في مواجهة تحديات بناء الدولة الديمقراطية
بقلم: د. عبد الخالق حسين
مقدمة
في البدء لابد من عرض صورة موجزة لحجم المشكلة العراقية، والمصاعب التي يواجهها أولئك الذين وضعهم القدر في حكم العراق بعد سقوط حكم البعث عام 2003، والتركة الثقيلة التي وروثها من حكم البعث، لذلك لا بد من ذكر الحقائق التالية:
1- عُرِفَ العراق بأنه بلد الأزمات الدائمة، كما وعرف شعبه بثوراته وانتفاضاته المسلحة الدائمة ضد الحكومات منذ أن بدأ التاريخ المدن. وسبب عصيان الشعب العراقي الدائم على الحكومات معروف وهو تعرضه لمظالم الحكومات الجائرة وعدم سكوته على تلك الظلم.
2- الحقيقة الثانية، أن مشاكل العراق هي نتاج التاريخ والجغرافية، فموقعه الجغرافي واعتدال مناخه وتوفر خيراته، ساعد على جذب الموجات البشرية والفتوحات عبر العصور، وقد أدى ذلك إلى تعددية مكونات شعبه. ومما زاد في الطين بلة، أن في العراق الحديث، حاولت مكونة واحدة من الشعب الاستحواذ على السلطة والثروة والنفوذ، الأمر الذي أدى إلى صراعات بين هذه المكونات التي ظهرت بشكل واضح بعد سقوط نظام القمع.
3- مازال البعض يستهين بحجم الخراب الذي ألحقه البعث بالشعب العراقي، وصعوبة إسقاط هكذا نظام جائر متجبر، وآخرون يقللون من أهمية هذا السقوط المدوي وتأثيره، ليس على العراق وحده، بل وعلى دول المنطقة والعالم كله.
4- كما ويعتقد آخرون أن أمريكا خلال عملية إسقاط حكومة البعث، قوضت الدولة العراقية عن قصد، وأنه كان بإمكانها إسقاط حكم البعث بدون تدمير الدولة ومؤسساتها. هذا الكلام في رأيي مجرد تمنيات وأفكار رغبوية لم تكن قابلة للتطبيق، لأن الدولة العراقية كانت مختزلة في شخص الدكتاتور صدام حسين وحده، وفق مقولة: (أنا الدولة والدولة أنا)، ولم تكن دولة الشعب، بل كانت دولة صدام حسين وعائلته، لذلك لم يدافع عنها الشعب، وعندما سقط نظام البعث، كان من الطبيعي، وكتحصيل حاصل أن تنهار الدولة وجميع مؤسساتها، العسكرية والمدنية، خاصة وقد أذاب حزب البعث الدولة العراقية في كيان الحزب، لذلك سميت الدولة العراقية في عهد حكم البعث، بـ(دولة المنظمة السرية) و(جمهورية الخوف).
لذلك أعيد ما قلته مراراً وتكراراً، ورغم كل الفواجع وتداعيات السقوط، أنه كان من حسن حظ الشعب العراقي أن تورطت أمريكا في إسقاط حكم البعث، فلو تم السقوط على أيدي العراقيين أنفسهم، أو حتى لو كان صدام حسين قد مات موتاً طبيعياً، لحصل في العراق ما حصل في الصومال بعد إسقاط حكومة محمد زياد بري.
حول ظهور الأحزاب الدينية
ينتقد البعض وجود الأحزاب الدينية، ويحملونها مسؤولية الخراب والتداعيات التي حصلت بعد سقوط حكم البعث، وتفشي الفساد الإداري، والاستقطاب الطائفي والعرقي في الانتخابات..الخ. وهذا أيضاً في رأيي خطأ ناتج عن سوء فهم المرحلة والخراب البشري المتعمد الذي تم على يد حكم البعث. فهؤلاء يقارنون ما حدث بعد ثورة 14 تموز 1958 بما حدث بعد 2003، دون أن يأخذوا اختلاف الظروف الموضوعية، المحلية والدولية، للحدثين الكبيرين بنظر الاعتبار. ففي الحالة الأولى كانت الحرب الباردة قد ساهمت في تصاعد المد اليساري، أو ما أسموه بالمد الأحمر، وفي الحالة الثانية، صعود المد الإسلام السياسي، ليس في العراق فحسب، بل وفي كل العالم الإسلامي.
فالإسلام السياسي في العراق لم يأت من فراغ، وليس من صنع شخص أو أشخاص، بل نتيجة الظروف الموضوعية، المحلية والدولية كما أسلفنا. فبعد عقود من الخراب والجور والظلم، والحروب الداخلية والخارجية، والحصار الاقتصادي، والاضطهاد الطائفي، والعرقي خلال حكم البعث الفاشي، لم يبق أمام الناس سوى اللجوء إلى الدين والطائفة والعشيرة للاحتماء بها. فعندما يقصف البعثيون العتبات الشيعية المقدسة، ويرفعون شعار لا شيعة بعد اليوم، وينشرون المقابر الجماعية في محافظاتهم، يجب أن يعرفوا رد الفعل عند الشيعة الذين يشكلون نحو 60% من الشعب. لهذا يجب أن لا نستغرب انتماء الناس إلى الأحزاب التي تمثل طوائفهم.
إضافة إلى ما تقدم، وخلافاً لشعاراته العلمانية المرفوعة، فحزب البعث نفسه لعب دوراً كبيراً خلال حكمه الجائر، في تأجيج الطائفية، وإحياء العشائرية، وبعث القيم والتقاليد البدوية والقبلية، مقابل انحسار الأحزاب العلمانية الديمقراطية. ولذلك، شئنا أم أبينا، وكرد فعل على هذه الإجراءات، حصل استقطاب مذهبي وعرقي كما أبرزته الانتخابات التشريعية بعد سقوط البعث.
ومما يجدر ذكره، إن صعود الإسلام السياسي ليس خاصاً بالعراق، بل شمل جميع الدول الإسلامية، وهو نتيجة فشل الأنظمة العلمانية المستبدة في حل المشاكل الاقتصادية المتفاقمة لشعوبها. لذلك رفع الإسلاميون شعار (الحل في الإسلام). وفي العراق، حتى حكم البعث نفسه عندما تفاقمت أزمته في التسعينات بعد غزوه للكويت، وتأثير الحصار الاقتصادي المدمر عليه، ركب الموجة الإسلامية وبدأ ما أسماه بالحملة الإيمانية، وكتب صدام بيده عبارة (الله أكبر) على العلم العراقي.
تحديات ما بعد السقوط
لقد سقط البعث ولكن تركته الثقيلة بقيت وستبقى مدة طويلة مع الأسف. فحجم الخراب الذي تركه البعث فوق التصور، لذلك فالذي يحكم العراق بعد حكم البعث لا بد وأن يكون في موقف لا يحسد عليه، لأن هذه السلطة تواجه قائمة طويلة من الصعوبات والتحديات الكبيرة، نوجزها بما يلي:
1- الخراب البشري، المتمثل في تفتيت النسيج الاجتماعي والتجهيل المتعمد، وتزييف الوعي، وتدني الشعور بالمسؤولية، وتفشي الإرهاب والجريمة المنظمة...الخ،
2- عدم وجود تجربة سابقة في ممارسة الديمقراطية في العراق، خاصة وأن نحو 85% من الشعب العراقي ولدوا ونشؤوا وتلقوا تعليمهم الخاطئ خلال فترة أبشع نظام فاشستي مستبد.
3- اضمحلال الطبقة الوسطى التي لا يمكن بدونها بناء النظام الديمقراطي.
4- انهيار المجتمع وانشطاره على نفسه وفق انتماءاته الدينية والطائفية والعرقية والقبلية، وإبداء الولاء لهذه الانتماءات بدلاً من الولاء للانتماء الوطني.
5- ضعف الأحزاب العلمانية وتشظيها إلى عشرات التنظيمات الصغيرة المتنافسة والمتصارعة فيما بينها والتي لا حول لها ولا قوة.
6- التدخل الفظ لدول الجوار بالشأن العراقي لإجهاض العملية السياسية، وإفشال الديمقراطية في العراق لكي لا تصل عدواها إلى بلدانهم، وذلك عن طريق دعم الإرهاب، والميليشيات التابعة للأحزاب الدينية وغير الدينية، مقابل تنفيذ هذه الأحزاب أجندات دول الجوار الداعمة لها.
7- الموروث الاجتماعي العراقي هو تاريخياً ضد الحكومة في جميع الأحوال، وأية حكومة كانت، وذلك بسبب مظالم الحكومات السابقة منذ العهد العثماني، لذلك تعتبر معاداة الحكومة ومخالفة قوانينها من علامات البطولة والرجولة، ومسألة وطنية، وتأييد الحكومة خيانة وطنية وجاسوسية، حتى ولو كانت هذه الحكومة منتخبة من الشعب.
8- خبرة البعث في التضليل والتخريب: فخلال أربعة عقود من حكمه، أنشأ البعث جهازاً إعلامياً ضخماً ذا خبرة واسعة في التضليل والتشويش وشراء الذمم ونشر الأكاذيب والإشاعات، والمبالغة في الأخطاء والفساد، وشن حملات تشويه السمعة ضد خصومه، وإرباك الوضع، مستفيداً من التقنية المعلوماتية..الخ، وكل من يحاول تكذيب هذه الأضاليل يوصم بمثقف السلطة. ومع الأسف الشديد، هناك استعداد نفسي لدى المجتمع العراقي لتصديق الأكاذيب والإشاعات.
9- نقص الخبرة لدى الحكام الجدد: والتحدي الآخر هو أن الذين تضعهم الأقدار في موقع السلطة والمسؤولية بعد سقوط البعث هم بلا تجربة سابقة فلا بد وأن يبدؤوا من الصفر، إذ لم يسمح حكم البعث الساقط، لقادة المعارضة بالتمرن على السلطة، وإدارة مؤسسات الدولة، لذلك فلا بد أن يقع هؤلاء في أخطاء وبعضها كبيرة وقاتلة، وأن يتعلموا من أخطائهم. وهذه الحالة ليست خاصة بالعراق وحده، بل بجميع دول العالم الثالث التي ابتليت بالأنظمة المستبدة.
10- طموحات غير الواقعية لدى النخب المثقفة: في مقابل كل هذه المصاعب والنقص الشديد في الكوادر، والمشاكل والعقبات التي تواجهها عملية بناء الدولة الديمقراطية، يريد المواطنون والنخب الثقافية العراقية، وخاصة تلك المقيمة في الغرب، أن تكون حكومة ما بعد البعث بمستوى أرقى حكومة في العالم، أي الانتقال من استبداد حكم البعث وما تركه من خراب إلى حكومة تشبه حكومة السويد أو بريطانيا مثلاً بين يوم وليلة. وهذا المطلب بالطبع مستحيل، إذ لا يمكن تشكيل هكذا حكومة راقية إلا إذا كان هناك شعب بلغ من الرقي الحضاري مستوىً راقياً كما بلغته الشعوب ذات الحكومات الراقية، فالحكومات هي إفرازات شعوبها وخاصة إذا كانت منتخبة.
مؤشرات نجاح الديمقراطية
ذكرنا في مناسبات سابقة، أن الديمقراطية عملية تراكمية تبدأ بالقليل ثم تنمو مع نمو وعي الشعب وتطوره الحضاري، إذ هكذا بدأت في الدول الغربية، حيث واجهت الكثير من الهزات والثورات والحروب، ثم نمت وتطورت إلى أن بلغت مرحلة النضج. وهذا لا يعني أن عملية بناء النظام الديمقراطي في العراق تستغرق عدة قرون، ولكن في بلد ورث كل هذا الخراب، من المستحيل بناء نظام ديمقراطي فيه بين عشية وضحاها، أو بمجرد إصدار دستور ديمقراطي.
ولكن رغم هذه الصورة الداكنة المليئة بكل هذه الصعوبات والعقبات والتحديات، وما يروجه المتشائمون وأعداء التغيير أفكار سوداوية عن مستقبل الديمقراطية في العراق، هناك أضواء مشرقة في نهاية النفق، فالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل قد بدأت بإزالة العقبة الكأداء من أمام الديمقراطية وذلك بإسقاط حكم البعث وإزالته عن الطريق، وتلتها خطوات أخرى، حيث بدأ الشعب في ممارسة الديمقراطية وتذوق طعم الحرية، واحتكاكه مع العالم المتحضر بعد أربعين عاماً من العزلة. ولذلك لا يمكن أن يتخلى الشعب عن ذلك والعودة إلى الوراء ومهما كان الثمن. هذا أولاً.
وثانياً، يجب أن لا نستهين بما تحقق في العراق من منجزات منذ سقوط البعث ولحد الآن ومهما حاول البعض الاستهانة بها. لقد تم إصدار الدستور الدائم، وتأسست الأحزاب، وتكونت التحالفات، وأجريت انتخابات، محلية وبرلمانية عدة مرات، إضافة إلى تشكيل حكومات المشاركة الوطنية المتعاقبة وغيرها، كل ذلك عبارة عن دورات تدريبية عملية خاضتها جماهير الشعب العراقي في تعلم قواعد اللعبة الديمقراطية وممارستها، إضافة إلى بناء مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية، إذ كما وصف السفير الفرنسي في بغداد الوضع مؤخراً بقوله:
"أن العراق الحالي هو مختبر حقيقي للديمقراطية في العالم العربي، وهنا، في العراق، سيتحدد مستقبل الديمقراطية في المنطقة... وأن الخلافات الداخلية الحالية حول تشكيل الحكومة هي دليل عافية سياسية ما دام حلها يعتمد على الحوار، وليس على السلاح... والانتخابات الأخيرة هي انتخابات مثالية وهي انتصار للديمقراطية، والعراقيون يقدرون ثمار العملية الديمقراطية الجارية...الخ). (راجع مقال الأستاذ حسين كركوش، سفير فرنسا في العراق، إيلاف، 30/9/2010).
باختصار، أعرب الرجل عما لاحظه في العراق، وعن تفاؤله في نجاح الديمقراطية. ولكن المفارقة، أن تفاؤل السفير الفرنسي أثارت سخط وغضب بعض المثقفين العراقيين وغير العراقيين من اليسار واليمين في فرنسا من أعداء التغيير، واعتبروه دعاية مجانية للحكومة العراقية. فهؤلاء تسؤهم الأخبار الجيدة والتصريحات الإيجابية عن العراق مع الأسف الشديد.
ما هي المنجزات؟؟
يحاول المتشائمون التقليل من أي منجز تحقق بعد سقوط البعث، بل وحتى إنكاره، وتضخيم السلبيات، واختلاق وتلفيق المزيد منها. لقد تأسست المئات من الأحزاب والتنظيمات السياسية، والآلاف من منظمات المجتمع المدني، وعشرات الفضائيات والإذاعات، والمئات من الصحف معظمها تابعة للقطاع الخاص. نعم، إن كثرة التنظيمات السياسية لا تخلو من أضرار، إذ فيها تبديد للطاقات والأموال، ولكن يجب أن نعرف أن هذه الكثرة هي رد فعل لسياسة الحزب الواحد التي عاشها الشعب لأربعة عقود، وهي أمور موقتة لا بد أن تزول. وفعلاً بدأ السياسيون يدركون مؤخراً أضرار هذا التشتت، لذلك ففي الانتخابات الأخيرة حصلت عملية إعادة اصطفاف القوى، حيث تشكلت تجمعات تضم تنظيمات سياسية من مختلف أطياف الشعب في أربعة إئتلافات كبيرة، تجمع كل واحدة منها قواسم مشتركة في البرامج والأهداف السياسية، ومستقبل العراق، وهي (العراقية) ودولة القانون، والإئتلاف الوطني، والتحالف الكردستاني، إضافة إلى تحالفات صغيرة أخرى.
والملاحظ أيضاً، أن كل تحالف يضم كيانات سياسية علمانية إلى جانب الكيانات الإسلامية، ومن مختلف الانتماءات القومية والدينية والمذهبية. وهذا لا يعني أن هذه التحالفات فجأة صارت بمستوى الأحزاب العلمانية الأوربية، ولكن كبداية واعدة تبشر بالخير، وهي استجابة لضغط الشارع العراقي.
كما وهناك قناعة لدى الكثيرين من القادة السياسيين، الإسلاميين والعلمانيين، أنه لا غنى للشعب العراقي من نظام ديمقراطي علماني، يقر بدولة المواطنة، يسمح لكل مكونة من مكونات الشعب العراقي بالمشاركة في صنع القرار السياسي، والتمتع بالثروة والنفوذ على قدم المساواة. ولذلك شاهدنا في الحملات الانتخابية الأخيرة أن استخدم هؤلاء مصطلحات وأسماء مدنية إن لم نقل علمانية بدلاً من الدينية. وهذه نقلة نوعية في مسيرة إنجاح الديمقراطية العراقية الوليدة.
ما العمل؟
وإزاء هذه التطورات، أرى من الضروري، كمثقفين، أن نشجع هذه التحالفات السياسية ونحثها على المزيد من التقارب والتجاذب فيما بينها، واعتبارها خطوة واعدة وجيدة في الاتجاه الصحيح لتحويل هذه التحالفات إلى تيارات سياسية تمثل طموحات الجماهير العراقية وصولاً إلى تحويلها إلى أحزاب سياسية كبيرة بدلاً من هذا التشظي في الطاقات. أما كيل الشتائم ومقالات التسقيط ضد هذا و ذاك، والاتهام بأن العراق صار مستعمرة إيرانية...الخ، وأن الشعب تخلص من صدام واحد ليبتلي بألف صدام...الخ، فهذه النزعة لا تخدم العراق، ولا مستقبل الديمقراطية، وهؤلاء هم أنفسهم لعبوا نفس اللعبة التخريبية في جميع العهود، منذ العهد الملكي وإلى الآن، وهم يصرون على سياسة (كل شيء أو لا شيء)، دون أن يأخذوا ظروف المرحلة في نظر الاعتبار، إذ كما أكدنا مراراً أن الذي يصر على هذه السياسية العقيمة، ينتهي دائماً بلا شيء. ولكن من المؤسف أن هؤلاء لم يتعلموا من خيباتهم وكوارثهم، وهم يتحملون مسؤولية كبرى فيما آل إليه العراق.
فبالإضافة إلى تعددية مكونات الشعب العراقي، قومياً، ودينياً ومذهبياً، وسياسياً، هناك تيارات ضمن هذه التعددية، تلتقي حول مستقبل العراق. فكعراقيين، نعرف ومنذ ثورة 14 تموز 1958 أن هناك صراع عنيف بين اتجاهين كبيرين، الأول يركز على الوطنية العراقية، والذي تمثَّل بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، والأحزاب الوطنية بما فيها الحركة الكردستانية. والثاني، تمثل بالأحزاب القومية العربية، حزب البعث والناصريين وغيرهم في التيار القومي العروبي الذي أراد إلغاء الدولة العراقية وإذابتها وفق شعار الوحدة العربية الاندماجية. ونظراً لعدم شعبية هذا التيار الأخير، فقد لجأ هذا التيار إلى فرض إرادته على الشعب بالقوة الغاشمة عن طريق الانقلابات العسكرية، وكان أكثرها تدميراً ودموية هو انقلاب 8 شباط 1963 الذي أغرق البلاد والعباد في بحر الظلمات لأربعة عقود.
ووفق مقولة (لا يصح إلا الصحيح) فقد عاد التيار الوطني العراقي شامخاً بعد 2003 ليلعب دوره الفعال في ترسيخ الوطنية العراقية كتيار وطني يحقق طموحات أغلبية الشعب.
ومنذ سقوط البعث بدأت الصورة تتضح تدريجياً أكثر فأكثر في عملية اصطفاف وإعادة اصطفاف القوى. فالتحالفات التي تأسست قبيل الانتخابات الأخيرة كانت تمثل الصراع بين هذين التيارين، ومن إلقاء نظرة فاحصة على هذه التحالفات يمكن القول أن إئتلاف (دولة القانون) نجح في استقطاب أنصار التيار الوطني العراقي الذي يؤكد على الوطنية العراقية. بينما اصطف التيار العروبي في إئتلاف "العراقية" ومعظمهم من ذوي الانتماء البعثي.
والتحول الآخر الجدير بالذكر والدعم، هو بروز مؤشرات من قادة الأحزاب الدينية في تقبلهم العلمانية الديمقراطية لحكم العراق. وهذا ليس بالأمر المستبعد أو المستحيل في تاريخ الشعوب، إذ هناك تجارب في دول أوربا الغربية العريقة التي سبقتنا في الديمقراطية، ظهرت فيها أحزاب بأسماء دينية، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا وهولندا وإيطاليا وغيرها، ولكن بمرور الزمن تحولت هذه الأحزاب إلى أحزاب علمانية ديمقراطية رغم احتفاظها بأسمائها الدينية. لذلك لا أستبعد أن تتحول بعض الأحزاب الدينية في العراق إلى علمانية، خاصة وإنها الآن مشاركة في تحالفات معظم مكوناتها علمانية. فوجود حزب الدعوة، والمجلس الإسلامي الأعلى في التحالف الوطني مثلاً لا يجعل هذا التحالف دينياً، لأن غالبية مكوناته تنظيمات وشخصيات علمانية.
كما وانسلخ بعض الإسلاميين من الأحزاب الدينية مثل السيد طارق الهاشمي، الذي كان رئيساً للحزب الإسلامي (أخوان المسلمين) وشكل تنظيماً علمانياً، باسم التغيير، أما السيد نوري المالكي فقد سلك نهجاً آخر وهو تشكيل إئتلاف "دولة القانون" الذي معظم مكوناته علمانيين وإسلاميين، وراح يؤكد حرصه على بناء الدولة المدنية، ودولة القانون، وإنجاح الديمقراطية، وهذه كلها مؤشرات تبشر بالخير تستحق الدعم والتشجيع.
حساسية البعض من العلمانية
ملاحظة أخيرة، وهي أن بعض الإسلاميين يعاني مع الأسف الشديد، من حساسية مفرطة ضد كلمة (العلمانية)، ويعتبرونها مرادفة للإلحاد، وهذا خطأ جسيم ناتج عن سوء فهم إن لم نقل سوء قصد. لذا يجب أن نميز بين العلمانية الديمقراطية، والعلمانية في الأنظمة الشمولية الاستبدادية التي مارسها النظام البعثي، والاتحاد السوفيتي في العهد الستاليني. فالذي نطالب به هو العلمانية الديمقراطية على غرار ما هو مطبق في الدول الغربية. فبفضل هذه العلمانية نجد جميع المؤمنين، من مسلمين وغير مسلمين، بل وحتى أتباع الإسلام السياسي، يفضلون العيش في المجتمعات الغربية العلمانية الديمقراطية، حيث يسمح لهم بممارسة طقوسهم العبادية، وشعائرهم الدينية والمذهبية بدون أية ضغوط، على خلاف الدول التي تحكمها أنظمة إسلامية حيث لا تسمح بحرية ممارسة الشعائر الدينية والمذهبية إلا لأتباع مذهب السلطة.
ومما يبعث على الأمل والتفاؤل أن بدأ في الآونة الأخيرة ظهور رجال دين معتدلين من السنة والشيعة يشيدون بالعلمانية لأنهم أدركوا أن العلمانية ليست ضد الدين، ولا ضد ممارسة رجل الدين حقوقه السياسية، بل المطالبة بعدم الخلط بين الديني الثابت المقدس والسياسي المتغير، وذلك للحفاظ على قدسية الدين ومكانة رجاله. إذ كما قال المرحوم آية الله النائيني: "الاستبداد الديني اخطر أنواع الاستبداد".
ونظراً لتعددية مكونات الشعب العراقي، القومية والدينية والمذهبية، فالدولة المدنية أو العلمانية الديمقراطية هي أنسب نظام حكم للعراق. وقد أكد عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي هذه الحقيقة قبل 50 عاماً بقوله: "إن الشعب العراقي منشق على نفسه، وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!"
ــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت هذه المداخلة للمشاركة في ندوة سياسية نظمتها ممثلية إئتلاف دولة القانون في برلين مساء السبت 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2010، ونظراً لظروفي الخاصة تعذرت هذه المشاركة، لذا رأيت نشرها كمقال لتعميم الفائدة.
Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :