من المراهقة إلى النضج
بقلم:راندا الحمامصي
لمّا كنتُ طفلاً ، كطفل كنتُ أتكلمُ، وكطفل كنتُ أفْطَنُ، وكطفل كنتُ أفتكِرُ. لمّا صِرْتُ رجلاً أبطَلْتُ ما للطفل. (من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورِنثوس 13: 11)
إن النِّعَم والمواهب الخاصة بفترة الشباب، مع أنها ضرورية للإنسانية في وقت مراهقتها، هي الآن عاجزة عن تلبية حاجاتها وقتَ نُضجها. (حضرة عبدالبهاء)
وضّحنا حتى الآن أن المعرفة والمحبة والإرادة تشكل جوهر إنسانيتنا، فهي قوى الروح الإنساني التي يشترك فيها جميع البشر بكل ثقافاتهم بغض النظر عن أمزجتهم وميولهم الخاصة ومواهبهم وظروفهم. كما بيّنا أيضاً أن هذه القوى يلزمها أن تنضج وتتطوّر بطرق سليمة، وإذا ما أُسئ استخدامها أضحت سبباً في دمار هائل لحياة الفرد وبالتالي حياة الإنسانية عامة.
نحن الآن بحاجة إلى التعرّف على القوى المحرِّكة والعمليات التي من شأنها أن توفّر نموّاً وتطوراً صحياً سليماً لقدرات الإنسان في المعرفة والمحبة والإرادة:
• كيف تكون المعرفة الإنسانية ذات ثمار يانعة، وكيف الحصول عليها؟
• هل يمكننا تطوير واستخدام مقدرتنا في المحبة وإطلاقها حرّةً من قيود التعصب والتزمُّت والإنعزال والدوران حول محور الذات؟
• كيف يمكن تحويل محبة الذات إلى محبة الجنس البشري، وما هي ثمار عملية كهذه؟
• وكيف يمكننا تسخير إرادة الإنسان في الطريق السليم؟
• كيف نتمكن من درء المفاسد والمظالم الكبرى التي تأخذ مجراها في حياة الإنسانية بجميع مراحل تطورها وعلى كل مستوياتها؟
• ما هي ثمار تطوّر إرادة الإنسان ؟
• وبالإختصار كيف يمكننا أن نفوز بتطوير قدراتنا في المعرفة والمحبة والإرادة بطرق صحّية سليمة؟
عندما نتجاوز مرحلة الطفولة والمراهقة في رحلة تطورنا، ستعمل لدينا على الأقل ثلاث قوى أساسية: أولها تقول بأن قدرتنا في المعرفة والمحبة والإرادة، نتيجة انتقالنا إلى مرحلة البلوغ واكتسابنا بصائر روحانية، سوف تَظهر بالتدريج جلية لتُعبِّر عن نفسها بالتوافق مع تفتُّح براعم الحقيقة والوحدة والخدمة. وثانيها؛ هذه المبادئ الروحانية سوف تخلِق مستويات جديدة من الوعي عالمية في نطاقها وهائلة في قواها، والتي بدورها ستسرِّع من وتيرة نموّنا وتقدّمنا وتدفعنا إلى استخدام طاقاتنا الفكرية والعاطفية إلى أقصى مداها. وآخرها؛ فإن نشوء مستويات أعلى من الوعي والإدراك والدخول في رحاب المبادئ الروحانية في الحقيقة والوحدة والخدمة وتكاملها معاً في ممارسات وتجارب روحانية، من شأنه أن يبدِّل نُهُجَ حياتنا فردياً وجماعياً، وسيمهّد الطريق نحو خلْق مدنية إنسانية روحانية وتأسيس نظْمٍ عالمي جديد.
إن العملية التي تجعل من الفرد إنساناً متكاملاً هي عملية مثيرة بحدّ ذاتها وليست عسيرة على الإطلاق. ومع ذلك فإن صعوبتها تكمن في إحداث التغيير في الفكر والمواقف وهو ما نحتاجه حقاً، وهو تغيير جذري يصيب لبّ الحقيقة في أهميته الكبرى. علينا أن ننظر إلى أنفسنا على أننا في الحقيقة مخلوقات روحانية قبل أن نخطو خطواتنا في هذا الإتجاه، ولذلك فإنه عمل مُكرَّس تماماً لبعث القوى المحرِّكة الكامنة بداخلنا للحصول على متطلبات هذا التفكير الجديد – التفكير الروحاني بأبعاده المسكية.
المعرفة والحقيقة
إن قدرة الإنسان على اكتساب المعرفة لهي قدرة جامعة شاملة؛ فهي تشمل قدرته على معرفة العالم المادي (تطبيق المبادئ العلمية في دراسة عالم الطبيعة)، وإدراك الحقائق الغيبية في ما وراء الطبيعة (metaphysical) الخاصة بالوعي والأمور الروحانية (من خلال مفهومنا لطبيعة الإنسان والعلاقات الإنسانية في سياق التعاليم الروحانية والأخلاقية التي تليق بعهد الإنسانية القادم من البلوغ).
في جميع أشكال المعرفة هذه تبقى الروح الإنساني في بحث واستقصاء وتحرٍّ عن الحقيقة. فالمخلوقات البشرية يلزمها بل وتريد أن تعرف حقيقة كل شيء. يمكننا القول بأن طبيعة الإنسان والهدف من حياته مرتبطان أساساً، في مستوى معيّن، بعملية البحث الجادّ عن حقائق الأشياء. فالإنسان الناضج لا يكفّ عن التطلّع إلى الحقيقة ولا يقف عن ممارسة البحث عنها عملياً في آن واحد. وبغير ذلك لن تتجاوز قدرة الإنسان الفريدة في المعرفة حدودَ المراحل البدائية التي يشترك فيها مع الحيوان، لأن في هذا المستوى تقتصر قدرة الإنسان والحيوان على معرفة كيفية الحفاظ على بقائه وكيف يوفّر لنفسه المتعة وكيف يتفادى الألم.
إلا أننا لو نظرنا إلى الحيوان في بعض جوانبه لوجدناه يفوق الإنسان فيها؛ فبعضهم أحدُّ منه في حاسّة البصر، السمع، الذوق، الشمّ، اللمس، وفي الغرائز والقوى الجسمانية، وكل ذلك ضروري لها من أجل البقاء وإشباع الغرائز وتجنب الألم. أما السِّمة المميزة للإنسان فإنها قدرته على التسامي عن غريزة حب البقاء وغرائز المتعة وتجنب الألم ليبدأ رحلته في رحاب الوعي والإدراك والبحث عن الحقيقة والإستنارة الفكرية. فقدرة الإنسان على المعرفة هي الأساس وهي الضرورية لتحقيق هذا الهدف الروحاني النبيل، وما ثمارها اليانعة إلا اكتشاف الحقيقة بجميع أشكالها وفي كل ما يعبِّر عنها. ومع أنه يجب أن يكون معلوماً بأن مفهومنا للحقيقة يبقى على الدوام نسبياً وليس مطلقاً، فإن ما نكشفه من حقائق علمية وروحانية في وقت من الأوقات يكون جزئياً غير متكامل لأنه يأتي طبقاً لمستوانا في النموّ الفردي والتقدم الجماعي المستمر، ولذلك فإن بحثنا عن الحقيقة لا ينتهي ولن يتوقف عند حدٍّ معيّن.
في كل يوم من أيام حياتنا تبرز أمامنا المعرفة والحقيقة في أمور تبدو لا ترابط بينها مثل الصدق، الثقة، الوفاء، الأمانة، الإخلاص، والإستقامة كما في الحقيقة العلمية، التكامل الخلاّق، والطهارة الروحية. إلا أن هذه الأمور بكليتها تربطها قاعدة أساسية واحدة تتجسد في موضوع الحقيقة. إننا معشر البشر منساقون بطبيعتنا نحو الحقيقة ومعرفتها، وهي لازمة من أجل أن نحوز على الثقة والإطمئنان حتى نغدو بالتالي قادرين على ممارسة نشاطاتنا وأعمالنا في الحياة. ولذلك يلزمنا، ليس فقط أن نعرف كيف يعمل هذا الكوكب وما يحيط بنا، بل وكيف يعمل سكانه أيضاً، وحالما نتفهّم قوانين الطبيعة وندرك سبب حدوث بعض الظواهر الطبيعية من قبيل المرض، القحط والجفاف، والزلازل نغدو أكثر قدرة على التعامل معها. إن معرفتنا بتلك الحقائق تغذّي قوانا في الإكتشاف والإختراع وفي تغيير أوضاع حياتنا ومواقفنا، والشيء نفسه ينسحب على حقيقة حياتنا الشخصية وعلاقاتنا بالآخرين.
ففضيلة الصدق وبروزها في أشكال متعددة مثل الأمانة والإخلاص لهي جانب أساس في حياة الإنسان، وبدونها سوف تُسْتَنْفَذُ حوافزنا الداخلية في ميادين الصراع وأساليب الإحتيال والوقوع في حبائل الشكّ واتباع سبل الخيانة. إن هذه الفضائل والقِيم ليست أخلاقية في سِماتِها فحسب، بل هي مقوِّمات ضرورية لحياة متكاملة سليمة. ذلك لأن الوصول إلى الحقيقة باختلاف جوانبها هي سيماء الإنسان الملازمة له – كونه لديه القدرة الكامنة على معرفة الحقيقة وإدراكها واكتشافها.
تُظهِر لنا الحالتان التاليتان أهمية دور المعرفة والحقيقة في حياتنا الخاصة وعلاقاتنا الشخصية:
حالات للدراسة
المقابلة الأولى: جان "Jan"
(جان ممرّضة عمرها ثمانية وعشرون عاماً، متزوجة وأم لطفل عمره ثلاث سنوات)
المعالج النفسي – كيف حالكِ اليوم؟
جان: لا أعرف، أنا كما أنا.
المعالج: كما أنتِ! كيف؟
جان: كما أنا دائماً، وأنتَ تعرف ذلك.
المعالج: لا، أنا لا أعرف.
جان: لا أعرف كيف أشعر، بماذا أفكّر، ماذا أفعل ولماذا؟ لا أعرف شيئاً. وفوق هذا ماذا هناك لأعرفه؟ أذهب كل يوم إلى عملي، وكل واحد يقول بأنني ممرّضة جيدة. أحب طفلي وأعتني به جيداً، وأبذل كل جهدي لأقوم بواجبي كزوجة.
المعالج: يبدو لي أنكِ إمّا يائسة أو مكتئبة.
جان: نعم، ربما وربما لا. فأنا يائسة لأن روتين الحياة يأخذني ولا أرى أمامي هدفاً، ولستُ مكتئبة وسبق أن تطرَّقنا إلى ذلك. أنام مستريحة وآكل جيداً وليست لدي أفكار للإنتحار أو نوبات من البكاء، ولا أعاني من ضيق مادّي أو اعتلال صحيّ أو ضغط في العمل يمكنه أن يفسّر شعوري باليأس. لقد نصحْتَني بتناول مضادّات الإكتئاب فلم تقدِّم لي سوى التخدير وزيادة الوزن. فأنا لست مكتئبة، وبكل بساطة لا أعرف سبباً لهذه الحياة. أخبرني أنت؛ ماذا تقول لك حياتُك؟ أخبرني ماذا أفعل وسأفعله.
المعالج: وعندئذٍ سوف تعيشين حياتي لا حياتكِ.
جان: إذن عليّ أن أتعرّف على نفسي. إنه تحدٍّ كبير ليس من السهل تحقيقه.
المقابلة الثانية
(مقابلة مع زوجين في منتصف الثلاثين من عمرهما)
المعالج: كيف الأحوال؟
الزوجة: إنني غاضبة وأشعر بالإهانة. وَثِقْتُ به دائماً ولم أشكّ يوماً في صدقه، وها هو الآن.
الزوج: ولكنني توقّفت عن مقابلتها ولم أرَها منذ أربعة أسابيع. أساعد في الإعتناء بالأطفال،فماذا تريدين أكثر من ذلك؟
الزوجة: إذن أنا مدينة لك بدقائق معدودات تقضيها مع الأطفال!
الزوج: لا أعني ما تفهمينه بهذه الطريقة. إن ما أطلبه أن تعود الأمور إلى سابق عهدها.
الزوجة: وهذا مستحيل.
الزوج: ولماذا؟
الزوجة: لسبب واحد، لم أعُد أثق بك. لا أعرف كذبك من صدقك. فبعد خداعك لي لم يعد أي
شيء كما كان في السابق.
دعونا الآن نتلمّس هذه الحالات على ضوء المعرفة والمحبة والإرادة وفضائل الحقيقة والوحدة والخدمة. ففي دراستنا لها وجدنا فيها نموذجيْن لأسقام المعرفة والمحبة والإرادة. ففي المقابلة الأولى لم تكن الممرضة ذات الثمانية وعشرين عاماً، وبكل بساطة، من عادتها البحث عن المعنى وليس لديها اللهفة للإستنارة. كل ما تعلمتْه كيف تكون أماً صالحة وموظفة وزوجة ناجحة، إلا أن حياتها كانت خاوية؛ فلا سعي منها نحو الإستنارة، ولا رغبة في البحث والإستقصاء والتساؤل. فوقعت بذلك في وهدة اليأس. إن الجرْيَ وراء المعرفة أمر أساسي وضروري لحياتها كإنسانة. وهذا ما افتقدته بالكلية.
والمقابلة الثانية تتعلق بالمعرفة أيضاً ولكنها من جانب مختلف. فالزوجة في تلك الحالة لم تعد تعرف ما إذا كان بإمكانها الوثوق بزوجها أم لا. فعلاقة زوجها بامرأة أخرى أفقدها ثقتها به، وهنا نجد أنفسنا نتعامل مع وجه آخر هام من أوجه السعي نحو المعرفة، وهو الحاجة الماسة إلى تلمّس الحقيقة والصدق. من كتاب-( سيكولوجية الروحانيّة-من نفس منقسمة إلى نفس متكاملة- د. حسين ب. دانش.تعريب-د.نبيل مصطفى ، أ. مصطفى صبري-مكتبة مدبولي –القاهرة)
ونتابع هذا الجزء في المقال القادم...تحياتي
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :