ملامح الفكر الدوجماطيقي
محمد عبد الفتاح السروري
من الموروثات الإنسانية الشائعة، والتي تجري دومًا على الألسنة تلك المقولة التي نصها أنه "ليس من الحكمة إعادة إختراع الدراجة"، والتى يتلخص معناها وغاية مرادها هو النصح بعدم السعي وراء إثبات البديهيات، وعدم إضاعة الوقت والمجهود، واستنفاذ الطاقات فيما جرى إثباته، والتيقن منه، وأنه من الأفضل أن يسعى (الإنسان- المجتمعات) إلى إستكمال ما تم بدءه دون محاولة البدء من جديد، وعلى الرغم من ظاهر تلك النصيحة قد يبدو من أول وهلة مُنظّرًا ومؤكدًا على فكرة التعصب السابق لفكرة ما، إلا أن المتأمل مليًا في تلك المقولة يستشف أن التعصب المسبق للأفكار والرؤى شيء، والمحاولات المستميتة لبرهنة البديهيات شيء مختلف تمامًا.
مثلما يعاني الإنسان المفرد من محاولة إقناع أولى القربى أحيانًا، بأن هناك من البديهيات مالا يحتاج إلى برهان، تعاني المجتمعات من محاولة البعض تخطي حدود البديهيات، والقفز على الواقع، والتاريخ، بطرح نموذج أو حلول أثبت الزمان فشلها الذريع، سواء كان على مستوى التجربة الخاصة التي تخص مجتمع بعينه، أو على مستوى التجربة العامة التي تخص غيره من المجتمعات.
ولكي لا يكون كلامنا مرسلاً على عواهنه، نسوق ما نبغي قوله وما نريد طرحه في الأمثلة التالية:
أثبتت التجارب التاريخية، أن أفضل نموذج لفكرة الدولة هو نموذج الدولة الموحدة تحت مبدأ القطرية الواحدة، وأن يكون لتلك الدولة (الناجحة) جيش موحد تحت قيادة تخضع للترتيب والترقيات الهيراركية -أى النظامية التراتبية القائمة على فكرة الهرمية- وأن أي محاولة لتجاهل أو تخطي فكرة الجيش النظامي الموحد للدولة، هو بمثابة الهدم التام لفكرة الدولة المركزية القوية، ولنا في بعض الدول التي اتخذت الميليشيات منهاجًا وسبيلاً، ولا شك أن فكرة الميليشيا تتعارض مع فكرة الجيش النظامي حد علمي أنه لا يوجد مجتمع أخذ بفكرة الميليشيات كحل لفرض رأي طائفة على أخرى، إلا وكان مصير هذا المجتمع ومن ثم الدولة إلا الفوضى الشاملة، والتناحر الدائم، والتقاتل المستمر، ناهيكم عن عدم وجود مهزوم ومنتصر في النهاية، لأن الجميع في هذه الحالة خسران.
ومثال آخر.. من الدراجات التي يجب على أي مجتمع عدم السعى الى إعادة اختراعها، هي محاولة البحث عن الفكرة الجامعة، التي تجمع كل مواطنيها على اختلاف وتباين أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم الإثنية، حيث أن البشرية المتحضرة، ومنذ أمد طويل، قد توصلت إلى أن أفضل فكرة يمكن أن تجمع أبناء الوطن الواحد، هي فكرة المواطنة، القائمة على فكرة وحدة الأرض والانتماء للدولة، والاحتكام لفكرة القانون العام كمرجع، للفصل في المنازعات، وأن أي أفكار تخرج عن مبدأ المواطنة، إنما تصب في مجرى لا يؤدي إلا إلى تفتت هذه الدولة، ويضرب وحدتها القطرية في مقتل مميت.
وعلى الرغم من أن الحديث السابق قد يبدو من قبيل التكرار، الذي شبع القارئ الكريم منه، بل ويكاد الكثيرون يحفظونه عن ظهر قلب، إلا أن واقع الحال يفرض علينا دومًا التنبيه والتأكيد لما هو مؤكد، ومحاولة ترسيخ ما هو راسخ في المبادئ والأسس المكونة لأى دولة متحضرة، وأي مجتمع قويم.
لا يزال (العرف) في مجتمعنا هو المرجع وليس القانون، ولا تزال الجلسات العرفية هي الضامن الأساسي للحقوق، والفارض للواجبات، ولا يزال الاحتكام لميليشيات القبيلة هو الحامي والمقتنص للعدل والقصاص.
لا يداخلني أدنى شك في أن أي إنسان قد التقى -ولو لمرة واحدة في حياته على الأقل- بتلك النوعية من الأشخاص، التي تعتقد اعتقادًا جازمًا بصحة وصواب ما تتقول به من أفكار، وذلك على الرغم من أن جميع الشواهد الواقعية والتاريخية تنفي صحة هذا الاعتقاد، هذا غير تلك النوعية من الناس التي تعاند نفسها، وتلغي عقلها، لأن في الاعتراف بخطأ من يعتقدونه فيه إخلال باحترام الآخرين لهم، من وجهة نظرهم، وخاصة في المجتمعات الريفية، التي تتميز بكونها مجتمعات مغلقة.
إن الإيمان المطلق بصحة (ما وجدنا عليه آباؤنا) هو أحد المكونات الأساسية التي تعترض طريق التنمية البشرية والاجتماعية في بلادنا، فلا يزال هناك الكثير من القضايا المعلقة، والتي يقف الفكر الاجتماعي والموروث الفقهي عائقًا أمام أي محاولة لتغيرها، على الرغم من الاعتراف بوجوب ذلك التغيير، قضايا مثل ختان الإناث، وما يسمى بجرائم الشرف، وزواج صغيرات السن، وغير ذلك.
إن "الدوجما" في إحدى تعريفاتها؛ هي تلك الفكرة التي لا تقبل النقاش عند من يعتنقها، فهو يعتقد في صحتها دون أي محاولة منه لإعمال العقل فيما يعتنق، ومن المفارقات الطريفة أن تجد أن أصحاب الأفكار الدوجماطيقية لهم نفس المواصفات (ونفس تعبيرات الوجه) عند التحاور معهم، على الرغم من تعارض بعض الأفكار مع بعضها، فلا فرق يذكر بين دوجما السلفيين -على إختلاف الديانات- وبين دوجما الماركسين، فهناك تكوين واحد يجمع الجميع ألا وهو الرفض المطلق لدوجماتيقيتهم، وإنها لمتعة حقة عندما تتواجد فى مكان ما، ويحالفك الحظ في حضور حوار دوجماطيقي بين المختلفين في الفكر، والفقه.
وملاحظة كم التوافق في المنطلقات التي ينطلق منها حوار المتحدثين، على الرغم من تعارضهم الظاهر، هم يختلفون في الرؤى، ومتعارضون في التوجه، ولكنهم جميعًا متفقون في أن عليهم إثبات ما يؤمنون به بكل السبل المعقلنة، وغير المعقلنة.
فماذا نقول لإنسان يبرهن على صحة نظرية علمية بآيات من القرآن، على الرغم من وجوده في مؤتمر علمي، أو لقاء عام يشمل المسلمين وغير المسلمين؟ وماذا نقول لمن يؤكد دومًا أن الطلاق مدمر للأسرة، على الرغم من أن هناك أشخاصًا فشلوا في زيجات، ونجحوا في أخرى تالية لها.
إنها دومًا الدوجما، وإنها حقًا لطفولية يعز عليهم تركها.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :