عودة "إيلي": هكذا تبدأ الحكايات .. هكذا تنتهي
بقلم: نبيل شرف الدين
كان مشهدًا دراميًّا بامتياز، تخيل معي رجلاً وزوجته، بعد غياب نحو أربعين عامًا، يعودان إلى الحيّ الذي شهد أيام الصبا واللقاء الأول بينهما، إذ كانا جارين وتربطهما أيضًا صلة قرابة، وجرت في النيل مياه غزيرة منذ أن حملتهما "ريح الكراهية" على الرحيل "قسرًا" من شارع "الشيخ قمر"، و"ميدان السكاكيني" ليعودا إليه، وهما الآن في الستينات من العمر، ليجدا كل شيء تغير.. كل شيء تقريبًا من دون أدنى مبالغة.. باستثناء القصر الرابض في الميدان، الذي شيّد عام سنة 1897 م ويبدو كأنه "عزيز قوم ذلّ".
ورغم أنه حوصر ببنايات شاهقة الارتفاع كعلب الكبريت العملاقة، وتحاصره أكوام النفايات، وتبدو عليه آثار الإهمال الإجرامي، لكن كل ذلك لم يمس شموخ قصر "حبيب باشا سكاكيني" بطرازه المعماري الإيطالي، وتماثيله الرائعة، وزخارفه البديعة والدقيقة، حتى توقيع صاحبه بأول حرفين من اسمه (HS)، وتقول المعلومات الموثقة عنه إنه كان رجل أعمال هاجرت أسرته إلى مصر خلال القرن التاسع عشر عندما كان عمره 16 عامًا، وأصبح في النهاية من كبار المقاولين المصريين المقربين من الخديوي، وشيّد هذا القصر على غرار قصر شاهده حبيب باشا في إيطاليا ووقع في غرامه، فقرر أن يبني نسخة منه في هذا المكان الذي كان يُعدُّ حينها من ضواحي القاهرة الفاطمية والمملوكية، غير أنه الآن بات يُوصف بأنه يقع في قلب العاصمة المصرية المكتظة، والتي ترهلت من فرط التمدُّد العشوائي.
عود على بدء.. ها نحن في "شارع الشيخ قمر"، نبحث عن المنزل الذي كان يقطن به "أونكل إيلي"، سألنا شابًّا كسولاً ـ شأن الملايين من أبناء الجيل الجديد في مصرـ فردَّ بعبارات مقتضبة "إن هذا هو بالفعل الرقم الذي نبحث عنه، لكنها صارت بناية جديدة شيدت مكان بيت قديم تمّت إزالته، وإنه يعمل في المحل الذي يقع أسفل البناية.
في مواجهة البناية لم يزل "الفرن الأفرنجي" الذي طالما اشترت منه أسرة "أونكل إيلي" المخبوزات، وإن كان رغم مرور كل السنين قادرًا على الاستمرار، يواكب مجريات الزمان بمنتجات جديدة وأخرى تقليدية، ساعتها قال لي "إيلي": إن هذا الفرن كان ينتج في أعياد اليهود نوعًا من الخبز الخاص الذي يرتبط بالعقيدة اليهودية، حينما كان هذا الحي يعجّ بعشرات العائلات اليهودية، لكنَّ لكل زمان دولة ورجال.. ومخبوزات أيضًا، وبالطبع لم يعد هناك يهودي واحد يقيم في تلك المنطقة التي شهدت "لحظة تسامح" حضارية صارت مصر تفتقدها باتفاق الجميع من شتى المشارب.
ساعتها راح "أونكل إيلي" يلتقط صورًا للشارع الذي كان شاهدًا على صباه وأجمل ذكريات عمره، بينما كانت زوجته تطوف حول قصر السكاكيني الذي يبدو كأنه "كعبة الحيّ"، وإحدى آخر الأيقونات الحيّة الشاهدة على زمان مضى ولم يعد، أما أنا فلم أكن أتأمَّل المكان إذ أعرف تفاصيله عن ظهر قلب، وطالما ترددت عليه لأسباب شتى، بل كنت مهتمًّا أكثر برصد ردود الفعل والانطباعات على وجه "أونكل إيلي" وزوجته "منى"، وكأن صوت ليلى مراد يأتي من البعيد كأنه "موسيقى تصويرية" لهذا المشهد الدرامي الذي لا يتكرَّر كثيرًا.
رأيت حينها "مدام منى"، شابّة في عشرينات عمرها، لا بد أن هذه السيدة كانت حينذاك فتاة جميلة وفاتنة، لا أشكّ أبدًا في ذوق "أونكل إيلي" لأنه رجل "ذواقة"، مُحبّ للحياة، يضحك كالأطفال مع أنه تجاوز الستين، يبدو من مظهره و"خفّة روحه" كأنه منير مراد، الذي ملأ الدنيا موسيقى وألحانًا ورقصًا وإبداعًا، وتزوج الفنانة الشهيرة سهير البابلي، قبل أن ينزوي فجأة من المشهد، وفي ظروف لم يزل يكتنفها الغموض.. يا إلهي هل هكذا تبدأ الحكايات.. وهكذا تنتهي؟!
***
فجأة ودون مقدمات ظهر "عم جهاد" ليفرض حضوره على ثلاثتنا، "أنا وإيلي ومنى"، كان الرجل يشبه "قصر السكاكيني" في جوهر الأمور، فهو في السبعينات كما تشير ملامحه، لكنه ما زال ينبض بالحياة، اقتحمنا كأنه أدرك من نحن ومن يكون "أونكل إيلي"، ودون أن يدعوه أحد أوكل لنفسه مهمة "المرشد"، فراح يروي لنا ما حدث في المكان من تحوُّلات، تكاد تختزل ما شهدته مصر منذ انقلاب العسكر إلى الآن، وراح يتأسى على تلك الأيام، لدرجة أذهلتنا، لم تكن لدى "عم جهاد" أي مصلحة فيما يفعل أو يقول، سوى أن وجود إيلي ومنى أعاد إليه حنينًا ربما لشبابه وكان يحفظ كل موضع في الحيّ مثل بيته، ففي هذه البناية القديمة كانت تقطن أسرة "سمحون" وهناك في نهاية الشارع كانت أسرة "إيزاك"، وفي الحارة تلك يقع معبد صغير لليهود الربانيين، وبدا أن "عم جهاد" يعرف أن "أونكل إيلي" ينتمي لطائفة القرائين، لهذا التمس له العذر أنه لا يعرف هذا المعبد، مستدركًا أن هذه الطائفة كانت ترتبط بمعبد موسى الدرعي الذي فشلنا في دخوله كما أوضحنا سابقًا.
كان "عم جهاد" يتصرف بطريقة الذي يتجول في الزمان والمكان معًا، فيروي أن هذه المدرسة أسسها اليهود في البداية، لهذا لم تزل "نجمة داود" على واجهتها وجدرانها، وذلك المنزل الأنيق المهمل يعود لأسرة يهودية هاجرت، وظل مكانه لخلافات بين الورثة، وتلك البناية كانت تضم عدة أسر يهودية، وفجأة يتحسر "عم جهاد" ويردِّد بطريقة أولاد البلد القاهريين البسطاء، موجهًا كلامه لإيلي تارة ومنى تارة أخرى، قائلاً: "كنتم أحسن ناس.. وكانت أيامكم أجمل أيام"، ويسبّ الزمان وما طرأ عليه من دخلاء ومستجدات أفسدت كل شيء.. نشكر الرجل لينصرف حتى يتمكن إيلي ومنى من الاختلاء بالنفس وتأمُّل ذكرياتهما البعيدة دون مؤثِّرات، فينصرف "عم جهاد" غير أنه لا يلبث أن يعود كأنه تذكر أمرًا مهمًّا، ليقتحم المشهد مرة أخرى ليضيف معلومة تذكرها، أو تعليقًا لم يستطع السكوت عنه.
"هؤلاء يا أونكل إيلي من يمكنك أن تعوِّل عليهم، وأن تعتبرهم أصحاب الحق في الحكم على أيام التعايش، ليس بين اليهود والمسلمين فقط، بل بين كافة المصريين من شتى المشارب، وحتى الجاليات الأجنبية كالأرمن واليونانيين والإيطاليين وغيرهم ممن اتسع لهم صدر مصر، حين كانت دولة.. قبل أن يختطفها المغامرون والمهرِّجون وباعة الشعارات وتجار الوطنية والقداسة، الذين أوصلوا الحال إلى ما هي عليه الآن، دولة شائخة مترهِّلة، "تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الذئاب على فريستها".. كنت أشعر بكل مرارات الدنيا وأنا أنطق بهذه الكلمات لعلها ترد اعتبارًا معنويًّا لرجل ـ لا يمثل الطائفة اليهودية المصرية بالتأكيد ـ لكنه أحد أبنائها المسكونين بحب هذا البلد.
وما حدث حينذاك أن "أونكل إيلي" استمع لي باهتمام.. واكتفى بابتسامة ذات مغزى، ولم يعلِّق بكلمة، ولا أعرف ما كان يدور في ذهنه حينها، لكن أظنّه يصدّق أن "العم جهاد" لم يستشره أحد حين قرَّر من قفزوا على الحكم في مصر أن يعتبروا اليهود المصريين مجرد "طابور خامس"، وعليهم أن يحملوا عصاهم ويرحلوا.. وهو ما حدث.
***
أحدث إحصائية رسمية في مصر كانت عام 2003، وقدَّرت عدد المتبقين من "يهود مصر" بنحو 4088 ألف نسمة، وربما لا يعرف كثيرون أنه حتى عام 1952 كان يوجد في مصر نحو مائة ألف يهودي، شكّلوا أعمدة الاقتصاد والفن والحياة العامة في مصر، فمثلاً حي المعادي الراقي أنشأته شركة "الدلتا" اليهودية، لهذا ما زالت أبرز شوارعه تحمل أسماء العائلات اليهودية التي أسَّست أحد أجمل أحياء القاهرة مثل "سوارس"، و"قطاوي" وغيرهم.
وربما يجهل البعض أن مؤسس كلية الفنون الجميلة في مصر بداية القرن العشرين هو اليهودي المصري يوسف قطاوي وهو نفسه الذي صمَّم سوق الخضار في باب اللوق والذي كان تحفة معمارية في ذلك الوقت
وهناك حاييم ناحوم وكان أقرب أصدقاء سعد زغلول باشا وشارك في وضع دستور 1923 وكان الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في مصر.. مرة أخرى هكذا كان ولم يزل اسمها الرسمي.
ومنذ عهد محمد علي باشا وحتى انقلاب 1952 تربعت العائلات اليهودية الشهيرة على قمة الهرم الاجتماعي في مصر إلى جانب الصفوة والأعيان المصريين.
ولعب اليهود دورًا بارزًا في مجالات شتى، منها على سبيل المثال لا الحصر، الاقتصاد، فكانوا أول من ابتكر متاجر "المول"، من خلال محال "عمر أفندي" و"صيدناوي" و"شملا" وغيرها، ناهيك عن السينما والمسرح، فمن يعقوب صنوع الذي يطلق عليه "أبو المسرح المصري"، فضلاً عن إنتاج وتوزيع الأفلام من خلال شركات موصيري وإدوارد ليفي.
وتلألأت كوكبة من النجوم اليهود المصريين في سماء الفن منهم المخرج الرائد "توجو مزراحي" والممثلة "ليليان ليفي كوهين" التي اشتهرت باسم "كاميليا"، و"راشيل إبراهام ليفي" التي اشتهرت باسم راقية إبراهيم، والممثلة القديرة نجمة إبراهيم التي شاركت في مسرحيات تبرَّعت بدخلها للجيش المصري، و"نظيرة موسى شحاتة" المعروفة فنيًّا باسم نجوى سالم، والتي اشتهرت بضحكتها "أم ديل" في مسرحياتها وكانت الفنانة المصرية الوحيدة التي حصلت على درع "الجهاد" تقديرًا لدورها الوطني خلال حرب الاستنزاف، والمطربة القديرة ليلى مراد وشقيقها متعدِّد المواهب منير مراد، فضلاً عن الفنان الكبير داود حسني وغيرهم.
الحديث عن يهود مصر ليس مجرد "حالة نوستالوجيا" أو حنين لزمن ولَّى، ولن يعود بالتأكيد، لكنها وقفة مع الذات، علينا أن نتعلَّم من أخطائنا، كما تفعل كل الأمم المتحضِّرة، التي تجاوزت أخطاءها التاريخية، مثل الألمان والطليان واليابان مثلاً، وإلا فالثمن سيكون فادحًا وسيدفعه الأبناء والأحفاد.. ولعل الخطوة الأولى في هذا السياق أن نتخلَّى عن لعبة التبرير والمكابرة، ونعترف: نعم لقد أخطأنا.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :