يوليو 52.. تاريخ يليق بالحداد
بقلم: نبيل شرف الدين
كان "الحاج بخيت"، طرازًا نادرًا من البشر أظنه انقرض الآن، يعرفه من تربوا مثلي في صعيد مصر، فرغم كونه لم يتلق تعليمًا نظاميًا، إذ اقتصر تأهيله في صباه على معارف "الكتاتيب" التقليدية، كالقراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم ومبادئ الحساب، إضافة لقدر من التعليم الديني، فإنه مع ذلك كان مثقفًا عضويًا حقيقيًا، دونما صخب أو شبهة ادعاء، يواظب على القراءة المنتظمة للصحف، والاستماع الواعي للإذاعات المصرية والأجنبية، ولديه رؤية واسعة تربط بين القضايا الكبرى وتداعياتها في بيئته المحلية.
وما نسيت لن أنسى درسًا تلقيته من هذا الرجل حين كنت على عتبات المراهقة، سألته مرة عن رأيه في "ثورة يوليو"، فرد ببساطة وهو يرنو للحقول الخضراء الممتدة على ضفتي النهر، "لو أنني أجّرت لك هذا الحقل المثمر، وبعد عشرين عامًا عدت لأجده بورًا مليئًا بالأشواك، تُرى كيف أصف جدارتك بهذا الحقل؟".
دفعني الرد لمجادلته قائلاً: "ربما كانت هناك ظروف أقوى مني، كأن يمنع الأعداء المياه عن حقلي مثلاً"، فأطرق الرجل برهة ثم أمسك يدي ووضع في راحتي مسبحته "الكهرمان"، التي طالما كانت تثير فضولي، وقال: "طيب أعطيتك هذه المسبحة لتوصلها لجدتك (يقصد زوجته)، وبدلاً من أن تفعل ذلك، رحت تتشاجر مع الأولاد أو تلعب الكرة فانفرطت المسبحة وضاعت منها عدة حبات فهل تراك صنت الأمانة أم خنتها؟".
كلمات الرجل الثمانيني الذي أراه "شاهد حق" على أربعة عهود، بدأت بالعهد الملكي وانتهت بالحالي، كانت حاسمة لا تحتمل المكابرة، ولا يمكن القفز عليها بمبررات سخيفة على طريقة تسمية الهزيمة "نكسة" مثلاً.
واصل الرجل الذي ينظر إليه في مجتمعه الريفي المحلي كحكيم حقيقي و"رجل بلاد"، مضى متسائلاً باستنكار مرير: "المسألة يا ولدي باختصار دون لف ولا دوران ولا "وجع راس" هي: كيف تسلمت الأمانة وكيف سلمتها؟".
جذور المسألة
بهذا الرد البليغ وضع "الحاج بخيت" يدي مبكرًا على جذور المسألة التي لم تزل تثير اللغط حتى يومنا هذا، وهي الإنسان المصري، وكيف صارت أحواله بعد مرور أكثر من نصف قرن على انقلاب يوليو العسكري؟
ولعلي لا أبالغ حين أرى الآن بعد مرور عقود على هذا الدرس البسيط العميق أن الإنسان هو المعيار الأهم في حسابات السياسة والتاريخ، والثابت أن "حركة يوليو" أهدرت قيمة الفرد بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث، ولم يتمثل ذلك في تضخيم الذات الجماعية على حساب الفرد فحسب، بل في سحق دوره من أجل صورة خرافية لعظمة الأمة، وغاب عن مماليك يوليو حقيقة بسيطة مؤداها أن كرامة الأمة ـ أي أمة في الدنيا ـ لا يمكن أن تقوم على أكتاف أفراد أذلاء منسحقين متوجسين حتى من أقرب الناس إليهم.
ولعلي لا أتجنى أيضًا حين أزعم أن "مماليك يوليو" حلوا محل الشعب، بل وطردوه خارج الحلبة، واختزلوا كافة السلطات في السلطة التنفيذية المركزية التي صارت مرادفًا لشخصية الزعيم الملهم فيما يعرف بالبطريركية الثورية، والمثير أنه رغم نهاية هذا الانقلاب، لكن البطريركية باقية حتى الآن، كواحدة من مفردات تركة يوليو الثقيلة، والتي لا يمكن التنبؤ بموعد لنهايتها على الأقل في المدى المنظور.
وببساطة يحق لنا أن نتساءل عما تحقق من أهداف "حركة يوليو" التي كانوا يطبعونها على كتبنا المدرسية، وأهمها القضاء على الفساد وسيطرة رأس المال على الحكم، لكن ما حدث ببساطة أن الفساد تحول من "لعبة نخبوية" قبل الانقلاب، إلى "لعبة شعبية" بعده وعلى يد رجالاته، وانتقلت امتيازات الصفوة من أبناء الباشاوات القدامى، إلى أبناء الباشاوات الجدد ممن تربوا في مدرسة سيئ الذكر الاتحاد الاشتراكي، وهو كيان يجمع بين ملامح "العصابة"، حيث يسود معيار الولاء، وبين الأحزاب الفاشية والنازية التي تسوق "الوهم الجمعي"، وتؤله الأشخاص باعتبارهم رموزًا للوطن تارة، وللعقيدة تارة أخرى.
تجريف المصريين
إذن "تجريف الشخصية المصرية" هو أكثر التعبيرات دقة لوصف ما فعله مماليك يوليو، إذ تختزل أخطر النتائج الاجتماعية للانقلاب، الذي رسخ حكم العسكر طيلة العهود الثلاثة الماضية، مع التأكيد هنا على أن الفوارق بين هذه العهود لا يتجاوز الشكل، أما الجوهر فواحد لم يتغير، ينطلق من "ثقافة القشلاق" ويمعن في تغييب وعي الناس، تارة بالشعارات الكاذبة، وأخرى بفتاوى فقهاء السلاطين، وثالثة بهوس كرة القدم، وهكذا حتى انتقل ثقل المجتمع من الجامعة إلى "القشلاق"، ومن الأحزاب المتنافسة إلى الحزب الأوحد.
وكما يحدث للأرض الخصبة حين يجرفها الأشرار، فينتزعون منها أكثر طبقاتها خصوبة، فلا تتبقى سوى الطبقة الصلدة التي لا تصلح للزرع ولا الحياة.
ودعونا نعترف بأننا في مصر أصبحنا هكذا الآن، فلم يعد ممكنًا أن نصف مجتمعنا المصري حاليًا بالتسامح، في وقت يشهد فيه كل شبر من ربوع مصر احتقانات طائفية، وملاسنات يومية عبر الصحف وشاشات التلفزة تصل إلى حد الفُحش في الخصومة، بل إن الفضائيات العربية حين ترغب في إقامة "مشتمة" وحفل مهاترات، تحرص على استضافة بعض المصريين، ليضطلعوا بمهمة إمتاع أبناء الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة، بوصلة من "الردح" المصري الأصيل.
"حركة الجيش"، هكذا سماها الضباط أنفسهم، قبل أن يتطوع مثقفون انتهازيون ليسبغوا عليها زورًا صفة الثورة، رغم أن ما حدث كان انقلابًا نموذجيًا وفق أبسط قواعد علم السياسة، فالثورة بطبيعتها حراك شعبي، أما أن يقوم بعض العسكر بتغيير نظام الحكم بالقوة، ويعطلون العمل بالدستور والقوانين، ويفرضون الأحكام العرفية، ويحلون الأحزاب السياسية، فهذا ما لا أعرف له اسمًا ولا وصفًا غير الانقلاب.
والأسوا من هذا أن هؤلاء "المماليك الجدد" الذين قدموا أنفسهم كمخلّصين للشعب من الفساد والاستبداد والفقر، مارسوا أبشع صور الاستبداد، ووصل الفساد على أيديهم إلى حضيض يتوارى أمامه خجلاً فساد فاروق وحاشيته، أما عن الفقر وتدني الأوضاع الاقتصادية للمصريين فحدِّث ولا حرج.
وليت الأمر توقف عند ممارسات الاستبداد السياسي، التي يتطلب الخوض في تفاصيلها مجلدات، لكنه تجاوزه إلى تجارب مريرة لعل أسوأها "عسكرة المجتمع"، فوزَّع "مماليك يوليو" وخلفاؤهم مناصب الإدارة العليا على صبيتهم بطريقة مغانم الحرب ومكافآت نهاية الخدمة، فأصبح المحافظون والسفراء وحتى رؤساء المدن والأحياء من تلاميذهم المتقاعدين، ووصل الأمر إلى حد تسليم هؤلاء "المتقاعدين" مقاليد الأمور في هيئات ومؤسسات لا صلة لهم بها كالثقافة ودار الأوبرا وهيئة النظافة وحتى حديقة الحيوانات.
والمنطق البسيط يؤكد أن رجلاً أفنى زهرة شبابه في إطاعة الأوامر وإصدارها، لا يمكن أن يهبط عليه في أواخر أيامه وحي الديمقراطية، لأن تجاهل خبراته السابقة وتراثه المعرفي جريمة تدليس كاملة الأركان، وبالتالي كانت النتيجة أن الجهاز الإداري للدولة شهد عملية تخريب غير مسبوقة، فتحولت فيه الرشوة إلى سلوك متبجح، بل أصبح من المستحيل أن ينجز المرء مصلحته في بعض دواوين الحكومة دون وساطة، وترهلت الإدارة بموظفيها "التنابلة" الذين يمعنون في تعطيل مصالح خلق الله، بينما يُصّر المسؤولون على ترديد خطاب الإنجازات الوهمية، ويلقون بالمسؤولية تارة على الاستعمار وأخرى على زيادة عدد السكان.
يحدث هذا الآن، بينما كان موظف الحكومة فيما أسماه الثورجية "العهد البائد"، شخصًا محترمًا جادًا، يخدم وطنه ومجتمعه بضمير يقظ، ولا يقبل الرشوة إلا في استثناءت نادرة، ولهذا استحوذ الموظفون حينذاك على احترام المجتمع، ولعل نظرة واحدة على وضعية المعلم في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، ومقارنتها بحال معلمي اليوم ما يكفي لتوضيح حجم الخراب الذي حل بالبلاد على يد "مماليك يوليو".
ثمة نتيجة كارثية أخرى لحصاد انقلاب يوليو، تمثلت في تعلق الناس بالأشخاص وليس بالمؤسسات، فقد تجمعت كل خيوط اللعبة في يد رجل واحد، وسادت هذه الثقافة على مستويات أدنى لتصل إلى نخاع الدولة، فشخص الوزير أهم من آليات العمل بالوزارة، لأن كل وزير جديد يمحو تراث أسلافه، كأن التاريخ يبدأ بشخصه، وحتى على مستوى كبار وصغار الموظفين، وباختصار لم تعد هناك آليات عمل، بل إدارة عشوائية يحكمها المزاج الشخصي والفساد، وأضيف إليها أخيرًا الهوس الديني والنفاق الاجتماعي.
عسكرة المجتمع
على نحو ببغائي يردد كثير من المثقفين مقولة مفادها: "إن الدولة المصرية اعتادت تنظيم شؤون الفكر بالتوازي مع تنظيم عملية الري"، وهو ما يعني أن الحالة الحضارية عملية متصلة متكاملة، كما يؤكدون أن كل عملية تغيير حقيقية كانت تخرج دائمًا من قلب السلطة، ويقوم فيها المثقف الموظف بدور الكاتب وكاهن المعبد، كما أنه من طبيعة الجهاز الإداري "أن يميل إلى الاستمرارية لا الجدلية، وإلى النظام الصارم وليس التغييرات الراديكالية، وتغليب الاستقرار على قيم الحرية وحقوق الاختلاف والتنوع.
يقودنا هذا إلى تساؤلات حول طبيعة الطبقة النخبوية التي أفرزها "انقلاب يوليو"، لنكتشف أن أساس بنية هذه الطبقة هي "العسكريتاريا"، التي أفرزت نماذج معاصرة من المماليك الذين سطوا على قصور "الباشاوات"، واحتلوها بعد طرد أصحابها منها، فيما كانت تنشر زوجاتهم "الغسيل" على شرفات القصور الرخامية، وتحولت أجمل التحف المعمارية إلى مقار هيئات حكومية، وغرق هؤلاء المماليك الجدد حتى آذانهم في ملذات تجاوزت الخيال المرضي، فمن حفلات الجنس الجماعي، إلى جمعيات "تبادل الزوجات"، ناهيك عن تصوير الفنانات، وحتى طالبات الجامعة لم يسلمن منهن حينذاك، بينما كانت إسرائيل تعد للانقضاض على سيناء، في وقت كان مماليك يوليو وبطانتهم قد تحولوا إلى "دون جوانات وشبّيحة".
بعد كل هذا ألا يحق لنا أن نتساءل عن التناقض بين الاتهامات التي وجهت للملك وحاشيته، والتي دارت في فلك الفساد الأخلاقي، بينما انغمس "مماليك يوليو" في موبقات ربما لم تخطر على بال فاروق وقواديه.
ومع ذلك أعترف دون مكابرة بأن الفساد الأخلاقي والسياسي كان موجودًا قبل يوليو، لا شك في هذا، لكنه أيضًا لم يتوقف بعد الانقلاب، وحتى لم يتراجع، لكنه ازدهر وصار لعبة "فجة"، مارسها الذين كرسوا منظومة قيم هي الأسوأ في تاريخ الدولة المصرية، فالتفت حول المماليك الجدد شرذمة من الأفاقين والمحتالين، وتحول النفاق والانسحاق إلى أبرز المؤهلات الوظيفية، وصار ملمحًا لا تخطئه العين في "الموظف المصري"، الذي يشعر أنه لن يستمر في موقعه إلا بالنفاق والتملق، وليس بالعمل ولا الموهبة.
ولعل السبب ببساطة أن هؤلاء الذين اختطفوا عرش النيل في لحظة استثنائية، بدأت علاقتهم بالسياسة والثقافة بعد الانقلاب بخمسة عشر عامًا، وتحديدًا بعد هزيمة يونيو 1967، والتي يدللونها بتعبير مخادع هو "النكسة"، وحين بدأ السادة يفهمون، ويقرؤون الصحف، ويتنحون ثم يتراجعون عن التنحي، كانت "مالطة قد خربت"، وصارت سيناء كاملة في قبضة إسرائيل لأول مرة في التاريخ منذ عهد أحمس.
قصارى القول فإن يوليو 1952 كان حدثًا كارثيًا في تاريخ مصر، يليق بالحداد لا الاحتفاء، وقد لا يتسع المقام هنا لحصر بنود فاتورته الثقيلة التي دفعها آباؤنا وندفعها وسيدفعها أبناؤنا وربما أحفادنا، حتى نفيق ونتوقف مع أنفسنا في لحظة مكاشفة، كما فعل الألمان واليابانيون وغيرهم من الأمم المتحضرة.
والله المستعان
* رئيس تحرير "الأزمة"
Nabil@alazma.com
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :