الحضارات الإنسانية نابعة من النفحات الروحانية
بقلم: راندا الحمامصي
للعالم تاريخ يطالع فيه أخباره. ومن هذه الأخبار ما تمر عليه أنظار الأجيال الأخيرة وهي تحمد الله على ما وصلت اليه البشرية بعد حياة بدائية اصطبغت بلون الصراع الوحشي للإبقاء على النوع. ويأتي في الأخبار لون آخر فيه لمعات الفكر الإنساني التي أضاءت نواحي الحياة بالعلم والكشف والاختراع ومن ورائها أفق أعلى للإشراق منه يستمد العلماء والحكماء والفلاسفة إلهاماتهم. فحيثما يقدم التاريخ صفحاته عن مراحل تطور الفكر الإنساني في العلم والاختراع، نراها متوجة بلوحة عامة تشع بأنوار النهضة والحضارة بفروعها الكاملة لدورة كاملة محددة. وهذه الدورة الكاملة لزمانها تنقل بدورها الحياة خطوة أمامية وتتدرج بها في معارج الكمال الذي لا نهاية له، وتعد الأذهان في الوقت نفسه الى فهم أوسع وإدراك أتم، وما هذه اللوحة العامة إلا الفيض الإلهي والنور المشرق من أفق الفضل في مصابيح رسالاته لبني الإنسان "الله نور السموات والأرض" سورة النور 35.
وبفضل صفحات هذا التاريخ استطاع العالم أن يدرك حدود كل مرحلة اجتازها، ويتبين معالم كل خطوة خطاها في تطوره. فحين يستعرض حياته وكيف درجت من الغابة الى العائلة الى القبيلة الى المدينة الى الأمة، فإلى الدولة، يرى كل مرحلة من هذه المراحل اقترنت بأبطالها الذين كانوا يعملون عملاً واحداً متصلاً، ويهدفون الى هدف واحد رغم التفاوت الذي يبدو بين عصورهم تبعاً لادراكات الناس وقابلياتهم واستعداداتهم.
على أن الصورة التي تستوقف نظر العالم أكثر هي تلك التي تريه حياته المتدرجة، وكيف انها لم تقف عند نهاية مرحلة بالذات ! فهي لم تكد تبلغ نهاية مرحلة البداءة حتى خطت الى العائلة، ولم تكد تبلغ نهاية مرحلة العائلة حتى خطت الى القبيلة، وهكذا الى المدينة، فالأمة، فإلى الدولة. ثم ها هو العالم يشهد سهم التطور موجها الى مرحلة أكبر، فلم تكن حياته تبلغ نهاية مرحلة الدولة الا لتخطو خطوة أمامية أخرى موسومة اليوم بمرحلة "وحدة العالم الإنساني".
ويلاحظ كذلك انه مهما بلغ من تفاوت في قوة إشعاع النجوم المتلألئة في آفاق العلم والكشف والاختراع تبعاً للزمن، فان طبقة هؤلاء العلماء والمكتشفين والمخترعين وسائر طبقات البشر يستمدون أنوارهم من شمس واحدة تسطع بنور واحد وحقيقة واحدة انعكست في زجاجات رسل الله، إبراهيم وموسى وزردشت وبوذا والمسيح ومحمد والباب وبهاءالله. فعند طلوع شمس واحد منهم تعيد في عصره ذلك النور الواحد الذي أشرق على عصور الإنسانية المتدرجة، واستضاء منه الفكر بنور جديد واستمد منه حرارة جديدة تدخله في ربيعه المنعش المتأرج. وهكذا رأينا "أن ابيدقليس الذي اشتهر في الحكمة كان في زمن داود، وفيثاغورس في زمن سليمان بن داود وأخذ الحكمة من معدن النبوة" - بهاءالله، مجموعة 46، ورأينا سقراط يذهب الى أورشليم ويتلقى علم التوحيد وخلود الروح، ورأينا "جاليليو" يخترع التلسكوب ويعلن نظريته الجديدة التي تقول بسكون الشمس وحركة الأرض تأييداً لما جاء به القرآن الكريم "والشمس تجري لمستقر لها... وكل في فلك يسبحون" يس 38-40. وهذه النظرية الجديدة هي عكس النظرية البطليموسية القديمة التي سيطرت أجيالاً طويلة واستمر علماء الإسلام يأخذون بها قرابة تسعمائة سنة رغم آيات القرآن، كما فصله عبدالبهاء.
"طوبى لبصير ما منعه الهوى عن مولى الورى ولسميع توجه وسمع نداء الله الملك العزيز الودود..." (بهاءالله)
قلم التاريخ
للتاريخ قلمه الذي يخط به صفحات النهضات الروحية المتوجة لمراحل الفكر والعلم والكشف والاختراع، ويثبتها في صراحة وقوة رغم الأقلام التي تتجمع من حوله وتتحرك بعنف لتحطيمه. والذين كان من حظهم أن يمسكوا بقلم التاريخ ليكتبوا الصفحات كانوا يحسون بما سوف يصيبهم من أذى وبلاء. ومع ذلك لم ترتعش أيديهم، بل مضوا يرقمون راضين لأنفسهم التعذيب والتشريد والإيذاء، بل والقتل في سبيل فكرتهم التي استقرت من بعدهم، بل اندفعت قوية آخذة مكانها في سير الحضارة.
ولم تكن شموس الحقيقة - رسل الله - لتطلع من خلف حجبات الجهل الا لتواجه الظلام الكثيف الذي اصطنعته أوهام الناس، والموجات العاتية التي ارتفعت من بحور الاعتراضات. ولئن أفلح التعسف والجهل وعدم الإنصاف، بحسب الظاهر، في إخماد المشاعل التي أضاءت فروع العلم والكشف والاختراع، فانه لم يفلح في وقف إشعاعها. كذلك أفلحت نفس تلك القوى في تعذيب وقتل مشارق هداية الله، ومهابط وحي الله وحاملي رسالات الله، ولكنها لم تفلح قط في حجب شموسهم التي تظل تهب الحياة لعالم الإنسان، بل لكافة الكائنات، فالإنسان اذا صفت روحه صفا التراب والماء والهواء، واذا أظلمت روحه اظلم الكون وما فيه.
ويدور الزمن، وتدرك الأجيال التالية قيمة ما قدمه راقمو التاريخ وعظمة وجلال الصفحة المتوجة لكل مرحلة من مراحل التطور العام وهي التي رقمتها أصابع رسل الله.
ليس عجيبا أن تحمل هذه الحقائق عبرة التاريخ كاملة، ولكن العجيب هو أن يظل الناس سادرين في غفلتهم، ويرتكبون، كلما واجهوا نفس الظروف، ذات العمل الذي كانوا يعيبونه على غيرهم ! فعندما يحدثنا التاريخ عن نكبة الحقيقة في محاكمة سقراط التي انتهت بتجرعه السم، أو عندما يحدثنا عن النكبة الكبرى في محاكمة مظاهر أمر الله - إبراهيم وموسى والمسيح ومحمد والباب وبهاءالله - توطئة للقضاء عليهم وقتل حركتهم، يتحرك الناس فيما بعد، وينظرون الى تلك النكبات باعتبارها الوصمة العريضة في جبين الإنسانية التي خلقت أصلاً لتعيش وتفكر في حرية، ولتعبد الله في حرية كفلتها ونظمتها رسالات الله منذ أن عرف الإنسان له تاريخاً على الأرض. هذه الحرية الكاملة الفاضلة هي التي جاء رسل الله لتثبيتها في قلب الحياة، لأنها تستمد نورها من السماء لتضيء به مسالك الأرض "قل الحرية التي تنفعكم انها في العبودية لله الحق"... بهاءالله.
وكم من مأساة مروعة سجلها التاريخ كلما تعارضت أهواء الناس مع الناموس الذي أبدعه الله تعالى، ففي هذه الحالة يكون الجور والظلم والجهل والوهم، ويكون الحكم للمادة وسلطانها، والأمر للنفس وشهواتها! فاذا جاء أمر الله، وظهر حامل رسالة الله الذي يدعو الناس الى العدل والرحمة والشفقة، ورعاية المسكين، وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف والفقير، وإزالة الجهل من بين الناس، وإصلاح الحياة التي أفسدتها الشرور، ورسم الطريق من جديد - اذا جاء هذا البشير لأهل الأرض المعذبين، وارتفع صوته الحنون بتغردات الرحمة، تصدّت له قوى الشر والفساد والهوى المسيطرة على الناس تريد أن تمحوه وتخفت صوته وتطفئ نوره، وهو إنما أتى ليقدم لأهل العالم من حب السماء انموذجاً مثالياً لحياة جديدة يفدي في سبيله بحياته راضياً، وهو موقن بأن غطاء الوهم السميك الذي حجب أعين الناس عن مشاهدة أنوار الحق فيه وفيما أتى به سوف يكشف بإذن الله، فيعودون يشاهدون بأعينهم ويسمعون بآذانهم.
وحين تسطع صفحات رسل الله المتوجة لمراحل التطور والرقي والحضارة الإلهية، وحين تزدان أيضاً إطاراتها بدمهم الأحمر الذي رقّموا به طراز الفداء في رضاء علوي وفي حب خالص لأهل الأرض، تنادي تلك الصفحات النوراء أهل العالم بأن يتركوا قلم الله ليرقم التاريخ، وأن لا يحرموا أنفسهم من آثاره، وأن لا يغفلوا عن عبره... ويجئ هذا النداء على صورة التحذير "هم حكماء في عمل الشر، والعمل الصالح ما يفهمون. نظرت الى الأرض وهي خربة، والى السموات فلا نور لها، نظرت الى الجبال فاذا هي ترتجف" توراة - ارميا ص 4... "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين اليها كم من مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة أفراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هو ذا بيتكم يترك خراباً" - إنجيل - متى 23... "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون" قرآن - البقرة 87.
"قل يا أهل الأرض، إنا أريناكم فناء ما عندكم وأسمعناكم ذكر الرحيل في كل الأحيان. ضعوا ما عندكم من الظنون والأوهام. خذوا ما أوتيتم من لدى الله مولى الأنام"... (بهاءالله)
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :