طبيعة الروح والشعور والوعي
بقلم :راندا الحمامصي
إن إدراك حقيقة الروح وطبيعتها أمر بعيد المنال وفوق طاقتنا، ولفهم الروح فإن الطريقة المثلى أمامنا تكمن في التحقق من خصائصها وصفاتها. فعلى مرّ التاريخ كانت هناك رؤيتان لطبيعة الروح والوعي: رؤية مادية تعتبر المادة أساس كل شيء ومبدؤه، وأن الوعي هو نتاج أنماط مادية معقدة تظهر في مراحل محددة من التطور البيولوجي (الحيوي). ورؤية روحانية تعتبر الوعي هو الحقيقة الأولية، هو رحيق الحياة في إطاره العام وماهية الصفات الإنسانية في إطاره الخاص. فالوعي (الروح) هو الذي يبعث الحياة في المادة بمستوى جسم الإنسان ويجعل الحياة الإنسانية ممكنة الوجود. على أنه في الأعوام القريبة الماضية أخذ العديد من التطورات العلمية والأفكار السائدة دوره في منحنا فهماً أفضل لهذا التداخل الحاصل بين المادة والوعي.
في كتابه بعنوان "الله وعلم الطبيعة الحديث" "God and the New Physics" كتب بول ديفس يقول: ’إن أي مفهوم يميل إلى النظرية أكثر منه إلى الواقعية لا يجعله بشكل ما غير حقيقي أو خيالياً. ثم يتطرق بعد ذلك إلى مسألة الجسم والروح بشكل خاص ليلاحظ أن ’الخطأ الجوهري للإزدواجية إنما يكمن في اعتبار الجسم والروح وجهين لعملة واحدة، بينما هما في الواقع شيئان مختلفان تماماً... فالعقل (الروح) والجسم ليسا شيئين يكوّنان الإزدواجية، بل هما حقيقتان مختلفتان تماماً تنزّلتا من مستوييْن مختلفين من الطبقة السلطوية العليا. وبعبارة أخرى، فإن جسم الإنسان ينتمي إلى طبقة معينة من الحقيقة والروح إلى طبقة أخرى، ويتفاعلان معاً في موقع العقل. أما طبيعة هذا التفاعل فغير معروفة حتى الآن وربما لا يمكن إدراكها تماماً. على أن الإكتشافات الحديثة في ميدان علم "الفيزياء الكمية" "Quantum Physics" تشير بوضوح إلى علاقة يمكن ملاحظتها بشكل يثير الإهتمام بين الوعي والمادة، وعلى الأخص في مستوى الجزيئات تحت الذرية. ’لقد أظهرت نظرية (الكمّ) أن الجزيئات تحت الذرية "Subatomic Particles" ليست ذرات منعزلة عن المادة بل أشكالاً محتملة الحدوث "Probability Patterns" في تشعُّباتٍ متَّصلةٍ بالشبكة الكونية التي تشمل أيضاً الإنسان ووعيه. فمشاهدات كهذه ومثيلاتها أخذت في زعزعة الإهتمام بمفاهيم الإزدواجية نحو ديناميكية تكامل الجسم والروح وتناسقهما.
وما ثمار هذا التكامل سوى ظهور "النفس". فالنفس البشرية إنما هي الجسم والروح معاً في وقت واحد، فلا وجود إذاً للإزدواجية، وما إحساسنا بهذه الإزدواجية إلا من حقيقة أن جسمنا وروحنا تتطوران في شكلين مختلفيْن. وعليه، نرى أن تطور الجسم قد حظي بدراسة مكثّفة أدّت إلى تفهّمه بشكل أوفى:
’طبقاً لما وجدَتْه أبحاث علم الإنسان المعترف بها فإن تشريح تطور الطبيعة البشرية لم يتمّ فعلياً إلا قبل خمسين ألف سنة تقريباً، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن بقي جسم الإنسان ومخّه بنفس الحجم والهيكل. ومن ناحية أخرى فإن ظروف الحياة قد تغيّرت بالكلية في هذه الفترة ولا يزال التغيير حاصلاً وبخطوات سريعة. وفي سبيل التكيّف مع هذه المتغيّرات أصبح لزاماً على الجنس البشري أن يستغلّ قدراته في الوعي والفكر التصوّري واللغة الرمزية حتى ينتقل من حالة التطور الجنيني "Genetic Evolution" إلى التطور الإجتماعي الذي أخذ طريقه إلى التسارع ليأخذ أشكالاً مختلفة.
فهاتان المرحلتان من تطوّر الجنس البشري – المرحلة البيولوجية (الحيوية)، والمرحلة السيكولوجية (النفسية) إنما تتبعهما مرحلة ثالثة في مسيرة الإنسان التطورية، وتلك هي التطور الروحاني. وتتجسّد هذه المراحل الثلاث في هيكلية المخ. فالمخ الجزعي، الذي يقع في أسفل أجزاء المخ ويشكل أقدمها في المسيرة التطورية، هو الذي يولّد الدوافع البيولوجية (الحيوية) والغريزية والسلوكيات الإندفاعية، أما النصف الجوفي من المخ "Limbic System"، فقد شهِد تطوراً كبيراً عند المخلوقات الثديية وهو محيط بالجزء الجزعي ومسؤول عن التجارب العاطفية والتعبير عن المشاعر. والجزء الثالث من المخ هو القشرة الحديثة "Neocortex"، وهو الذي يتمتع بأكبر قسط من التطور والنمو والتميُّز في النوع الإنساني ويختص بالأعمال السامية من قبيل الفكر واللغة. وقد استقرّ نموّ القشرة في المخ منذ حوالي خمسين ألف سنة.
إننا الآن نتقدم نحو مستوى جديد من التطور الجماعي، وفيه يحدث التكامل والتوازن بين غرائزنا وانفعالاتنا وأفكارنا في عملية واحدة موحّدة. ويكون هذا في حيّز الإمكان متى أتقنّا توسيع مداركنا وعقولنا حتى يصبح بمقدورها الإتصال بالفكر العالمي، وتلك هي عملية روحانية بحتة إذ تستثمر حريتنا في الإختيار وتتحدّانا من أجل التغيير في مواقفنا والإستغناء عن قِيَمٍ عظّمناها بل وألّهناها. فكثير من الناس يعتقدون أن تلك القِيَم إنما هي ثابتة أبدياً ولا يجوز المساس بها وتغييرها. ومع أن هذا ليس موضوعنا، فمن الواجب أن نعلم أن كل شيء في الوجود متطور وقابل للتغيير بما فيه قِيَمُنا، ذلك لأن التطور والتغيير هو سِمَة الكائنات. فيخبرنا العِلْم مثلاً أن حركة تطور عالمنا الكوني المادي من الجائز أنها بدأت بانفجار ضخم مطلِقاً حُزَماً من الطاقة هائلة، ومنذ ذلك الوقت والعالَم المادي ماضٍ في رحلة تطوُّره. إنه تطور مادي ينسحب على جسم الإنسان أيضاً في صورته المصغرة وخاصة على المخّ، وهو ما ينطبق أيضاً على تطور خوارق الطبيعة "Metaphysical" والحقائق الروحانية من قبيل: الوعي، المحبة، والخلاّقية. وللمساعدة في الإحاطة بهذه الأمور لابد من مراجعة الأفكار والنظريات التي ظهرت حول تطور الوعي والروحانية بشيء من الإختصار.
لقد حدّد كِنْ وِيلْبر "Ken Wilber" أربع مستويات من الوعي: الأنا "Ego"، الحيوية الإجتماعية "Biosocial"، الوجودية، والعلاقات الشخصية. والعلاقات الشخصية هذه مساوية لمفهوم الروحانية الذي مرّ ذكره.
أما غروف "Grof" فقد حدّد ثلاثة ميادين رئيسة للوعي: التجارب السيكوديناميكية (التحرّك النفسي) – السابق منها والحاضر، التجارب قبل خروج الجنين (عملية الولادة نفسها)، ثم تجارب العلاقات الشخصية (ما يتجاوز حدود الشخص نفسه). فوجهات النظر هذه تشبه بجوهرها ما قدّمه ينغ "Jung" وماسلو "Maslo" وغيرهما. فيحاول هؤلاء المفكّرون تقديم مفاهيم روحانية إلى صِيَغِنا حول طبيعة الحقيقة الإنسانية وأن يحدّدوا الظروف التي نستطيع فيها نحن البشر أن نعمل في أعلى مستوى من النضج والبصيرة والتكامل والخلاقية على أتمّ وجه، وهناك أفكار مماثلة في الكتابات الدينية. وحول العلاقة بين الجسم والروح وعملية الإتّصاف بالروحانية نورد هنا بياناً مختصراً وشاملاً لحضرة عبدالبهاء:
’في العالم الإنساني مقامات ثلاثة: مقام الجسم، النفس، الروح. فمقام الجسم هو المقام الحيواني للإنسان، وبهذا يشترك الإنسان مع جميع الحيوانات في القوى الجسمانية وشؤونها. فجسم الحيوان مركب من عناصر وكذلك جسم الإنسان وجميعها يحكمها قانون التجاذب.
والإنسان يملك الحواسّ كما يملكها الحيوان، فهو يشعر بالحرارة والبرودة ويجوع ويعطش... إلخ، إلا أنه يمتاز عن الحيوان بامتلاكه القوة العاقلة (النفس الناطقة)...
عندما يسمح الإنسان للروح( ) عن طريق العقل أن تنير إدراكه، حينذٍ يحيط بكل المخلوقات. والإنسان جامع لكمالات المراتب التي تقع دونه ويسمو عنها جميعها. وكونه استنار إدراكه بنور الروح، فقد أصبح تاجاً على رؤوس الموجودات، أما إذا أغلق عقله وقلبه وحرم نفسه من بركات الروح موجّهاً نفسه نحو المادّية والجزء الجسدي من طبيعته، فإنه سيسقط من مقامه ويصبح شبيهاً بسكان المملكة الحيوانية الواطئة وينحطّ بذلك إلى أسفل الدركات. فالروح الإنساني إذا لم تتعمّد بفضائل عالم الملكوت ضَمُرتْ وضَعُفَتْ قُدُراتها وتعاظمت القوى المادية وأصبحت هائلة بحيث يجد الإنسان نفسه فيها بائساً تائهاً وأشدّ فتكاً وافتراساً وظلماً من الحيوان بل وأحطّ منه، وبذلك تكون جميع قواه الجسمانية ورغباته قد سيطر عليها الجانب الأدنى من طبيعته، عندها يَجْنَحُ إلى القسوة والوحشية أكثر وأكثر إلى أن يصبح في درجة مساوية للحيوانات. وأناس من هذا النوع هم سبب أذية البشر وعلّة نكبة العالم الإنساني، مجرّدون من العواطف الملكوتية لأن كمالات الروح السماوية حالت دونها نقائص عالم الناسوت. وبالعكس، لو تغلّب الجانب الروحاني على النفس البشرية لأصبحت قدسية وملكوتية وربانية وأشرقت فيها جميع فضائل الملأ الأعلى، وكانت رحمة من الله وسبباً في الترقّي الروحاني لعالم الناسوت، ولأصبحت مشاعل الهُدى في درب الإنسانية جمعاء.
بهذا النقاش يتّضح لنا شيء واحد في العلاقة بين الوعي الإنساني وجسم الإنسان، إذ لدينا الآن تجربتان مميّزتان لوجودنا: وجود جسماني ووجود روحاني. فتجاربنا الجسمانية تحصل بقوى مادية خمس (الحواسّ): اللمس، الذوق، الشمّ، السمع، البصر. أما تجاربنا الروحانية فمصدرها خصائص العقل التي تشمل قوة: الخيال، الفكر، الإدراك، القوة الحافظة. وفوق كل ذلك لدينا القدرة على الجمع بين القوى الجسمانية والقوى العقلية بحيث تكون تجاربنا على أتم وجه.
وبناءً على ذلك، فمن ناحية نفكّر في أنفسنا بلغة الجسم والعقل على أنهما كيانان إثنان، ومن ناحية أخرى نرى أنفسنا نفساً واحدة متكاملة غير منقسمة. وإلى جانب هذه النفس المتكاملة نحن منجذبون ولا شك أننا توّاقون للوصول إلى هذا التكامل التام..(من كتاب-سيكولوجية الروحانية)
وإلى لقاء آخر وهذه التحفة السيكولوجية.......
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :