ذكريات.. العمر اللي فات -23
بقلم :انطوني ولسن
ثانيا: في أستراليا..9
ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وان اقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر.. سأفعل ذلك لإستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات العمر اللي فات..
دعونا الآن نكمل الحكاية..
ما أجمل أن يجلس الإنسان بينه وبين نفسه يعيد قراءة تاريخ أيام عاشها هذا الانسان، وتفاعل معها، ولم يكن نسيا منسيا بل كان متاثراً لكل ما يدور حوله في العمل او خارج العمل ومؤثرا فيه. فما بالنا لو حدث هذا في بلد ليس بلده، وبلغة ليست لغته!!.. هنا تكون مشاركة هذا الإنسان قراءة تاريخه لها أهمية خاصة لأنها تاريخ حقبة زمنية عاشها احد ابناء اي جالية هاجر الى أستراليا وعمل بكل جهد من اجل البلد الذي فتح له ولعائلته ذراعيه، وحاول مع الناس كلا حسب امزجته الخاصة، من شجع ومن حاول التحطيم. لذا أجد في كتابة ذكرياتي في أستراليا نوعا من الالتقاء بأبناء الجالية العربية لقراءة هذا التاريخ سويا، لأن المشاركة جزء هام جدا في حياة الانسان الذي يؤمن بوجود الفرد الذي لا كينونة له او صيرورة إلا بوجوده في المجتمع.
مشوار العمل طويل وذكرياته جميلة، لأن العمل هو نعمة وبركة من عند الله، والانسان وجد في الحياة لكي يعمل ويخلص في عمله لأن الاخلاص في العمل نوع من العبادة.
في البريد وبعد اجتيازي تلك الامتحانات التي لو قورنت بإمتحاناتنا الدراسية في بلادنا والتي على الرغم من الحشو الكثير في موادها الدراسية، أقول لو قارنتها عن نفسي بامتحانات البريد لقلت بكل امانة وصراحة انها اصعب بكثير من امتحاناتنا المدرسية او الجامعية. وكانت لنصيحة الزملاء في مصلحة (الباصات) دافع كبير للتحدي والمثابرة والعمل الشاق سواء في المدرسة (اثناء ماكنا نتلقاه من تعليم عن العمل) أو المنزل (عندما اتخذت خطوة التدريب على فرز الخطابات في المنزل).وهنا يجب ان اذكر زوجتي واولادي الذين بذلوا كل جهد وتضحية لتهيئة الجو الملائم لمتابعة دراستي للثانوية العامة (نظام 3 سنوات في عام واحد) في مصر والتحاقي بعد ذلك بجامعة الاسكندرية وتحمل المسكينة زوجتي عبء الإشراف على الأولاد وحدها في معظم الأوقات، واذكر ايضاً المرحوم والدي والمرحومة أمي ومساعدتهما لزوجتي والمكوث معها طوال فترة امتحانات كل آخر عام دراسي بمدينة الاسكندرية.ولا أنسى فضل شقيقي مكرم الذي لم يبخل بالمساعدة المادية إن كان ليٍ أو لأسرتي أثناء فترة الأمتحانات .
نعود الى العمل وذكرياته.. بدأت العمل وسط جو غريب علي في مصنع الزجاج بواترلوو.. وهو أول عمل لي كعامل في حياتي.. ولم يكن لدينا الوقت الكافي للإختلاط والتعارف اكثر إلا فترة الغداء وقليلاً ما تجد من تتحدث اليه. وفي العمل (كمسارى - محصل) في مصلحة (الباصات).. وهو ايضاً أول عمل في حياتي اقوم به.. في أستراليا لا وقت كاف للإختلاط الحقيقي والكلام.. لكن كانت فرصة لي للاختلاط بالناس من جميع الأجناس.. أما في البريد فالصورة مختلفة.
في تلك الفترة كنت تقريباً اول موظف من خلفية شرق أوسطية. حقيقة كان هناك جورج ارمني مصري وكان قد شق طريقه داخل العمل. وجورج آخر لبناني تتدرج حتى وصل الى مرتبة مدير عام وكانت لي معه ذكريات عمل جميلة، لم يكن يتحدث العربية ولم أفرض عليه يوما التحدث بها. وكان ايضا شابان مصريان ارمن واتذكر احدهم عندما كان يثور ويتحدث بصوت عال لاعنا العالم على سكوته إذاء الجريمة التي ارتكبتها تركيا ضد الأرمن والمذابح التي قضت على أكثر من مليون أرمني رجالاً ونساء وأطفال مدنيين لا حول لهم ولا قوة، وكان دائم المقارنة بما حدث لشعبه في تركيا وما حدث لليهود في المانيا وكيف وقف العالم مع اليهود ولم يقف مع الأرمن. والغريب في الأمر انه كان يقول ما يريد قوله بصوت عال وهو مستمر في العمل ولا احد يوقفه عن الكلام وكانت لغته الانجليزية ممتازة وكان يحلو الحديث بيننا اذا تصادف وجلسنا متجاورين.
أخذت أكون علاقات وصداقات مع الجميع واضعا نصب عيني معرفة كل صغيرة وكبيرة في العمل، مع دراسة المناخ البشري في العلاقات العامة بين الرؤساء والمرؤسين. ومبدأي الذي لم يتغير هو إعتبار العمل ذاته هو رئيسي والأخلاص له هو محور واساس تعاملي داخل العمل.. لأنني هكذا كنت في مصر.
بعد ذلك هلَّ علينا العرب افواجاً أفواجاً.. مصريون ولبنانيون وسوريون وأردنيون واكراد، وبدأ العمل يأخذ شكلاً آخراً جديداً. انه الغزو العربي. بدأنا بالطبع نتحدث باللغة العربية، نجلس إلى جوار بعضنا البعض ولا احد يعترض على ذلك. اتذكر مرة جاءني الـ Supervisor ، إنتحى بي جانباً بعيداً عن بقية الزملاء وتحدث الي طالباً مني أن اخبر زملائي وزميلاتي من العرب بضرورة التحدث باللغة الانجليزية حتى لا يسيء فهم ما نتحدث به من غير العرب.
على الرغم من أنني كنت اوافقه الرأي، إلا انني وجدت نفسي ارد عليه قائلاً:
اننا احرار نتحدث باللغة التي نراها مناسبة للتعبير عن ما نريد ان نتحدث عنه من مواضيع. وانه لا يوجد قانون يمنعنا. كل ما سأطلبه منهم ان يخفضوا من صوتهم وأريد ان اسألك كرئيسنا في العمل..هل اثر حديثنا بلغتنا على العمل؟
- لا..
- آسف بعد إذنك سأعود الى العمل..
تركته وعدت الىمقعدي وباشرت عملي وأخبرت الزملاء بما دار بيننا من حديث.
كماسبق وقلت أهم شيء عندي هو دراسة المكان والأعمال. وجدت أعمالا لا يستطيع باي حال من الاحوال ان يقترب منها Wog .. «أي غير أسترالي». اخذت أبحث عن منفذ ادخل منه إلى تلك الوظائف وايضاً أفضل وقت عمل لان المصلحة تعمل على مدار 24 ساعة يوميا.. وقت عمل يبدأ الساعة السادسة صباحاً، يليه آخر الساعة الثامنة، ثم الساعة الحادية عشرة، ثم الساعة الثانية بعد الظهر، وفي الساعة السادسة مساء تأتي مجموعة للعمل time Part وفي العاشرة مساء يبدء الـ Night Shift .
بدأت أطالب بالعمل في جميع تلك المواعيد، وبدأت اقترب من حواجز الأعمال الخاصة. صادفتني متاعب جمة للتعصب الأعمى والنظرة المستعلية . لاحظ تصميمي على اختراق تلك الحواجز اثنان تريفور المدرس بالمدرسة والذي عاد الى عمله كأحد رؤساء الاقسام وآخر إسمه كيث وهو يرأس كل رؤساء الاقسام ومساعد الـ Supervisor ثقة المدرس فيّ، قربتني إلى كيث الذي كان في مصر اثناء الحرب العالمية الثانية وأحبها. وكنا نسرق الوقت للحديث عن مصر وذكرياته هناك، مساعدتهما اعطتني الضوء الأخضر وبدأت اتولى الأعمال التي كانت موصودة أبوابها امامي. وعرفت الاسرار التي تجعلهم يتمسكون بتلك الأعمال لأنفسهم واخذت بنصيحة كيث عندما قال لي:
- اي عمل يقوم به أسترالي وتجد الفرصة للعمل معه او ان تحل محله لا تتوان في انتهاز الفرصة.
وكنت اول مصري وناطق بالعربية في المصلحة الذي استطاع ان يخترق الحواجز بعد جورج اللبناني وجورج المصري الارمني، لانهما جاءا إلى أستراليا صغيري السن وتربيا هنا وكادا ان ينسيا اللغة العربية ولا يتحدثان مع احد باللغة العربية. وكم من صعاب وتحديات قابلتني لإبعادي عن تلك الأعمال.
اختراق حاجز الأعمال التي يقوم بها الانجلو ساكسون لم يكن بالأمر السهل. وبدأت بالفعل الإقتراب منها وتخطيها. زد على ذلك اصراري على اثبات الوجود منذ التحاقي بالعمل في البريد جعلني احاول بكل الطرق أن أعرف أكبر قدر ممكن من المعرفة عن كل ما يدور حولي.. العمل.. النقابة.. الإدارة.. التنظيم.. ورديات العمل المختلفة على مدى الأربع والعشرين ساعة يومياً.. ومن بيده السلطة الحقيقية.. والكثير فعلا من الأمور التي ساعدتني في التحدي. لم تكن هي رغبة في أي عمل رئاسي. لكن كانت وما زالت عندي رغبة المعرفة.. أريد أن أعرف. ولكي أعرف عليّ أن أمارس العمل بنفسي. وكي أمارس العمل بنفسي عليّ أن أجد الوسيلة التي استطيع بها الوصول الى المعرفة. بدأت بالفعل أدخل ابوابا كانت موصدة امام كل مهاجر جديد، قد يكون مارسها مهاجرون ليسوا من اصل انجلو ساكسوني. لكنهم على الأقل كانوا قد ولدوا في أستراليا او جاءوا مع ذويهم صغارا ونشأوا وترعروا هنا. أما امثالي من المهاجرين فكان من الصعب علينا الاقتراب من هذه الوظائف او الأعمال.
إكتسبت ثقة رؤسائي.. المباشر منهم وغير المباشر.. بدأت بالتقرب من الرجل القائم بعمل (السنديكيت) اي إعداد كشوف باسماء الموظفين ومواعيد ونوع العمل لجميع الفترات ما عدا الفترة الليالية وهذه الكشوف تصدر أسبوعياً من الإدارة وعمل (السندبكيت) هو محاولة وضع كل موظف في الوردية التي تناسبه بالتبديل مع موظف آخر. مثلا لو أن إسمي جاء في كشف الإدارة هذا الاسبوع العمل في الوردية المسائية التي تبدأ الساعة الثانية بعد الظهر. لكن أرغب في العمل في الوردية الصباحية والتي تبدأ في الساعة السادسة صباحاً فيقوم بتبديلنا وعلى كل منا ان يقوم بعمل الآخر.. وهكذا. وجاء تقربي الى الرجل بقبولي العمل في اي دورية إذا احتاجها لأحل محل زميل آخر، مما جعله يحاول رد الجميل بوضعي في بعض الأعمال التي أريد أختراقها. بل كانت في بعض الاحيان تأتي التجربة عند قبولي العمل مكان موظف آخر ويتصادف ان يكون العمل من الأعمال الممنوعة علينا.
هكذا سرت في طريق المعرفة.. وهكذا استطعت أن أدخل عالمهم.. وعالمهم لم يكن عالما مليئاً بالأسرار أو يحتاج إلى ذكاء خارق يقوم به إنسان على درجة كبيرة من العقل او التعليم.. بل على العكس وجدت ان كثيرين منهم على درجة علمية اقل بكثير منا نحن المهاجرين الجدد. كل ما هناك انهم ينظمون العمل بطرق ينالون بها اكبر قسط من الراحة المتبادلة.
على مر الأيام حصلت على ثقة هؤلاء الموظفين انفسهم وكانوا هم الذين يطلبونني بالأسم لاحل محلهم. لأنني لم افشِ بسرهم لاحد، ما عدا العمل مع ذلك الاسكتلندي المعقد خاصة وكنت قد بدأت اخطو خطوة أعلى في الترقي الوظيفي الذي كان ينقسم الى قسمين.. رئاسي وكتابي إداري. وكان الوحيد الذي لا يطيق رؤيتي او رؤية اي مهاجر جديد.. لكني كنت قد بنيت تعاملي معه على التجاهل التام لوجوده على الرغم من انه اكثر مني خبرة وخاصة ان العمل الذي نقوم به له حساسية خاصة لأنه مرتبط بتحديد العقوبات المالية على الطرود او الخطابات العادية او الكبيرة إن لم يكن الراسل قد الصق طابع او طوابع بريد بقيمة حجم ووزن الطرد او الخطاب صغير او كبير الحجم. إلا انني بذلت جهداً كبيرا لاتقن العمل ولا احتاج إليه. وعند احتياجي كنت أسأل آخرين ممن يمارسون العمل او ممن لديهم فكرة عن العمل ولا أسأله.. أهملته.. تجاهلته.. لم استمع الى تذمره وغضبه ولغته الغير مهذبة. فكل طرق الاستفزاز اتي حاولها لم تحرك فيّ ساكنا إلى ان جاء يوما وكنت أعمل في وردية المساء، وبعد العودة من فترة (تناول الطعام)، كان يبدو عليه انه اثقل في شرب البيرة. فحاول ان يستفزني بطريقة مثيرة فعلاً.. فما كان مني إلا ان ذهبت الى الـ SuperVisor وقصصت عليه كل شيء. نادى عليه وأخبره بشكواي فلم يخفِ الرجل عنه حقيقة ما فعل. بل اعترف بكل شيء وقال انه لا يستطيع ان يقبلني او غيري من المهاجرين. طلب منه السوبرفيزر ان يعتذر لي. جاء الرجل وبكل أدب وإحترام إعتذر لي.
لم تمضي دقائق على الاعتذار حتى مضى واختفى. فوجئت بوجود موظف آخر حلّ محله مما إضطرني ان اقوم بعمله ويقوم الموظف الآخر بعملي لأنني أقدم منه في معرفة العمل. والغريب انه لم يأت بقية الأسبوع ولم يجمعنا اي عمل آخر. انه يفضل عمل الفترة المسائية التي تبدأ من الساعة الثانية بعد الظهر وحتى العاشرة والنصف مساء. وبعدها بدأت القيام بأعمال اخرى رئاسية.. فكان عندما يعرف أنني سأكون رئيسا عليه في ذلك الاسبوع، يتغيب عن العمل ولا يأتي حتى لا يجد نفسه في وضع أقل مني. وبحكم العمل عليه أن يقدم تقريره اليومي عن عمله إلٍي لأرفعه بدوري بعد مراجعته الى رئيسي.
اما بقية الزملاء فكانت علاقتي بهم طيبة..
وإلى لقاء.. و ذكريات العمر اللي فات.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :