الإنسان والعلم والدين
بقلم: راندا الحمامصي
لقد وُجِدت الإنسانية لتعرف خالقها وتُنفِّذ مراده،فالبشر هم ركيزة العالم الوارثون له والأمناء والأوصياء عليه. وما التعبُّد لله إلا أسمى وسيلة يمكن بها للدافع الإنسانى الخفى تلبية حاجة الإنسانية لمعرفة خالقها. فالتعبُّد لله حالة تستدعى أن يُسلِّم الإنسان أموره تسليماً قلبياً كاملاً إلى ذى القوة والسلطان الجدير بالولاء والتعظيم:"وملك الدهور الذى لايفنى ولا يُرى الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور"(1).ولايمكن الفصل قطعاً بين روح التقديس والإجلال هذه وبين التعبير عنها تعبيراً يخدم بالفعل الهدف الإلهي الذى شاءه الخالق للجنس البشرى:"قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسعٌ عليم"(2). ويلقى هذا المفهوم ضوءاً ينير السبيل لتتوضَّح المسؤوليات التى يتحمَّلها البشر، فيصرّح القرآن الكريم:"ليس البِرُّ أن تولُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكنَّ البِرَّ من آمن بالله... وآتى المال على حبِّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين..."(3) ويؤكد السيد المسيح لأولئك الذين استجابوا لدعوته قائلاً:"أنتم ملح الأرض"(4) ويضيف أيضاً "أنتم نور العالم"(5) ويلخِّص النبى ميخا فى سؤال يسأله،موضوعاً يعاد تكراره مرةً بعد آخرى فى النصوص العبرية المقدسة ويعود فيتكرَّر لاحقاً فى الإنجيل والقرآن الكريم،السؤال هو:"وماذا يطلبه منك الرَّبُّ إلا أن تصنع الحقَّ وتحبَّ الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك؟"(6)
تتفق هذه النصوص المقدسة فيما بينها على أن توصُّل الروح الإنسانية إلى فهم غاية الخالق لن يكون بفضل مجرَّد ما تبذله من جهد، ولكن بفضل تلك الواسطة الإلهية التى تُمهِّد السبيل لتحقيق ذلك. وقد شرح السيِّد المسيح هذه المسالة بوضوح لايمكن أن ننساه،إذ قال:" أنا هو الطريق والحقّ والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي".(7) فإذا جاز لنا أن لا نأخذ هذا التأكيد على أنّه مجرَّد تحدٍّ جازم لتلك المراحل الآخرى من مراحل ذلك السياق الواحد المستمر للهداية الإلهية،فلعلَّه من الجائز أيضاً أن نجد فيه تعبيراً يوضِّح الحقيقة الرئيسية فى كل دين من الأديان السماوية، ألا وهى أنّ الوصول إلى حقيقة الغيب الباعثة على الوجود وعلى دوامه واستمرار حياته، لايمكن أن يتمَّ إلا بواسطة الإشراقات المنعشة للروح والمنبعثة من ذلك الملكوت الإلهي. ويجدر بالذكر هنا أنَّ من أحبِّ الآيات القرانية إلى النفس تلك الآية الكريمة التي ترد فيها العبارة المجازية التالية:"الله نور السموات والأرض...نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء".(8) أما بالنسبة إلى أنبياء بنى إسرائيل فإنّ الواسطة الإلهية التى عادت إلى الظهور في ما بعد المسيحية في شخص "ابن الإنسان" وبعد ذلك في الإسلام متمثِّلة في "كتاب الله"، قد اتخذت شكل ميثاقٍ مُلزِمٍ أبرمه الخالق العزيز مع إبراهيم الذي كان نبياً وزعيماً لقومه:"وأقيم عهدى بينى وبينك وبين نسلك من بعدك فى أجيالهم عهداً أبدياً. لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك".(9)
إنّ تتابع المظاهر الإلهية نجده فى كل الأديان الرئيسية فى العالم سِمَةً من السمات المذكورة ضمناً أو علناً فى الغالب، ولعلَّ أول وأوضح إشارة إلى تتابع المظاهر الإلهية جاء ذكره فى كتاب البهاغاواد-غيتا" الهندى:"إنى آتي وأذهب، ثمَّ أعود، عندما تتضاءل التقوى،يا بهاراتا! وعندما يقوى الشرُّ، أعود من عصر إلى آخر وأتخذ لنفسي شكلاً يظهر للعيان ثمَّ أسير بين الناس رجلاً كغيرى من الرجال، فأغيث أهلَ الخير وأدحر أهل الشرِّ ثمَّ أقيم الفضيلة على عرشها مرةً آخرى".(10) تمثِّل هذه المشاهد المتتابعة المستمرة البنية الأساسية للكتاب المقدس الذي تتحدث سلسلة فصوله المتعاقبة ليس عن رسالتيّ إبراهيم وموسى_ الذى عرفه الرَّبُ وجهاً لوجه"(11) فحسب، بل تتحدث أيضاً عن ذلك الرهط من الأنبياء من غير أولي العزم، الذين قاموا على دعم وتطوير ما أتى به كل من إبراهيم وموسى بصفتهما صاحبى مسار الأحداث الذي خطَّطا له شرعاً بتنفيذه.وبالمِثل فإنه من غير الممكن أن تنجح التأويلات الملأى بالعجائب والمثيرة للجدل والخلاف والمتعلقة بحقيقة السيِّد المسيح وطبيعة حياته فى فصل رسالته عمَّا حققه كلّ من إبراهيم وموسى من تحوّل وتغيير وأثرهما على المسيرة الحضارية. ولكن السيِّد المسيح أعلن بنفسه أنه ليس الذي سوف يحكم بين الناس ليدين أولئك الذين رفضوا رسالته،وذكَّر مستمعيه بأن الذي سوف يحكم عليهم هو موسى "الذي عليه رجاؤكم، لأنكم لو كنتم تصدِّقون موسى لكنتم تصدِّقونني لأنه هو كتب عنيّ... فإن كنتم لستم تصدِّقون كتب ذاك فكيف تصدِّقون كلامي؟"(12) وبنزول القرآن الكريم يصبح موضوع تتابع الرسالات الإلهية فيه موضوعاً رئيساً:"قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب... وما أُتي موسى وعيسى وما أُتى النبيُّون من ربِّهم..."(13)
ولابُدَّ لأىِّ مطّلع على أمثال هذه المقتطفات يتحلَّى بالموضوعية وينظر إليها بعين العطف أن يجد فيها إقراراً بأن الأديان في جوهرها واُسُسها دين واحد. وهكذا فإنّ لفظة "الإسلام" (ومعناها الحرفي هو التسليم لله") لاتعنى مجرَّد رسالة خاصة بعثتها العناية الإلهية وجاء بها النبيُّ محمّد عليه السلام فحسب، بل تعنى أيضاً كما توضحه كلمات القرآن الكريم بشكل حاسم، أنه الدين أيضاً.فإن كان من صحيح القول التحدُّث عن وحدة الأديان كلِّها، فإنّه من الضروري أيضاً أن نفهم السِّياق الذى يأخذه هذا الحديث. وعلى أعمق المستويات، فلايوجد هناك إلا دينٌ واحد. فالدين هو الدين، تماماً كما أن العلمَ (النظامي) هو العلمُ أيضاً. يميِّز الدين المبادئ التى تتكشَّف متتابعة عبر الظهور الإلهي ويعرّفها، أمّا العلم فهو الوسيلة التي يقوم العقل البشري عن طريقها باكتشافاته ومن ثمَّ يمكِّنه ذلك من أن يؤثِّر دوماً تأثيراً تاماً على العالم الطبيعى الظاهر. فاالأول يحدِّد الأهداف التي تخدم أغراض مسيرة التطور والتقدُّم، والثانى يساعد على تحقيق تلك الأغراض. فالدين والعلم يشكلان شِقَّي نظام المعرفة الذي يدفع بالحضارة الإنسانية قُدُماً. وقد وصفا العلم والدين بأنّهما:"إشراقات شمس الحقيقة".
ومن ثم فإن الاعتراف بالمقام الفريد الذى يمثِّله كلٌّ من موسى وبوذا وزرادشت وعيسى ومحمّد إضافة إلى " مظاهر الحق"(Avatars) الذين صاغت إلهاماتُهم النصوص الهندوسية المقدسة، يبقى اعترافاً ناقصاً إذا ما اعتُبرت رسالة كل من هؤلاء رسالة قائمة بذاتها جاءت بدين جديد منفصل ومتميز. بل لأجل أن نفي هؤلاء حقَّهم من الإعزاز والتقدير علينا أن نعترف بأنّهم المربُّون الحقيقيون فى التاريخ الإنسانى وأنّهم أيضاً الباعثون على بناء حضارات ازدهر فيها الوعى الإنسانى. وهاهو الإنجيل يعلن أن الله " كان فى العالم وكَّون العالم..."(14) وحيث إنّ هؤلاء قد حظيت شخصياتهم بإجلالٍ فاق بصورة لا حدّ لها ما حظيت به آية شخصية تاريخية أخرى، وانعكس هذا الاجلال فى محاولة التعبير عن مشاعر عميقة لا يمكن وصفها مسَّت أفئدة ملايين لاتُعدُّ ولا تُحصى من الناس بعثتها ما أغدقته عليهم إسهامات هؤلاء الرسل والأنبياء من عميم البركات، وهكذا تعلَّمت الإنسانية تدريجاً معنى محبة الله من خلال محبة البشر لهم. وفى الواقع ليس هناك من سبيل آخر لتحقيق ذلك. ولم يكون إكرام هؤلاء الرسل والأنبياء في ما يُبذَل من جهود متعثِّرة لتحديد سرَّ جوهرهم الأصيل بابتداع عقائد يخترعها خيال البشر، بل إنّ إكرامهم الحقَّ يكمن فى أن تتنازل النفس الإنسانية عن ارادتها مسَلِّمة كلَّ أمورها دون قيد أو شرط لتكون خاضعة لقوى التحوُّل والتغيير التى جاءت بواسطة أولئك الرسل.
------------------------------------
1-رسالة بولس الرسول الأولى إلى "يموثاوس"الاصحاح1،الآية17
2-سورة آل عمران،الآية73
3-سورة البقرة الآية 177
4-انجيا متى،الاصحاح5،الآية13
5-انجيل متى، الاصحاح 5، الآية14
6-"ميخا"،الاصحاح 6،الآية8
7-انجيل يوحنا،الاصحاح 14الآية6
8-سورة النور،الآية 35
9-"تكوين"،الاصحاح17،الآية7
10-Bhagavad-Gita,chapterIV,Sir Edwin Arnold translation.
11-"تثنية"،الاصحاح34،الآية10
12-انجيل يوحنا،الاصحاح5،الآيات45-47
13-سورة البقرة،الآية136
14-"انجيل يوحنا"،الاصحاح1،الآية10
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :