الطائفية بين الأنبا بيشوي والدكتور العوا
بقلم :د.سامر سليمان
أضم صوتي إلى الدكتور محمد سليم العوا في مطالبته الأنبا بيشوي بالاعتذار للمسلمين عن وصفه لهم بالضيوف وعن خوضه في آيات القرآن الكريم. ولكني أعتقد أن الاعتذار للمسلمين لا يكفي. فهو مستحق أيضاً للمسيحيين الذين سيدفع بعضهم ثمناً باهظاً لتصريحات الأنبا بيشوي. وهو مستحق للشعب المصري أولاً وأخيراً لأن الأنبا يساهم مع نظرائه من المتعصبين المسلمين في إمداد بؤسائه بالمخدرات الطائفية، وهي المخدرات التي تعد لازمة لاستمرار الظلم والاستبداد، بما أنها تلهي البؤساء قليلاً عن بؤسهم، وبما أنها تستنزف طاقة التيارات الديمقراطية والإصلاحية المصرية عندما تضطر إلى أن تهب لمحاولة إطفاء حرائق الطائفية التي يشعلها عن عمد بعض زعماء الطوائف أو الباحثين عن زعامة طوائفهم. لكن للضرورة أحكام! نحن ندخل على انتخابات رئاسية وبرلمانية. والتسخين الطائفي له "فوائد" كثيرة لا تخفى عن أصحاب الفطن!
أما الدكتور سليم العوا فلن أضم صوتي إلى من يطالبه بالاعتذار، فالاعتذار لن يفيد كثيراً في حالته. ولكني سأضمه إلى من يطالبه بأكثر من ذلك، أي بمراجعة وتصحيح الكثير مما قال في الأسابيع الأخيرة. لأن ما قاله له تداعيات خطيرة تفوق بكثير تلك الناتجة عن التصريحات الجوفاء للأنبا بيشوي. والحقيقة أن ما قاله ليس بجديد. الإدعاء بوجود مخازن سلاح في الكنائس والأديرة سمعته بأذني منذ أكثر من عشرين عاماً. والحقيقة أن هناك تيار متعصب في المجتمع يحترف صناعة إشاعات وأكاذيب. وقد حلت الانترنت وبعض الفضائيات كهدية ثمينة لهذا التيار. ففي هذه المساحة يمكن أن تقول كل شيء وأي شيء من اختطاف المسيحيات إلى احتجاز المسلمات. في الواقع الدكتور العوا لم يقم إلا باستعارة بعض مما تقوله هذه التيارات. الدكتور العوا حاضر في المجال العام باعتباره مفكر إسلامي وسطي أو معتدل. وبما أن المجتمع ينجرف إلى أقصى اليمين فهناك معضلة أمام أهل الوسط.. هل يتمترسوا في مواقعهم الوسطية مراهنين على المستقبل، حتى لو خسروا بعض الشعبية الآنية التي ستذهب عنهم إلى من هم أكثر تشدداً؟ أم يتحلوا "بالمرونة" فيجاروا التطرف مع تحمل بعض الخسائر في أوساط المعتدلين؟ يبدو أن الدكتور العوا قد حسم موقفه في الأسابيع الماضية؟
هذه المقدمة مهمة لبيان خلفيات التسخين الطائفي الذي ابتليت به مصر خلال الأسابيع الأخيرة قبل أن يدخل في موضوع هذا المقال وهو الاشتباك النقدي مع بعض – وليس كل - ما ورد في مقال الدكتور العوا المنشور في جريدة الدستور يوم الأحد الماضي. وفي هذه المقال سأركز على نقطتين.. الأولى تتعلق بقول الدكتور سليم "لا المسلمون يضطهدون الأقباط ولا الأقباط يضطهدون المسلمين". وقد قال ذلك في معرض رفضه أن يتحدث الأنبا بيشوي عن استعداد المسيحيين للشهادة في سبيل الدفاع عن عقيدتهم. كاتب هذه السطور يشارك الدكتور محمد سليم في رفضه مجمل ما قاله الأنبا بيشوي، ويتفق معه في رفض مقولة أن المسلمين بالمجمل يضطهدون المسيحيين بالمجمل. فالمسلمين والمسيحيين فيهم الكثير من المنصفين وأصحاب المبادئ الذين لا يرتضون ممارسة الظلم والاضطهاد. وكاتب هذه السطور شاهد على حالات كثيرة تدخل فيها مسلمون صالحون لكف الأذى عن مسيحيين. مقولة الاضطهاد لا يعقل أن تنسحب على جماعات دينية بأكملها. ولكن هذا لا ينفى وقوع بعض حالات الاضطهاد والتمييز الديني في مصر. وهذا الاضطهاد تقع مسئوليته على من يمارسه ومن يشجعه ومن لا يطبق القانون في مواجهته. فإذا لم تكن مذبحة الكشح الذي راح ضحيتها عشرون نفساً اضطهاداً فماذا يكون الاضطهاد؟ وإذا لم يكن إفلات المجرمين بجريمتهم حتى هذه اللحظة اضطهاداً فما هو الاضطهاد؟ وإذا لم يكن الاعتداء على ممتلكات بعض المسيحيين وترويعهم للحيلولة دون بناء كنيسة هنا أو هناك اضطهاداً، فماذا يكون الاضطهاد؟ وإذا لم يكن حرق بيوت بعض البهائيين والاعتداء عليهم وترويعهم وحرمانهم من استخراج بطاقات هوية مصرية اضطهاداً، فبالله عليكم ما هو تعريف الاضطهاد؟ هذا عن الاضطهاد، أما التمييز فالقائمة تطول وتتسع للعديد من حالات الحرمان من الترقية والدوس بالإقدام على مبدأ الكفاءة والاستحقاق ضد ناس أكفاء بسبب ديانتهم. من الغريب فعلاً أن ينكر الدكتور العوا وجود اضطهاد وتمييز ديني في مصر. فهل ينكر أيضاً وجهود اضطهاد وتمييز طبقي واجتماعي؟ فهل يسمع عن هؤلاء الذين يدوسون على الآخرين قائلين "أنت مش عارف أنا مين؟" وإذا كان قانون الغاب - قانون القوي يأكل الضعيف – هو السائد بشكل عام في المجتمع، أليس من المنطقي أن يسرى أحياناً على العلاقات بين الناس في المجال الديني؟
من الغريب أن ينكر الدكتور العوا الاضطهاد الديني في الوقت الذي يزعم فيه في نفس المقال أن الكنيسة تحتجز بعض المسلمات مثل السيدة وفاء قسطنتين. فإذا لم يكن احتجاز الكنيسة لسيدة مسلمة اضطهاداً فما هو الاضطهاد إذن؟ وهذه هي النقطة الثانية التي أريد أن أشتبك فيها مع مقال الدكتور العوا. من أين تأكد له أن السيدة وفاء وغيرها مسلمات؟ لقد أورد العديد من الحالات التي زعم أنها لمسلمات تحتجزهن الكنيسة مثل ماري عبد الله. وأحال القارئ في نهاية الفقرة إلى "المصدر السابق ص 277". وبالرجوع إلى المصدر السابق يتبين أنه كتاب الدكتور العوا نفسه وعنوانه "للدين والوطن". فهل يعقل أن يستشهد الكاتب بنفسه؟ كاتب هذه السطور ليس لديه معلومات يقينية عن موضوع السيدات وفاء وماري وغيرهن. وعندما تعز المعلومات وإلى أن يتفضل المسئولون في الدولة (هل يسمعني أحد؟) علينا بمعلومات في هذه القضية لابد أن يلتزم الإنسان الحذر، وأن يلجأ إلى المنطق. فهل يعقل أن الكنيسة لديها زنازين في الأديرة تحتجز فيها سيدات؟ القصة الأقرب للمنطق أن السيدة وفاء قررت التحول إلى الإسلام، في سياق خلافات مع زوجها الكاهن. وقد أقامت الكنيسة الدنيا في موضوع السيدة وفاء ونجحت في الحصول على فرصة الجلوس معها في إطار "جلسات النصح والإرشاد" التي تمنحها السلطات للكنيسة أحياناً لكي تحاول إثناء المتحول عن المسيحية عن قراره. والقصة الأقرب للمنطق هي أن الكنيسة نجحت في إثناء السيدة وفاء عن قرارها بالتحول. تؤكد "اليوم السابع"(22 يناير (2010 أنها ذهبت إلى نيابة عين شمس في ديسمبر 2004 وأعلنت أنها مسيحية. لقد أخطأت الكنيسة قطعاً حين أثارت الدنيا لأن السيدة وفاء زوجة كاهن، وحين سكتت عن أكاذيب خطفها على يد متعصبين. لقد أضرت قيادات الكنيسة بحالة الوحدة الوطنية وبمصالح المسيحيين في مصر. لكن أخطاء الكنيسة هنا شيء والإدعاء الجازم بأن السيدة وفاء مسلمة وسجينة في الدير شيء أخر.
الجانب المهم الذي تكشف عنه قضية قسطنتين هو أن التعصب الطائفي انتقل إلى مجال النزاع على النساء. وهذا مفهوم في مجتمع ذكوري يتعامل مع النساء باعتبارهن أشياء. والجانب الأخر المهم هو أن الدكتور العوا وغيره يدافع عن حرية العقيدة في اتجاه واحد فقط. فهل يتفق معي القارئ الكريم أن مصر عموماً ليس بها حرية دينية وأن حق تغيير الديانة لا تفتقده فقط السيدة وفاء وإنما كل المسيحيين في مصر الذين ليس لهم إلا نوع واحد من حرية العقيدة وهو التحول إلى الإسلام. وهو بالمناسبة حق يفتقده المسلم في مصر، لأنه لا يحق له التحول إلى أي ديانة أخرى. ومن يشك عليه أن يتحقق بنفسه ويذهب إلى السجل المدني على سبيل التجربة لمحاولة تغيير ديانته في البطاقة. وهذا الغياب للحرية الدينية في مصر ليس منبعه الخوف من تحول جماعي للمسلمين والمسيحيين إلى البوذية مثلاً. فالمرجح أن الحرية الدينية لن تغير من التركيبة الطائفية في مصر إلا قليلاً. هذا الإصرار على مقاومة حرية الاعتقاد مرجعه أن سلسلة الاستبداد لا تكتمل حلقاتها إلا عندما تُمارس على الشعب في حقوقه الدينية. فالحرية الدينية خطيرة بقدر ما تشكل أحد مداخل التحرر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وهذا هو المطلوب حرمان الشعب منه.
قضية السيدة وفاء يثيرها الدكتور العوا إذن ليس للدفاع عن حرية هذه السيدة في العقيدة. وإنما من منظور طائفي يدعي أن هناك امرأة مسلمة تم تسليمها للكفار. ومصطلح "الكفار" ليس من عندي ولكنه وارد في الآية الكريمة التي وظفها للدفاع عن موقفه في قضية قسطنتين، في إشارة إلى أنه تم تسليمها لكفار. والحق يقال أني لا أعرف إذا كان الموقف الثابت للدكتور محمد سليم هو تكفير المسيحيين. لكن إذا أراد فذلك من حقه. وليس مطلوب منه أن يخالف قناعاته الدينية لكي يخرج المسيحيين من خانة الكفر. لكن المرتجى منه فقط أن يتذكر أن تكفير المصري قد يكلفه الكثير في مجتمع لا يؤمن بعضه بحرية العقيدة. والمبتغى منه أن يوضح لجماعته أن "الكافر" إنسان مصري له كل الحقوق وعليه كل الواجبات. فالدين لله والوطن للجميع. من هنا بدأنا في ثورة الاستقلال المجيدة عام 1919، ومن هنا نستكمل بناء الدولة الوطنية المصرية.. دولة كل مواطنيها.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :