كان ينبغي أن أكتب
كان ينبغي أن أكتب عن "مهزلة الانتخابات" البرلمانية التي أتعامل معها هذه المرة بمنطق "رضيت من الغنيمة بالإياب"، بمعنى أنها ـ بتقديري المتواضع ـ ستكون ناجحة لو مرَّت بسلام، دون إراقة دماء، فلدينا ما يكفي من "بوابات الدم الأخرى التي تراق في مواجهات عبثيَّة بين أبناء الوطن من مسيحيين ومسلمين، والتي شهدت آخر فصولها الدامية في "الجيزة"، بسبب بناء كنيسة، وهو أحد الأسباب المتكرَّرة لتلك الاحتقانات الطائفية البغيضة التي باتت تتواتر خلال الأعوام الماضية، في وقتٍ يملك فيه النظام الحاكم مفاتيح الحلِّ الحاسم بإقرار قوانين مُنصفة متحضِّرة، تسري على كافة دور العبادة دون تمييز، وتُطبق بصرامة دون التفاف عليها.
لكن ما يحدث أن الانتخابات المرتقبة أحاطتها أجواء مرتبكة، وملابسات غامضة، جعلت الرهان على نتائجها "نكتة بايخة"، فهي مشهد كاريكاتوري يشبه عجوزًا أكل الدهر عليه وشرب، وحاصرت جسده كل العلل، ومع ذلك يقف على حلبة الملاكمة في مواجهة بطل العالم للوزن الثقيل.. الثقيل جدًّا.. سواء بالمعنى البيولوجي أو النفسي، يعني أنه ثقيل الوزن والظل معًا، فالحزب الوطني (الحاكم من يومه) سيفوز ويرفع أشاوسه رايات النصر المُبين، وتجري ترضية الثكالى ـ وهم غالبًا ممن لم تشملهم قوائمه الانتخابية ـ ولن تحصل المعارضة الشائخة إلا على ما يقرِّره الحزب عددًا وأسماء.
أما قصص الاحتقانات الطائفية فهي "لعب بالنار" ستدفع ثمنه أجيال لاحقة، ممن فتحوا عيونهم على مناخ "فرز طائفي"، جعلتهم يرتدّون لهوياتهم الفرعية على حساب الهوية الأم، المظلة التي تحمينا جميعًا وهي الوطن، الذي يتغنَّى الجميع بحبه، بينما يشهرون عليه سيوفهم في أول اختبار.
كان بوسع السلطة في مصر ـ لو شاءت ـ أن تُمرِّر تشريعاتٍ حاسمةً ملقاةً في الأدراج منذ عقود، وأقول عقودًا وليس سنوات دونما مبالغة، كقانون دور العبادة الموحِّد، وقانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين، وكان بوسع مجلس الشعب (البرلمان) الهُمام أن يمارس مهمَّته، باقتراح قوانين ترسم حدود العلاقة بين الدين والسياسة، وأن يراقب أداء الجهاز الإداري الفاسد المترهِّل.
لكن ما حدث أن غالبية النوَّاب انصرفوا إلى إنجاز مصالحهم ومصالح ذويهم وحاشيتهم، إلا من رحم ربي، بينما تفرَّغ الأعلى صوتًا من "نواب النضال" لقضايا خارج دائرة اهتمام البسطاء، من طراز تنظيم المسيرات لدعم "أسطول الحرية"، ودعوة أحد نواب الإخوان لفرض الحجاب على مذيعات التلفزيون، وحدِّث ولا حرج بما تسعفك به قريحتك من السخف والتنطُّع وتغييب الوعي.
كان ينبغي أن أكتب عن قضية "البطالة المخادعة" التي أفرزت جيلاً من الأدعياء في كل المهن والحرف، فمن الطبيب إلى السباك تجمعهم الشكوى لحد التلذُّذ بها، بينما لو وضعت مهاراته وأداءه على المحكِّ العملي، لن تجد الطبيب طبيبًا بل مجرد "دجَّال"، والسباك قد يتحوَّل حينئذٍ إلى لص.
كان ينبغي أن أكتب عن عشرات القضايا المُلحَّة التي حوَّلت المناخ العام في مصر إلى بركة راكدة.. تحكمها "قواعد السيولة"، فلا تعرف لقدميك موضعًا آمنًا، فالجميع متربِّصون بعضهم ببعض، والمشاجرات تشتعل في كل شارع ومدينة وقرية لأتفه الأسباب حتى الجرائم باتت فجَّة لدرجة تتجاوز حدود الخيال، وانتُهِك المنطق لصالح العبث تارة، والابتذال تاراتٍ، والاستخفاف بأنفسنا وشيوع "حالة عدمية" أصبح السلوك متحضِّرًا في ظلها أمرًا مثيرًا للسخرية، فالفجاجة والاحتيال والكذب والنفاق والعدوانية وثقافة الاختطاف.. أصبحت كل هذه المعاني المنحطَّة وغيرها عناوين على المرحلة، تضع عيني المتأمِّل اللبيب على موقعنا المتخلِّف بين الأمم والشعوب.
كان ينبغي أن أكتب عما يحاصر مصر من كوارث محدقة في إطارها الإقليمي، فأهم حدود مصر ـ وهي بالمناسبة الجنوبية ـ لأنها تضم منابع النيل.. هل لا يزال أحد يهتم بأمره حقًّا؟
ولو كنَّا كذلك فلماذا يصل بنا الأمر لدرجة تستأسد علينا فيها دولٌ كانت قبل عقود مضت مجرد "حدائق خلفية" لمملكة "مصر والسودان"، وهنا أحيل إلى تصريحات ميلس زيناوي، رئيس وزراء أثيوبيا، التي هدَّد فيها مصر بعبارات صريحة عن مواجهات عسكرية بسبب مياه النهر، وهنا فلن تقرأ أو تسمع في مصر تفسيرًا للأمر سوى الإحالة على نظرية المؤامرة، باللغو الفارغ عن دور إسرائيلي في القارة السمراء، ولو سلَّمنا ـ جدلاً ـ بصحَّة الأمر، فأين كانت مصر بدبلوماسيتها وأجهزتها وقوَّتها الناعمة أو حتى الخشنة وأذرعها الطويلة، لتترك أهمَّ الساحات فارغة لإسرائيل أو غيرها للعبث بمقدَّراتنا؟!
طبعًا لا أتوقع إجابات جادَّة تحترم عقول الناس، بل سنستمع إلى مزيد من "المكالم"، فهناك مكلمة لا تتوقف عن "أزهي عصور الحريَّة" و"العرس الديمقراطي"، ومعرفش إيه، من كل الهراء واللغو الفارغ الذي يردِّده أعضاء جمعية المنتفعين ببقاء الحال على ما هو عليه، وسيمتلكون القدرة على إقناعك بألف حيلة ووسيلة، وإن لم تقتنع فلن يعدموا القدرة على إسكاتك، لتصبح على الأقل "شيطانًا أخرس"، ما لم تراجع حساباتك وتقرِّر أن تكون "ناطقًا" لتحصد جانبًا من الغنيمة التي لم يعد منها سوى الفتات.
نفس المنطق وبالأحرى "اللا منطق" سيتكرَّر في قضايا لم تعد تحتمل خداع الذات ولا التبرير، كالاحتقانات الطائفية وأزمة مياه النيل وغيرها، فكل ما يمكن أن تسمعه هو "اللغو"، واللغو هو سفيه القول.. فارغ المضمون، حتى لو اكتسبت الجمل والعبارات شكلاً مقبولاً، واستُخدِمَت فيها ألفاظ "مجعلصة"، بهدف تمييع الأمور، ليصل بك الأمر لدرجة تقرِّر فيها ألا تسمع.. ولا تقرأ.. ولا تكتب.. ولا تفعل شيئًا سوى الانتظار الذي لا أحسب أنه سيطول، فكل ليلٍ لا بد أن يعقبه النهار.. فقد كان ولم يزل وسيظل هذا هو قانون الحياة الذي لم نصنعه، لكن على الأقل ينبغي أن نفهمه، ونتعلَّم منه، لكنك أسمعت إذ ناديت حيًّا.
والله المستعان
Nabil@alazma.com
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :