قداسة البابا "شنودة" والغضب المقدس
بقلم: د. وجيه رؤوف
حينما تأتي سيرة قداسة البابا "شنودة"، أتذكَّر والدي رحمه الله الذى كان حينما يرى قداسة البابا في التلفزيون- سواء في قداس أو في لقاء- كان يقف مبتسمًا وهو ناظر إلى قداسة البابا، مرددًا كلمة: ربنا يطوَّل لنا في عمرك يا قديس يا عظيم.
وأحببنا البابا جدًا.. وللحقيقة، فهو شخصية محببة إلى النفس؛ لما فيها من صفاء للروح، ووضوح في التعبير، وخفة في الدم لا تُوصف. كما أنه شاعر.. فيلسوف.. لا تملك أمام أشعاره إلا أن تقف مستمعًا لتلك الكلمات المقدَّسة الممتلئة روحانية ونورانية.
كلمات لا يفهمها إلا من اختبر محبة الله ومحبة الناس. وهكذا، تعوَّدتُ من والدي، حينما أرى قداسة البابا، أن أردِّد وبتلقائية شديدة، وكأن قلبي وعقلي قد توارثا نفس الحب المقدَّس لقداسة البابا، قائلاً: "ربنا يحفظك ويطوَّل لنا في عمرك يا قديس يا عظيم".
أما من ناحية قدسية قداسة البابا، فتلك نقطة نفسية داخلنا، اختبرناها على مدار معرفتنا بهذا القديس العظيم.
والحقيقة، إذا كان ملك الملوك ورب الأرباب قد عانى من اضطهاد ذوي السلطة، أفلا يعاني أبناء الملك من نفس الكأس؟
وهكذا اُضطهد المسيح من اليهود قديمًا؛ لأنهم كانوا يريدونه ملكًا أرضيًا، ولم يفهموا أن مملكته ليست من هذا العالم.. أرادوه ملكًا يشهر سيفه ليخلصهم من اضطهاد الرومان، ولم يفهموا أنه ملك سماوي جاء ليخلصهم من خطاياهم الجسدية والروحية، وقد جاء ليخلِّصهم من خطيئة "آدم" المتوارثة، وجاء لكي يدفع بجسده على الصليب ثمن خطاياهم، ويضمن لهم حياة أبدية.
وكما لم يفهم المسيح أعداءه، فلم يفهمه أيضًا أبناءه!!
كيف ذلك ؟؟!!
كما كان يستغرب تلاميذ المسيح من طول أناته وصبره، هكذا كان يستغرب شعب الكنيسة وأبناء الكنيسة من صبر البابا "شنودة"، فمثلاً:
استغرب تلاميذ المسيح حين تم إبلاغه بمرض صديقه "لعازر" منذ يومين، وتأخر المسيح ولم يذهب في ساعتها ليشفه، بل تأخر بعد أن مات "لعازر" ودفن وأنتن في القبر. وبعد ذلك ذهب له المسيح ليقيمه من بين الأموات.. كانت هناك حكمة للمسيح في أن ينتظر لكي تظهر هذه المعجزة؛ ليدركوا بحدثهم أنه هو الله المتجسد.
وأيضًا، حين هاجت الأمواج، وارتفعت السفينة وامتلأت بالماء، كادوا أن يموتوا، وصرخوا إلى المسيح لإنقاذهم. هل كان المسيح لا يعلم بما يمرون به؟ كلا، كان يعلم. ولكنها تجربة كانوا لابد أن يخوضوها، ويصرخوا إليه فينتهر الرياح أن تصمت والأمطار أن تقف. وكان له ما أراد، وكان لهم ما أرادوا، ولكنها حكمة التأني.
وفي كل ما مرَّ به المسيح من ظلم وتسامح، لم يغضب من الإساءة إلى شخصه، بل كان غضبه المقدَّس حينما دنَّس التجار هيكل المعبد بتجارتهم الرخيصة، فضفر حبلاً وضرب به الباعة الجائلين. بل وقلب موائد الصيارفة، قائلاً لهم: "بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص".
هكذا كان غضب المسيح فيما يخص بيت الله وقداسته.
ونأتي إلى قداسة البابا "ابن الملك"؛ فقد أرادته السلطات منذ توليه البابوية أن يكون وزيرًا أرضيًا يتبع السلطات ويرضخ لها. وكان الرجل متسامحًا.. بشوشًا.. فظنوا في هذا استكانة وإذعان من أنه سيكون رجلهم الدنيوي الذي يأتمر بأمرهم.
وجاء "السادات"- وكلكم يعرف من هو "السادات"- بحنكته السياسية ودهائه الفطري. وظن "السادات"- كما ظن الجميع- أن البابا سيكون خاتمًا في أصبع السلطة! وفشلت حكومة "السادات" في فهم زعامة البابا "شنودة"، وتخيَّلتها زعامة أرضية، خصوصًا حينما ظهرت إتجاهات قداسة البابا التي تخالف إتجاهات السلطة. وهنا، فهموا وتأكَّدوا أن البابا يريد أن يكون زعيمًا أرضيًا للأقباط، وهذا لم يكن في بال البابا مطلقًا.
المهم، صارت هناك عداوة وأحقاد من قِبل "السادات" تجاه البابا، دفنها "السادات" في داخله، منتظرًا لحظة دفع الثمن. وجاءت أحداث الزاوية الحمراء، والتي كان يتندر بها "السادات" قائلاً: "شوية مَيَّه وقعوا من البلكونة إللي فوق على البلكونة إللي تحت، ويبدو أن الميَّه كانت مش ولابد يعني! دي هيه الحكاية إللي تسببت في قتل المئات من الأقباط في الزاوية الحمراء"، ولم يأخذ القضاء بحق الأقباط بها.
وهكذا وبعد فتره خروج الجماعات على السادات وبعد ظهور خريف الغضب، ألقى "السادات" بمعظم القيادات الدينية الإسلامية والمسيحية بالمعتقلات، بل واحتجز البابا "شنودة" رهن الاعتقال بـ"وادي النطرون"، وجرَّده من رتبة البابوية بقرار رئاسي (فقد كان يعتقد أن البابوية منحة رئاسية أرضية للأسف!!)
وحين ذهب بعض أبناء الكنيسة إلى قداسة البابا، مستفسرين عن رده على قرارات "السادات"، قال قداسة البابا: ردي على قرارات "السادات" هو مزمور (52) لداود المرنم. وهكذا حينما بحثنا عن المزمور (52) وجدناه يقول: "1. لماذا تفتخر بالشر أيها الجبار؟ رحمة الله هي كل يوم 2 لسانك يخترع مفاسد. كموسى مسنونة يعمل بالغش 3 أحببت الشر أكثر من الخير، الكذب أكثر من التكلم بالصدق. سلاه 4 أحببت كل كلام مهلك، ولسان غش 5 أيضا يهدمك الله إلى الأبد. يخطفك ويقلعك من مسكنك، ويستأصلك من أرض الأحياء. سلاه 6 فيرى الصديقون ويخافون، وعليه يضحكون 7 هوذا الإنسان الذي لم يجعل الله حصنه، بل اتكل على كثرة غناه واعتز بفساده 8 أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله. توكلت على رحمة الله إلى الدهر والأبد 9 أحمدك إلى الدهر لأنك فعلت، وأنتظر اسمك فإنه صالح قدام أتقيائك".
هكذا تحدَّث المزمور، ومثلما قال المزمور مثلما حدث على أرض الواقع؛ فقد تم اغتيال "السادات" وهو في أوج قمته، وهو بين قواته وجيوشه!!
وحتى في تلك القصة، فقد كانت هناك معجزة خفية وسطها؛ فلو لم يُعتقل البابا، لكان مكانه على المنصة بجوار "السادات" لكي يتم اغتياله مثلما اُغتيل الأنبا "صموئيل" الشهيد.
وحتى بعد اغتيال "السادات"، فقد ظلَّ البابا رهن الاعتقال فترة طويلة بعدها، لولا تدخل بعض الدول لفك اعتقاله، مما يدل على أن الغضب على البابا، ظل فترة في ظل الحكومة الجديدة.
وهكذا يخرج البابا من معتقله، لتنتظره مآسٍ أخرى، وتتوالى مسلسلات التعدي على الأقباط في طول البلاد وعرضها، ويتوالى مسلسل خروج الجناة من جرائمهم، وعدم حصولهم على الأحكام القضائية المناسبة. والغريبة التي كنا نندهش منها، أن البابا دائما يتحدث: "نحن نثق في عدالة القضاء".
ربما كان إدراكنا محدودًا، وربما نحن نفهم أنه يقصد القضاء الأرضي، وربما هو يقصد القضاء السماوي.
عمومًا، ما نتعلَّمه من تلك الأحداث، هو أن صبر البابا طويل، ووداعته دائمة، ولكن غضبه مقدَّس. فحين يغضب البابا تغضب السماء، ويكون رد فعل السماء عنيفًا.
ولكن ما يطمئننا هو أن قداسة البابا دائمًا يصلي من أجل السلام ومن أجل المحبة، ومن أجل النيل.
فلنصل دائمًا أن يجعل البابا هنيئًا راضيًا، بل ولنصل حتى لا يغضب البابا؛ فكما قلنا، غضبه مقدَّس..
ولندع لقداسة البابا، قائلين: "فليجدد مثل النسر شبابك".
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :