لماذا نكتب؟!
صورة ارشيفية
بقلم شكري بسطوروس – لوس انجيلوس
اظن ان مقال الرأي هو محاولة من الكاتب لمشاركة افكاره حول قضية معينة مع قرائه. فالمقال يعكس رأي كاتبه حول موضوع بعينه.
كما اظن ان المقال الجيد لابد ان يحمل افكاراً جديدة أو رؤى قيمة أو تحليلات عميقة، فضلاً عن جرأة في التناول. لذلك قد يحمل المقال قدراً من النقد او استشراف المستقبل او الحلول المقترحة او التوعية. فهو يساعد القارئ على استبصار واقعه، وقد يستحثه بصورة مباشرة او غير مباشرة على عمل شيء ما بوجه ما.
من هنا نجد ان مقال الرأي عرضة إلى ان يقبله المتلقي او يرفضه، كله او بعضه. فالكاتب يطرح فكرة، والمتلقى يفحصها وقد يفندها او يضيف عليها او يعدلها او يقترح افضل منها. لذلك فمقال الرأي هو اسهام في النقاش العام بمعنى تبادل الأراء.
ومع ثورة الاتصالات صار هذا النقاش ممكناً جداً، إذ لم يعد المقال التقليدي المطبوع هو الصورة الافضل لطرح الاراء والتفاعل معها. فالحقيقة ان المواقع الالكترونية للصحف فضلاً عن المواقع الاجتماعية مثل الفيسبوك صارت اكثر تفاعلية بين الكاتب والمتلقين وبين المتلقين وبعضهم البعض من خلال تعليقاتهم بصورة غير مسبوقة. وبالتالي صار المقال احياناً مختصراً لدرجه انه قد يحتوى على رأي واحد يعبر عنه بكلمات قليلة مصحوبة بصورة او مقطع فيديو مما يجعل الرأي المطروح اكثر وضوحاً وتشويقاً وتأثيراً وتفاعلاً!
ولكن ماذا لو لم يسهم مقال الرأي في إحداث ذلك النقاش، بل صار محوراً لمجادلات عقيمة واتهامات سخيفة مبنية على اساس تصنيف الكاتب: مع او ضد!! فلا فحص للرأى ولا محاولة للتفكير فيما يطرحه الكاتب من افكار بل ما يشبه الشجار؟ فهل يتوقف الكاتب عن الكتابة او ابداء الرأي ولو مؤقتاً؟ ام "يهدّي اللعب" و "يربط الجحش مكان ما يعجب صاحبه" بالمخالفة لضميره متبعاً المثل القائل "إن رأيت بلد بتعبد في عجل ، حش وارمي له"؟ ام يبدي رأيه الذي يمليه عليه ضميره ولو اصبح "بيدن في مالطه"؟!
واقع الحال اليوم فيما يتعلق بالشأن المصري انه سواء في دائرة الأصدقاء والمعارف أو فى المجال العام، لا يوجد نقاش بالمعني الحقيقي بل هرولة في اتجاه واحد، ومن يقف ليوضح او يستوضح الطريق تدوسه الاقدام!
فالمتلقى لا يقبل الرأى المخالف، يكفي ان تقرأ تعليقات أغلب القراء على المواقع الالكترونية للصحف المصرية أو العربية لتفاجأ بكم السطحية واللا معقولية في مناقشة الرأي المطروح. وبدلاً من محاججة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة يتم استهداف الكاتب بالتجريح الشخصي في اغلب الاحيان.
يفسر بعض المحللين الامر بان هذه التعليقات هي جزء من حملات تديرها بعض الجماعات او اجهزة المخابرات بهدف تشتيت القارئ في قضايا بعيدة عن الفكرة محل النقاش بالاضافة إلى تسفيه اراء الكاتب بل والكاتب نفسه. في حين يرى اخرون أن الشعب المصري تعرض اعلامياً لحملة غسيل مخ على مدى العامين الماضيين. وما نراه الان من تعليقات جماعية لا معقولة - تعكس حساسية مرضية ضد نقد افكار أو رموز او سياسات بعينها - ما هو إلا احد افرازات حملة غسيل المخ التي لابد ان نعترف بأنها نجحت نجاحاً كبيراً.
في السابق كنت اتفهم حساسية البعض عند نقد تصريح غير موفق او موقف سلبي لرجل دين اضطلع بعمل عام كالسياسة مثلاً. لأن الكثير منا مازال لا يفرق بين الدين كحقائق ايمانية لها قداستها، وبين رجل الدين الذي يجب ان نكن له كل الاحترام والتقدير ولكنه بالنهاية هو انسان يصيب ويخطئ ويحتاج كغيره من البشر للتصحيح والنقد البناء خصوصاً حينما يتعلق الامر بالعمل العام. اما الآن فعلى المرء أن يتفهم ايضاً الحساسية المفرطة لدى جمهور عريض من المصريين في الداخل والخارج إذا تجرأ وتعرض بالتحليل او النقد لسياسيات الدولة او ساستها وخصوصاً الرئيس السيسي! فالويل لمن يتجرأ ويفعلها.
هذا المناخ دعى كتاباً كباراً معروفين امتهنوا الصحافة منذ زمن للتساؤل عن جدوى الاستمرار في الكتابة مثل د. عز الدين شكري فشير والاستاذ جمال الجمل. بل ان كاتباً كبيراً مثل د. محمد المخزمجي توقف تماماً عن الكتابة الصحفية منذ ابريل 2014.
للتوضيح سأذكر مثالين فقط قابلين للنشر...
في 11 يونيو 2014 قمت بعمل "share" لـ "Post" على الفيسبوك ينتقد موقف اقباط كثيرين فرحوا بالحكم الصادر بالسجن 15 عاماً على علاء عبد الفتاح بسبب خرقه لقانون التظاهر رغم ان القانون مخالف للدستور. والاهم ان علاء وقف ضد المجلس العسكري في مذبحة ماسبيرو وحبس حينها وبسببها دفاعاً عن الاقباط من منطلق دفاعه عن حقوق الانسان وسيادة القانون اللذين بدونهما لن ينصلح حال الاقباط.
فعلقت احد الاخوات من مصر بالاتي: "هو ليه الي نط من المركب شاغل باله بيه.. من فضلكم الي ساب البلد وارتاح بره يطلعها من دماغه علشان الي جوه هو بس الإدري بالعيشه مش مجرد نظريات من التكييف"
المثال الثاني: صديق بامريكا لم يعجبه انني عملت "share" لبوست على الفيسبوك في اغسطس 2013 يعترض على اختيار الانبا بولا كعضو في لجنة الخمسين لصياغة الدستور الاخير مرفق معه حديث متلفز للانبا بولا يمتدح فيه دستور الاخوان. فرد الصديق ببوست مستقل جاء به: "رجاء شخصى: من كل الفلاسفه وخصوصا اللى موجودين خارج مصر يبطلوا ادانه للاساقفه ... كلامكم عن الحقوق وخلافه على الفضائيات 24 ساعه فقد الناس سلامهم ... ارحموا الناس شويه وكفايه هرى ما فيش حد عاجبكم ولا اى وضع سياسى عاجبكم.... بيس نقد نقد... ياريت تسيبوا الناس فى حالها وتشوف ليكم حاجه تعملوها او تتكلموا فيها ... اللى بقى خلاص سياسى وبيكتب مقالات واين هى حقوق الاقباط ويضع مقاله عليها صورته .... كفايه متاجره بالاقباط وممكن تكتب حاجه تانيه تحط عليها صورتك .... صدقنى الاقباط مش عاوزين كلامك ..."
هذان المثالان يوضحان كيف انتفى منطق النقاش - القائم على فحص الرأي وتأييده او تفنيده بالحجج العقلية، لا بتحقير الآخر أو بالطعن فى نواياه ونزاهته - لأنه تم تصنيف الكاتب على انه "ضد". هذا افساد لمنطق النقاش إذ ان الأفكار التى يطرحها صاحب الرأى هى أفكار حول قضايا خلافية بطبيعتها، اي تحتمل تعدد الاراء.
فمن غير المنطقي اتهام من ينتقد ردود الفعل على حكم قضائي او يرفض ان يتولى فلان المسئولية الفلانية او من يدافع عن حقوق فئة يراها مضطهدة .. نقول من غير المنطقي اتهامه بأنه متداخل فيما لا يعنيه او هارب او متذمر او متاجر بآلام الناس أو مصاب بداء العظمة. وحين تصل مناقشة الآراء العامة لتوجيه مثل هذه الاتهامات، فإن هذا يعنى أن المناخ العام قد اصابته علة تحتاج للتشخيص والعلاج.
بل ان الكتابة في هذا الجو تضع الكاتب وما يكتبه موضعاً الشبهات.. كما هذا المقال الذي قد يبدو للبعض انه يقف حائراً بين نقد الأشخاص كرثاء للذات، ونقد طرق التفكير بهدف الاشارة لموضع الداء!
مرة اخرى.. ما فائدة كتابة الرأى فى هكذا مناخ مشوش وغير موضوعي؟ ربما يقول قائل ان مقال الرأي أكثر ضرورة كلما كانت الظروف اصعب، لأنه بالكلمة يمكن محاربة الجهل والظلم والتعصب وتزييف الوعي والاستبداد والفساد وسائر امراض المجتمع.
قد يكون هذا صحيحاً، ولكني اتساءل:
ما جدوى ان تقول للجاهل انه يحتاج للتعليم إن كان ينعم بجهله ولا يريد ان يتعلم، اي كما قال المتنبي: ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله .. وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم؟ هل إذا قلت للظالم ان الذي يزرعه الانسان، اياه يحصد ايضاً، تكون قد اضفت جديداً على ما يعرف؟ ما فائدة ان تقول للمتعصب الذي لا يرى أمنه إلا في نفسه وجماعته ومعتقده، ويدرك الاخرين على انهم تهديد مباشر له، بأن عليه ان يحل عُصابة تعصبه عن عينيه ليري الاخرين كما هم ويضع نفسه مكانهم إن أراد فهمهم ومشاركتهم؟ هل سيسمع؟ كيف تقول لمن تم تزييف وعيه انه يعاني من "Brainwashing" هل سيصدق؟
هل يكتب الكاتب ضد استبداد السلطة على رجاء ان تستجيب، وإن لم تستجب فعلى الاقل "العيار اللي ما يصيبش يدوش"؟! السلطة المصرية "جلدها سميك" - كما قال المعزول محمد مرسي في احد خطاباته.
هل يكتب الكاتب ليسجل موقفاً للتاريخ.. أنه قال كذا وكذا وقتما رفض الاخرون بحجة كيت وكيت؟ هل يستحق تسجيل موقف عناء الكتابة عنه ، فلن يجني الكاتب سوى رجع الصدى؟
إذن لماذا نكتب ؟!
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :