الأقباط متحدون | لـيليـــان ... قصة قصيرة
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٢٣:٠١ | الاثنين ١٩ ابريل ٢٠١٠ | ١١ برمودة ١٧٢٦ ش | العدد ١٩٩٧ السنة الخامسة
الأرشيف
شريط الأخبار

لـيليـــان ... قصة قصيرة

الاثنين ١٩ ابريل ٢٠١٠ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلفم : هاني رمسيس
ترقرقتْ بعينيها الدموع و تقطّع خيط الدّم الأحمر ينسال على جانبى فمها ، و هى تلوك بأسنانها فريستها ... ترنّحتْ برقصة الموت فوق أشلاء ضحيتها ... شاركتْ أصابعُها فى نسج أكفان قتيلها ... سارعتْ تحملُ على كتفيها نعشه ، وسبقت الجميع و رفشها بساعدها إلى حيث تحفر قبره ... و عند القبر تمازجتْ قطرات الدموع بالدماء ، و تساقطتْ على التراب و فوق صدر من أحبته ... و وارته الثرى .
تلك كانت النهاية ، و حيث وُجِدْتْ نهاية ، فهناك لابُد من بداية ، وبين البداية والنهاية ، أحداث تتصاعد و صراع يتجلى و مشاعر تتباين ، و حيث كل هذا يتكلم و يتحرك و ينفعل البطل ، و البطل هنا كان فتاة ، و الفتاة كان اسمها "ليليان"  .

كانت من الوهلة الأولى تبدو ملائكية الطلعة ، سماوية الملامح ، ترتسم على وجهها إبتسامة هادئة ، و فوق الإبتسامة تستكين مسحة حزن طفولية بريئة ، تُضفى عليها مزيدا من الجمال و الوداعة و الغموض .
هذا ما استشعره "يوسف" ، حين التقتْ عيناه بعينيها ، قوة غريبة تنفذُ إلى أعماقه ، أحس بها بوعى القروى المفطور على الطبيعة ، بأحلام الشباب التى لا ترضى إلا عن الكمال شريعةً .
و دون أن يتنبّه ، سمع قلبه العذرى يخفق لها خفقاته الأولى ... أهى الصدفة ؟ أم نداء روحها لروحه ؟ ... هكذا تساءل منذ المرة الأولى ، و هما يقفان وجهاً لوجه ، ليقترب منها ، يحادثها و تحادثه ، و يتكرر اللقاء .

لكنه فشل فى الإجابة على تساؤله و إكتفى بأن يرى فيها روحاً علوياً سابحاً ، و نفساً صافية طاهرة ، و فوق النفس و الروح قواماً معتدلاً ، غصناً رخصاً مهذباً ، لوحة رائعة ، بعينيها النجلاوين المهويتين و بشرتها القمحية و شعرها الكستنائى يحيطُ بوجهها و ينسدل على وجنتيها ، منساباً فى نعمومة الماء ، حتى يغمر الأكتاف .

كان يوسف قد ترك القرية ، منذ أربع سنوات واستقر فى القاهرة حيث دراسته الجامعية ، و خلال هذه السنوات لم يعرف إلا الدراسة طريقه ، و لم يكن إلا الكتاب رفيقه . لكن منذ رآها بدأت معالم طريقه تتغير و أفكاره تتشكل و تولد من جديد ، ثمة روح آخر يشاركه حياته ، يقتسم معه خبزه النورانى المعجون بالأحلام الزهرية .و منذ تلك اللحظة و الأيام تمر و الليالى تتوالى ، و القصة تكبر و تتقدم و تتصاعد ، و معها الحب ينمو و يزهر و تتفتح أنواره .

و اليوم يأتى ، لكن ليس كسابقيه من الأيام ، يفاجئه أخوه زائراً ، و اليوم يطلبُ أخوه أن يراها ، متشوقاً كيف تكون صورة هذه الفتاة التى فازت بقلب الأخ الأكبر ، و اليوم أيضاً و بلعبة الأقدار يكون موعداً للقاء .

استقل يوسف و أخوه الأتوبيس ، فى طريقهما إليها ، و بدأ الأخ بلهجة صعيدية يفخّم الحروف ويملأ بها فمه ، يكلمه عن القرية و أهلها ، و يوسف يرد عليه – برغم كل هذه السنوات فى القاهرة – بنفس اللهجة ، يستطعم الحروف التى افتقدها زمانا ، فهو لا يستريح لتبديل الحروف ، فتغيير اللهجة يغيّر دلالة الأشياء ، فمن يفقد الجيم المعطشة أو القاف القاسية ، يفقد صورته وشكله و ربما وجوده أيضاً.

ظل الأخ متحدثاً ، و يوسف يطرق إليه دون أن يحادثه أو يتسمّعه ، إنما شئ سيطر عليه ، أشبه بخدر يسرى فى جسده و بواطنه تثور .

كان أخوه يقُص عليه كيف أن إحدى تلميذاته و التى لم تتجاوز سنوات المراهقة تركتْ أهلها و بيتها من أجل شهوة جمحتْ بها و سيطرتْ على نفسها ، من أجل فتى غرّر بها .
 
" مسكينات أولئك الحمائم فى أجواء الجوارح ، بريئات أولئك الحملان بين أوكار الذئاب ، ما هُن إلا لعبة فى مثلث الموت الذى يتمخض بهن ، ما أبعدهن بجهلهن و غباوتهن عن محبوبتى ، إنك لم ترى طيفها ، لم تعرف أناملك أثير روحها ، لم تسبيك رجاحة عقلها ".
بهذا كان يحادث نفسه هارباً من نظرات أخيه المكسورة المعاتبة .

يوماً ما وقف يوسف خادماً و قدوة و معلماً أمام هذه البائسة ، ولم تلبث طفلة صغيرة خجولة ، وديعة كحمامة داجنة .
لذا فقد انهارتْ كبرياء فراسته و علمه بالناس ، و لامس الفشل فوق جبينه إكليلاً من شوك ، فلم يجد بُداً وقد ظهرت عليه إمارات صغر النفس ، من أن يبعد ببصره- المغشى بالتساؤلات- من النافذة .

من النافذة ، تراءتْ له محبوبته ، إن طيفها يسيطر عليه ، تتحرك أمامه دائماً ، تجانبه أينما خطا ، تجاوره حيثما جلس ، لكن هذه المرة لم تكن بجواره ، إنما و الأتوبيس فوق كوبرى قصر النيل ، كانت تتخاطر فى ثوبها الطويل الفضفاض ، وتعلقُ ذراعها بذراع رجل.

طفق يحدث نفسه : "يبدو أن كلام أخى أزعج نفسى "
فرك عينيه ، و تأكد من سلامة نظارته ، حتى ابتعد الأتوبيس .
الأخ يتكلم و يوسف صامت و الاتوبيس يتحرك ، و يصل الأخان إلى حيث مكان اللقاء ، فيظهر المكان خالياً ، فيخفق القلب و تتهرب العيون و يذهب الأخ .
يعود يوسف و قد تغير الجو فقد بدا ملبداً بغيوم رمادية لا يلوح له أفق ، وفى عودته وحيداً يقطع الكوبرى على قدميه ، و يبرق ثانيةً طيف حبيبته ، تلتحم بذراع شاب طويل أسمر على وجهه آثار بثور .
هز يوسف رأسه ناكراً مذهولاً فخيال محبوبته دائماً مبتسماً يحيط به هالة من نور ، دائماً هى كائناً وسيطاً بين الإنسان و الملائكة ، لكن ما يراه الآن هو نزول بها من أعلى مراتب الملكوت الروحى إلى أقصى درجات الموات .
يقترب منها فى خطوات مضطربة ، و هو لا يزال على صراعه غير مصدّق ما يراه ، إلى أن حدث وإلتقت العيون ، و انفعلتْ ، رأته فتلجمتْ ، حاولتْ أن تبث الشجاعة فى نفسها ، أن تبادر بذكاء بالمصافحة ، رسمتْ على وجهها ابتسامة زائفة ، شحذت ذهنها ، انهارتْ و هربتْ ، عبرت الطريق بسرعة خاطفة ، كالمجنونة و هى تتخطى السيارات ، و هى تضع يدها على قلبها المرتعش مثل أداة الجريمة فى يد القاتل ، أرادتْ من الأرض أن تبتلعها ، ترجتْ السماء أن تطهرها بنار حارقة .

كانت تلتحمُ بذراعه ، إنها الخطوة التى لم يجرؤ يوسف أن يقدم عليها ، فقد رأى فى الحب مذبحاً مقدساً و هيكلاً طاهراً ، الإقتراب إليه فى خشوع و هدوء و استحياء .
كانت تلتصق به و يلتصق بها ، فالمياه المسروقة دائماً حلوة ، و خبز الخُفية أبداً لذيذ ، و لا يعرف أحد سرّه .
ناداها يوسف فى شرود و بلادة ، فتوقفتْ ، لكن هذه المرة أدركت أن اللعبة انتهتْ ، و أن الستار قد نزل على النهاية ، فلم تستطع أن تقاوم أو تنكر ، و إن ظلتْ غليظة القلب متعجرفة ، تتلمس التوافه ، تستحضر شيطانها بالمبررات ، و الذى لم يكن يوسف فى احتياج إليه ، لكن أنّى لها أن تعرف أن قوة السماء فى غيثها و قطرات دموعها .

انكسرتْ المرآة ، ظهرتْ العيون الحمراء و المخالب الحادة ، تلاشتْ القشور الذهبية ، سقطتْ أردية النور ، إن صوتها نعيباً فى أذنيه ، منطقها صداعاً مبرحاً فى رأسه ، جاهلة ، صخابة ، حمقاء ، انطفأ سراجها  وإذ الليل بعد فى أوله ، و فى ليلها و ظلامها تقبعُ الأخيلة و أرواح الشر و ضيوفها .
ذهبتْ ، كما ظهرتْ فجأة ، و معها كل شئ ، و استمر يوسف سائراً غائباً عن الدنيا ، يبتسمُ ساخراً من نفسه ، يبكى بكاءاً مسجوناً ، فتهطلُ دموعه داخل أحشائه .
طفق سؤاله القديم يراوده كما تراود حباتُ الدموع الجفون : أهى صدفة أم نداء روحها لروحه ؟

* * *
على الجانب الآخر من الكوبرى ، فى مقابل الكورنيش ، كانت تقف مركب صغيرة تتهادى على سطح الماء ، عليها فتاة عشرينية ، تتمايل ، تتلوى و تنثنى و تنحنى ، تهتز و ترتعش ، ترقص لتجتذب الرجال إلى المركب .
صناعتها أن ترقص حتى تطعم فمها و ربما أفواه أُخر .
صناعتها و عيشها و قدرها ، رضتْ أو رفضتْ ، أن ترقص و تتمايل و تهتز ، تحت أضواء صاخبة و أمام الناس ، أولئك الذين يحملقون فيها ، و يرمقونها بنظرات كلها تحرّق و شهوة ، يطلبونها و يمنّون بها أنفسهم ثم يلعنونها و يكفرونها .
صناعتها و وظيفتها ، و لم تكن يوماً لعبتها .

h_ramsis@yahoo.com




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :