الثقافة المسيحية ودورها في الثقافة العربية
بقلم: د. عايدة نصيف
سعدتُ كثيرًا عندما أثار الدكتور "عبد المعطي بيومي" في لقاء أقامته "الهيئة القبطية الإنجيلية" تحت شعار: "معـًا في حب مصر"، تحت رعاية القس الدكتور "أندرية زكي"، حيث أشار "بيومي" إلى أن الحضارة الإسلامية ساهم في إنتاجها مسيحيون، وأكد على أنه لا يستطيع أحد أن ينكر دور المسيحيين العرب في الحضارة الإسلامية؛ وذلك ما جعل قلمي يكتب عما يدور في ذهني، وعما كتبت من دراسات في ذلك الموضوع.
حيث أن هناك حقائق موثقة يجب أن توضع أمام الأجيال في الوطن العربي، ومن ضمن هذه الحقائق الهامة هي مساهمة المسيحيين العرب جنبـًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين العرب في بناء الحضارة العربية، وفي قيادة حركة الثقافة، فقد أسهمت حركة الترجمة منذ قرون عديدة؛ والتي قادها المسيحيون في نقل التراث القديم للحضارة الجديدة، فقد كان للمسيحيين دور في الثقافة، بداية من ترجمة التراث اليوناني من اللغة اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية، وساعدوا علماء وفلاسفة العرب للتعرف على الثقافة اليونانية.
وساهم العلماء المسيحيون في تعريب التراث اليوناني وفي حركة النهضة إبان الخلافة العباسية، ونجد ذلك موثق في (الفهرست) على سبيل المثال لـ"إبن النديم الوراق البغدادي"، والذي وضع كتابه سنة 987م، أي في القرن العاشر الميلادي، وكان متصلاً اتصالاً وثيقـًا بأكبر علماء وفلاسفة عصره، ومن بين هذه الأسماء التي ذكرها: "قسطا بن لوقا البعلبكي"، ومجهوداته في ترجمته من اليونانية والسريانية إلى العربية، و"حنين بن اسحاق"، و"يحيى بن عدي"، و"عيسى بن اسحاق بن زرعة"، و"أبو بشر متى بن يونس"، وأسماء كثيرة لا تعد؛ فهؤلاء وغيرهم ترجموا الكتب إلى العربية، والتي تعتبر نواة النهضة الفكرية التي حدثت إبان ذلك.
ولم يقتصر دور المسيحيين في ذلك الجانب فقط؛ ولكن كان يوجد منهم الأطباء والشعراء؛ وخاصة شعراء الدولة العباسية الذين اشتهروا بنقل روائع الحضارة اليونانية والسريانية إلى العربية، وتخصصوا في ميدان الفلسفة والطب.
وبالإضافة إلى ما سبق نجد المسيحيين في "مصر" لهم نصيب وافر في الثقافة المصرية، بل والعربية أيضـًا، كـ"ساويرس بن المقفع"، وهو من أوائل الأقباط الذين استعملوا اللغة العربية في كتب لها أصالة مرموقة؛ كـ"تاريخ بطاركة الإسكندرية"، فقد أصبح المصدر الأساسي لتاريخ الكنيسة القبطية، ونجد أيضـًا على سبيل المثال لا الحصر "كيرلس الثاني"، و"مرقس الضرير"، و"الرشيد أبو الخير بن الطيب" وكتابه الشهير "طلاء العقول في علم الأصول"، بالإضافة إلى "أولاد العسال" ومؤلفاتهم في المنطق والفلسفة واللاهوت، والتي ساهمت في تكوين الثقافة العربية كـ"رسالة في النفس"، و"حساب الأبقطي"، وغير ذلك من الأسماء التي ساهمت في بناء الثقافة العربية على مستوى العصور الوسطى.
فلولا مجهودات هؤلاء في ترجمة أمهات الكتب من اليونانية والسريانية إلى العربية، لما أمكن علماء العرب التعرف على هذه الثقافة.
أما عن دور المسيحيين في العصر الحديث والمعاصر؛ فنجد مشاركة المسيحيين جنبـًا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي، في مجال الحرب والسلام، والحوار بين الأديان، ودور كل من الكاثوليك والإنجيليين والأرثوذوكس في غرس الروح الوطنية، وفي بناء تاريخ الثقافة المصرية، بل والعربية، فقد أدرك المسيحيون أنهم جزءٌ من نسيج هذه الثقافة العربية، وشاركوا فيها بكل جهدهم، فلا يستطيع أحد أن ينكر جهودهم.
فعلى الصعيد الأرثوذكسي نجد جهود كل من الدكتور "زكريا إبراهيم" وفلسفته المعاصرة، و"وليم سليمان قلادة"، ودورهما في المجال الكنسي والثقافي، و"سلامة موسى"، و"لويس عوض"، والأب "متى المسكين" ودوره في الفكر اللاهوتي، وقداسة "البابا شنودة" ودوره في التسامح الديني، وغيرهم من الشخصيات البارزة التي ساهمت في تكوين الثقافة العربية؛ بداية من العصور الوسطى وحتى الآن.
أما على الصعيد الإنجيلي فنجد دور الإنجيليين والعمل القومي، وما لهم من دور رائد في الوطن على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي، وخاصة عندما نشير إلى الدور الإيجابي الذي قام به الدكتور القس "صموئيل حبيب" من نشاط ليس في "مصر" فقط، بل في معظم بلدان العالم شرقـًا وغربـًا، والدكتور "نبيل أبادير"، وقد سلَّموا رسالتهم الآن للدكتور القس "أندرية زكي".
يقول مفكرنا ومعاصرنا الدكتور "عاطف العراقي" في كتابه "البحث عن المعقول": "لا أكون مبالغـًا إذا قلت بأنني لا أتصور مصريـًا أو عربيـًا إلا ويكون قد وضع في اعتباره تحليل الأعمال الرائدة والشامخة، الأعمال الفكرية لإخواننا المسيحيين الذين آمنوا بربهم ووضعوا في اعتبارهم مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، فكيف نتصور ثقافة مصرية إذا تغافلنا الحديث عن البصمات البارزة والظاهرة لهؤلاء المفكرين الكبار؟ والذين دعوا إلى نشر أسس الثقافة الرفيعة في كل مجال من مجالاتها".
ويقول أيضـًا: "إن التعرف على معالم ثقافتنا الحديثة والمعاصرة وتحليل جذورها وسبر أغوارها لا يمكن تصوره إلا من خلال إخواننا في الوطن والإنسانية، ومَن يتغافل عن ذلك فوقته ضائع عبثـًا، وسيظل خارج إطار ثقافتنا الحقيقية".
فلا مجال إذن للحديث عن الفتن الطائفية، ولا مجال للحديث عن مسلم ومسيحي؛ فهما نسيج واحد في بناء الثقافة العربية، ومَن ينكر ذلك ينكر هويته وثقافته.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :