ما بين شم السردين .. وشم الهروين .. عذاب وأنين !!
بقلم/ نبيل المقدس
فكرت في هذا التأمل , بينما كنت موجودا في رحلة روحية خاصة في مكان ما .. حيث كان الهدف من هذه الرحلة الروحية الترويح النفسي والغذاء الروحي , لبعض الأعضاء الذين يعيشون بمفردهم أيا كان عمره .. وغالبا ما يكون السبب هو وفاة الزوج أو الزوجة , أوهجرة اولادهما منذ زمن , أو أن يكون الفرد معوق ولا يملك مَنْ يعينه . هذه خدمة روحية واجبة علي جميع الكنائس بطوائفها أن تهتم بها.. وكان من نصيبي أن اقضي مع هؤلاء كمشرف للمؤتمر في الأيام الثلاثة الأولي أي قبل ما ينتهي هذا المؤتمر مساء يوم شم النسيم .
رجعت البيت وصممت أن اسجل كمية الإنشراح , الذي كان واضحا من خلال صلواتهم وتفاعلاتهم أثناء التسبيح بالإضافة إلي تأملاتهم المملوءة أماني لحياة سعيدة لأبنائهم ... كما تذكرت أنا ورفيقة الإشراف معي أن نعطي للسيدات فرصة لعمل ما كن يعملوهن أيام ما كن في بيوتهن معززات بين ازواجهن واولادهن وربما البعض منهم بين أحفادهن . فإقترحت زميلتي أن تعرض عليهن بعمل كحك وبسكوت ... بالرغم ان هذه المخبوزات عادة تكون أكثر مناسبة في اعياد الميلاد ! لكنهن قررن علي إستخدام الزيوت النباتية في تصنيعهم ... فصلنا الرجال عنهن بعدما جهزنا لهم مكان علي شكل " قهوي بلدي " وكنت انا الذي اقوم بتلبية طلباتهم, وزميلتي في الإشراف ذهبت تساند السيدات ... لا أستطيع ان اوصف مقدار فرحة السيدات , حتي أنني تصورتهن كبنات أورشليم يبتهجن بدخول ملك الملوك إلي إورشليم .. وكل واحدة منهن أظهرت خفة دمها , ومواهبها في كثرة الكلام مما أضحكوني ... وبعد الإنتهاء من " الخبيز " قمن لكي يضعن ما صنعوه من عجائن في الأفران الملحقة بالمطبخ .. ثم رأيتهن مستلقيات علي فوتيهات الصالون الملحق به " تراسينة" طويلة كانت مصدرا لدخول هواء نقي جميل للصالون . ثم نظرت إلي الرجال وجدتهم يتحدثون عن السياسة وذكرياتهم عندما كانوا يعملون قبل أن يتم إحالتهم علي المعاش , وكان كل منهم يقص تاريخ عمله علي اساس وكأنه إلتحق بهذا العمل من اول يوم كمدير او رئيس لها ... وهذه هي عادة الرجال عندما يتحدثون عن ذكرياتهم . وقتها إكتشفت أن نوعية المكان او تغيير جو الحياة لا يغير شيئا من صفات الرجل المتباهي بنفسه ولا المرأة التي لا تكف عن الثرثرة " مع إعتذاري لهن " .. حيث كنت و في لحظات مروري بجانبهن وبدون تصنت عمدا أجد نفسي قد علمت كل شيء عن هذه الأخت أو الإبنة عن حياتها وحياة عائلتها .... وهذا ما جعلني اضحك أيضا في داخلي ..!!
أخذت كرسي وجلست عليه بالقرب من الباب الخارجي مع حارس المكان في انتظار احد الخدام ( كارز) الذي سوف يأتي من القاهرة خصيصا لكي يقوم بخدمة المساء ... لكنني لاحظت منذ اول يوم المؤتمر إحدي السيدات متوسطة العمر تختلي بنفسها لأوقات كثيرة .. ولاحظت أنها كانت تحب ان تصلي مرددة دائما علي لسانها أن ينهي كل مَنْ في ضيق .. وأن يحرره .. وأن يقبل توبته , ذهبت إليها أدعوها أن تجلس بقربي بجوار البوابة الرئيسية للمكان . لبت طلبي وبدون إحراج سألتها عن المشكلة التي تعيش فيها ... في نفس اللحظة جاءني البواب ليقول لي .. الفسيخ والسردين أحضرهما السوبر ماركت بناء علي تليفون من " المدام المشرفة " .. سمحت له بالدخول امامنا , وبمجرد دخوله إذ فاحت وإنتشرت رائحة الفسيخ والسردين في جميع الإتجاهات .. ! فوجهتُ كلامي لها كنوع من الفكاهه قائلا : " أظن رائحة الفسيخ والسردين والبصل سيفسدون رائحة الكحك الذي بدأ فعلا معالمه يلوح من علي بعد بسبب تسرب الروائح من الأفران.
نظرت إليها ووجدتها تبكي بشدة قائلة " في الوقت كان ناس بتشم سردين .. إبني كان بيشم هيروين " .. طبعا كانت مفاجأة لي ان أسمع منها هذا الكلام ... وإستمرت تحكي ما ينغص حياتها .. قائلة :" انا جاية مخصوص لكي اختلي بربنا واطلب منه أن يتم شفاء ابني الوحيد من الإدمان .. فهو الأن في دار الإستشفاء للعلاج من الإدمان , منذ 3 شهور .. باقي له حوالي شهرين ".. وعند أخر زيارة له انا وخاله قال لي " ارجوكي يا امي صل لي بلجاجة للرب لأنني اريد فعلا أن أتحرر .. لذلك فأنا فعلا عاملة حسابي أن أحضر معكم نصف الفترة لكي اكون معه يوم العيد وشم النسيم .!
وبناء عليه تشاورت مع مجموعة الرجال أن تكون صلواتنا في وقت الصلاة عن شفاء إبن هذه الأخت .. لكنني لم أذكر لهم نوع المرض ... لعدم الإحراج .
تنبهت فجأة علي رائحة غريبة .. فقلت في عقل بالي .. اكيد دي رائحة الفسيخ والسردين .. لكن تذكرت أنني رأيت زميلتي المشرفة كانت تلف الفسيخ والسردين في أكياس من البلاستيك وعليه طبقة ملفوفة من فويل الألمونيوم , ووضعتهم في أول ادراج الثلاجات لحين مجيء يوم شم النسيم. لكن وجدت دخانا خارج شباك المطبخ , وأخذت أنادي علي المجموعة لكي يأتوا معنا أنا والمشرفة داخل المطبخ .. لكن بالأسف الشديد وجدت سيدات الصالون في نوم عميق .. اما الرجال فقد ذهبوا إلي حجراتهم لكي يكملوا حكاوي القهاوي عن بطولات شبابهم لحين ميعاد مجيء الكارز للخدمة .. دخل البواب المطبخ وهو ادري بمعرفة مكان المحبس العمومي للغاز .. وبدأت الرؤيا تظهر امامنا .. ان هوانم مجوعة الخبيز إستغرقن في نوم عميق , فقمن علي رائحة شياط وإحتراق ما صنعوه من مخبوزات .... طبعا إنقلب الحزن إلي ضحك وخصوصا الرجال الذين إستغلوها فرصة و بدأوا يلقون عليهن اللوم بطريقة مضحكة .. اما هن وقفن يعترفن واحدة تلو الأخري .. فقالت واحدة منهن " الله يرحم زوجي كان هو المسئول عن قفل البوتاجاز في الوقت الذي احدده أنا له" ... واخري قالت : "بصراحة انا كنت بأريّح نفسي واشتريه جاهز بلا وجع قلب" .. وأخري تقول : "ولادي كانوا يتابعون المخبوزات لإشتياقهم له فكنت أعرف منهم وقت إطفاء البوتاجاز "..
اما السيدة التي كنا نصلي من أجل ابنها .. قالت وضحكتها تختلط بالدموع " إبني الغالي .. كان طول عمره منذ كان عمره 5 سنوات حتي ما وصل الـ 21 سنة يأخذ صاجات المخبوزات هو وبواب العمارة وهو مسرور ويقول لي .. دورك انتهي ياأمي يا اغلي من عيني ... اتركي لي الصاج اذهب بهم إلي الفرن الموجود بجوارنا ... ! ثم نظرت إليّ في الوقت الذي كنت احاول أمسح أنا دموعي ...!!
اتمني في هذا اليوم أن نتذكر اولادنا وان نحتضنهم , لكي يكونوا اسوياء ... لا يهمنا بعادهم او هجرتهم .. بل نسأل الرب أن يحميهم من لعبة الشيطان والتي لا تقف عند حد معين , بل يطور نفسه مع تطور الحياة .. لذلك علينا ان نسلح اولادنا بوصايا وكلمة الرب المتجددة دائما .
وكل سنة وانتم طيبين وإلي جميع إخوتي المصريين أتمني لهم شم نسيم مُطعم بحلاوة الحب لبعضهم البعض .. كما كنا في الزمن الجميل لمصــــر !
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :