسم
يسوع المسيح إبن الله ترجع هذه اليد سليمة"، فإلتأم
الجرح في الحال، فتعجب إنيانوس، وهنا سأله القديس
عمَّن يكون هذا الإله الواحد؟ فأجابه "إنني أسمع عنه
سمعاً ولكني لا أعرفه"، ثم دعا القديس إلى بيته
وهناك بشَّر الأسرة كلها بالمسيح، فآمنوا، وعمَّدهم
القديس، ثم رسم إنيانوس أسقفاً على الأسكندرية، ثم
بعد إستشهاد مرقس الرسول صار "إنيانوس" أول بطريرك
مصري على الكرسي المرقسي.
هكذا قبل الفراعنة الإيمان المسيحي بسهولة شديدة..
وإبتدأوا يصنعون ألحاناً أخرى جديدة تعبِّر عن
الحالة الروحية الجديدة.. وربما حوت هذه الألحان بين
طياتها بعض الخلايا الموسيقية الفرعونية، ولكنها
تذوب مع الجمل الجديدة لينتج نسيج موسيقي جديد
مؤتلف، يصبغه الروح القدس بصبغة قبطية أرثوذكسية.
ولا يستطيع أحد أن يمسك بسكين من الزمن، ليقطع
الإتصال الملتحم بين الموسيقى الفرعونية العتيقة
والموسيقى القبطية العريقة.
وقد ذكر الفيلسوف "فيلو": "أن جماعة المسيحيين
الأولين قد أخذوا ألحاناً من مصر القديمة ووضعوا لها
النصوص المسيحية، وأن من بين هذه الألحان لحن "غولغوثا"
(= جبل الجلجثة) الذي كان يرتله الفراعنة أثناء
عملية التحنيط وفي مناسبة الجنازات، ولحن "بيك
إثرونوس" (= كرسيك يا الله) الذي نصفه يشتمل على
نغمات حزينة تردَّد لوفاة الفرعون الملك والنصف
الآخر يشتمل على نغمات مبهجة تردَّد لتنصيب الفرعون
الملك الجديد" .. ولكن بعض الدارسين يشيرون إلى أنه
إذا كانت هناك موسيقى فرعونية ظهرت في موسيقانا
القبطية فهي خلايا موسيقية أو عبارات أو جمل موسيقية
فقط، وليست ألحاناً كاملة تم تركيب كلمات قبطية
مسيحية على نغماتها؛ ويدللون على ذلك في لحن "غولغوثا"
بأنه ينقسم إلى جملتين موسيقيتين أساسيتين، الأولى
ينطبق عليها قول الفيلسوف "فيلو" أنها من الخلايا
الموسيقية الفرعونية، ولكن الثانية لا ينطبق عليها
ذلك فهى مختلفة وفيها يتطابق المعنى اللفظي مع
التعبير النغمي، أي أنه عندما تكون كلمات اللحن "إفؤش
إيفول إنجيه بي سوني" ومعناها "صرخ اللص" ترتفع
النغمات وتحدث قفزات صوتية وتتحرك النغمات سريعة
لتعبر عن هذا المعنى اللفظي- الأمر الذي لا يمكن أن
يحدث إلا بالتأليف الموسيقي المعاش.
(عن كتاب "الألحان القبطية روحانيتها وموسيقاها"
لجورج كيرلس) |