مصر بين الماضى والحاضر.. مصر لكل المصريين
بقلم/ عاطف الفرماوى
مصر لها تاريخ عريق فى السماحة وقبول الآخر فقد استقبلت إبراهيم أبو الأنبياء وعاش فيها يوسف النبى وأصبح وزير الفرعون حاكم مصر واستقبلت يعقوب النبى ووفرت الأمن والأمان لقبيلة يعقوب الذين شاركونا فى خيرات مصر بعد إذ كان الجفاف يهددهم بالإبادة والفناء فى صحراء سيناء وولد فيها موسى واحتضنه الفرعون كإبن وتربى فى قصره واحتمى بها حضرة المسيح هرباً من بطش الحاكم الرومانى وأمه ويوسف النجار .
وفى أجيالنا المعاصرة شاهدنا المطرب فريد الأطرش الدرزى والممثل محمود المليجى الكردى فقد كانت مصر كريمة تعطى ولا تبخل تفرد جناحيها لاحتضان كل من يحتمى بها . تقبل الآخر وتتفاعل معه حتى كان يفد اليها كل ذى حاجة ويجد عندها العطاء بلا حدود فقد جاء مصر عائلات من أوزباكستان وأنشأوا حديقة الأزبكية بالعتبة وتحمل الحديقة اسم بلادهم والتف رجال الدين فى مصر حول جمال الدين الأفغانى القادم اليها من أفغانستان . وصلاح الدين الأيوبى كان كردياً أيضاً وتولى قيادة مصر دون حساسية أو تفرقة فقد كانت الخبرة والموهبة والعلم هى أساس التفرقة فى تولى الوظائف وهذا هو التمييز الايجابى المحمود .
كل ذلك كان يحدث فى مصر لأن هذه الروح الجميلة تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا فهى جزء من حضارتنا التى تتميز بالتسامح وقبول الآخر ونحن أبناء حضارة تضرب بجذورها فى عمق التاريخ الانسانى ولهذا نجد القيم الانسانية متوهجة فى سلوك المصريين عبر التاريخ .
وقد كانت مصر تتبنى الدول الفقيرة المحيطة بنا فقد كانت السعودية ودول الخليج العربى من الدول الأشد فقراً قبل حقبة البترول لذلك كنا نقيم فى السعودية تكية لتقديم الطعام مجانا للفقراء وما كان أكثرهم فى السعودية وقد كان حجاج مصر كرماء أسخياء يدفعون المال فى موسم الحج لأبناء السعودية وكنا نرسل للسعودية ودول الخليج العربى المستشفيات والأطباء والمدرسين وتتحمل خزينة مصر دفع رواتبهم لسنوات طويلة هذه هى مصر التى تعطى بلا حدود ويعرف تاريخها كل منصف .
بعد ظهور حقبة البترول وظهرت الثروة فى بلاد الحجاز ودول الخليج فكرت السعودية أنه بالمال تستطيع أن تصبح قوة عظمى فكان لا بد وأن تلتحف بعباءة الدين لتؤكد مشروعية رئاستها وزعامتها فوجدت فى الوهابيين فرصة لتحقيق أحلامها وحيث أن الوهابيين ليسوا أصحاب حضارة ولا علاقة بينهم وبين المدنية وليس لهم نصيب مذكورا فى التعليم المدنى فقد كانت نظرتهم تتسم بالانغلاق وعدم التسامح وعدم قبول الآخر وبدأ يظهر نوع جديد من الاسلام ضيق الأفق لا يتسم بالمرونة ويمارس العداء والتمييز ضد الآخر.
وقد كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً رفيعا فى المرونة وقبول الآخر فقد عقد ميثاق المدينة فى دولة تعترف بالآخر متعددة العقائد فيها المشركين عبدة الأصنام وفيها اليهود وفيها المسلمين فى دوله واحدة تسمى المدينة وتنورت به يثرب والبطحاء ولم يكره أحد منهم فى الدخول للإسلام وحينما انتصر على المشركين وفتح مكه فقال لهم ماذا تظنون أنى فاعل بكم فقالوا فى ضعف أخ كريم وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فانتم الطلقاء مع أن قيم العصر كانت تقتضى قتل الرجال وبيع الغلمان وسبى النساء كما كان سائدا فى هذه العصور ولكنه التسامح وقبول الآخر .
بينما الوهابيون قالوا المسلم لا يجب أن يبدأ المسيحى بالسلام ولا يهنئه بعيده ولا يشاركه مناسباته أى رفض الآخر وعدم تقبله ولا مانع من الحرب ضده وخطف نسائهم .
وفود عدد غير قليل من المصريين على السعودية طلباً للرزق فى حقبة البترول ساعد فى انتشار الفكر الوهابى فى مصر الذى أحدث شرخ اجتماعى فى نسيج الوحدة الوطنية وتسربت الأفكار الوهابية لمناهج التربية والتعليم وبرامج الثقافة والاعلام وأصبح التطرف هو القاعدة والتمييز وعدم قبول الآخر هو القاعدة لهذا يثور المسلمون وخصوصاً الرعاع فى العشوائيات ضد بناء كنيسة بل يهاجمون الكنائس ويقتلون المسالمين الذين يتعبدون فيها ويكفرون كل من يختلف مع طريقتهم حتى لو كان مسلما فلا يشهدون على اسلامه ونصبوا أنفسهم ألهة يحكمون على البشر بالعذاب والموت حرقاً بالديناميت من خلال ما يسموه العمليات الاستشهادية الارهابية وتغلغل الارهاب من رحم الفكر الوهابى فقد كان المؤسس ابن لادن السعودى وهابى الفكر وأصبحوا مصدر تهديد للحضارة البشرية والسلام العالمى بعد إذ قوت شوكتهم وسار بين صفوفهم جهلة مخدوعين وما أكثرهم فى بلاد لا تهتم بالتعليم والثقافة لتربية شعوبهم
فقد اشتغل جمال عبد الناصر بفكرة تصدير الثورة ومحاربة الاستعمار العالمى والرجعية العربية ولهذا ساعد ثورة الجزائر ضد فرنسا وساعد الكنغو ووسط افريقيا وأطلق قواته لليمن للقضاء على الامام البدر حليف السعودية وتهديد السعودية ذاتها التى كانت تمثل حسب وجهة نظره الرجعية العربية وانشغل بفكرة القومية العربية والوحدة العربية وعقد الوحدة مع سوريا وتحطمت أحلامه بهزيمة 67 وسمى بعام النكسة وتحطمت معه أمال مصر فى الترقى فى سلم الحضارة وتحقيق التنمية والتقدم وتحقيق الرخاء لشعبها الصامد الصابر وانهارت البنية التحتية ودمرت الخدمات الأساسية حتى بات الحصول على خط تليفون أرضى درب من المستحيل وانفجار المجارى فى شوارع القاهرة أصبح أمراً مألوفاً فقد ذهب الدعم المخصص للصيانة والتجديد والتوسع وفقا للزيادة البشرية الى تغذية طموحات الزعيم خارج حدود مصر فقد كانت طموحاته أممية وليست قطرية .
وجاء السادات يحمل عبء تحرير الارض التى احتلتها اسرائيل فى عهد ناصر مع تدهور الاقتصاد المصرى فواجه مقاومة من اليسار المصرى وكان أنشطهم الشيوعيين المصريين الذين لجأوا لجمهرة الرأى العام من خلال المظاهرات ومنظمة الشباب الاشتراكى ففكر السادات فى تقليص مساحة الحريات واستخدم اساليب الدولة البوليسية مع معارضيه وابتدع المنابر السياسية لتلميع وجه النظام فى الخارج بينما كان نظام الحكم ديكتاتوريا
ولأول مرة نسمع أن للديمقراطية أنياب شرسة تفترس المعارضين وفى ليلة واحدة اعتقل كل رموز الحركة الوطنية فى مصر وأعطى مساحة من الحرية للتيار الدينى السلفى الارهابى وحسب ما كان يدور فى عقله لكى يحدث ذلك توازناً فى الشارع المصرى ويقلم أظافر التيار الشيوعى والليبرالى الذين احتضنتهم السجون فى عصره وغير الدستور ولأول مرة نسمع عن ما يسمى بدين الدولة فالدولة شخصية اعتبارية تجمع المواطنين حسب انتمائهم الوطنى وليس الدينى وكى يجامل التيار الدينى السياسى أصبحت المادة الثانية فى الدستور الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع
وبدأت الدولة الدينية الطائفىة والتمييز على أساس الدين وانطلق عقال التطرف والارهاب الذى قوض الأمن والأمان فى المجتمع ولم يقف عند تهديد الأقليات بل مهاجمة الدولة ذاتها وتنظيم عمليات ضد البوليس المصرى وضرب اقتصاد البلد بقتل السائحين وفى النهاية قتلوا السادات نفسه وكفروه الذى أطلقهم من السجون وانتهى عصر السادات بطريقة مأساوية ولكن ما يسجله التاريخ للسادات أنه صاحب قرار العبور والانتصار على اسرائيل وعقد اتفاقية السلام فى كامب ديفيد التى سببت مقاطعة العرب لمصر باعتبارها حل جزئى يتجاهل المصلحة القومية للعرب ويقلص فرصة الفلسطينيين فى التحرر واعلان الدولة الفلسطينية
ونتيجة المقاطعة العربية تكبد الاقتصاد المصرى خسائر جسيمة لم تعوضنا لا أمريكا ولا إسرائيا عن هذه الخسائر التى كانت بالمليارات فاتجه السادات لسياسة الانفتاح الاقتصادى وتشجيع الاستثمار للخروج بالاقتصاد المصرى من كبوته فظهرت مجموعة طفيلية جنت ثمار الانفتاح وتعمقت الفروق الطبقية فى المجتمع وبدأ عصر انهيار الضمير والفساد مع تنامى مظاهر التدين الشكلى كالحجاب والنقاب واللحى والعمائم والثوب القصير فمع ظهور ربيع التدين الشكلى كان خريف الضمير والقيم الانسانية وكانت قصائد الشاعر أحمد فؤاد نجم تلخص الحالة والمأساة التى وصلت اليها مصر فى عهد السادات
وبمقتل السادات جاءت فترة مبارك الذى كان يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية وبدأ مبارك حكمه بعقد مؤتمرات مع المثقفين ورجال الاقتصاد والمفكرين ليأخذ منهم المشورة واستبشر الناس خيراً وبدأ بداية جادة فى التشهير بالفساد وتشجيع الاستثمار واصلاح البنية التحتية والمرافق العامة وانشاء المدن الجديدة إلا أن مساحة الحريات وإن كانت قد تطورت نسبيا بالمقارنة لعهد ناصر والسادات الا أنها لا تلبى طموحات المواطن المصرى بجانب أنه عقد هدنة مع التيار الدينى وبات اصلاح ما أفسده التيار الدينى فى بنية المجتمع أمر مستحيل فى ظل عدم جدية النظام السياسى الذى ركز اهتمامه على ضمان استمراره على كرسى الحكم الى ما شاء الله وفى سبيل ذلك لا مانع أن يتضامن مع الشيطان ضد مصالح مصر الوطنية وضد حقوق الانسان وضد حقوق الأقليات فتغض الحكومات المتعاقبة الطرف أمام الجرائم التى ترتكب ضد الأقليات وضاقت مساحة الحريات يوماً بعد يوم والتف حول نظام الحكم الفاسدين رجال أعمال يصرفون أموال الشعب على المطربات والمغنيين والراقصات ولاعبى الكرة وبدأ عصر القدم وانتهى عصر القلم وتخلف التعليم والبحث العلمى وتبخرت الشفافية وتعمق مفهوم الدولة البوليسية ولا عزاء لمصر والمصريين .
فالفتنة الطائفية لم تبدأ اليوم بل بدأت منذ عقود مضت ولم يعطيها النظام الاهتمام الكافى بالرغم من أنها مدمرة لبنية المجتمع وسوف تقضى على الأخضر واليابس والحل أن تكون مصر لجميع المصريين وتفعيل قيم المواطنة ومحاربة كل صور التمييز واذدراء الآخر وتهميشه من أجل مستقبل مشرق لكل مصر وكل المصريين وعلى النظام اعداد السياسات البرامج التى تخرج مصر من كبوتها لنضع أقدامنا على سلم الحضارة الانسانية ونتبوأ المكانة التى نستحقها..
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :