العــرّافـــة .... قصة قصيرة
بقلم : هانى رمسيس
بينما تهطل الثلوج ، ترتفع الضحكات داخل السيارة التى لفّ زجاجها بخار الأنفس ، حتى صرت بالكاد أرى أمامى ، فى ليل بهيم ثقيل بارد .
ثمة شئ ما يخيّم على يافوخى ، أشبه بموسيقى " ألف ليلة و ليلة" تتموّج على دخان كثيف ، وصوت شهرزاد يتمايع : بلغنى أيها الملك السعيد .
تتساقط الثلوج ، و ترتفع الضحكات ، و تنزلق السيارة يميناً و يساراً ، فيمتزج شعور المخاطرة مع لغو عن كلام العرافة مع قهقهات زاعقة بلا استحياء مع شقاء يوم طويل ، فيحيلنا كل هذا إلى حالة من الإنفصال عن الواقع ، أشبه بعدمية المُخدرين و السكارى .
كلمات بصعوبة تلتقطها ، و بالكاد تدرك معانيها ، تستحضر روح العرافة و صوتها و فنجانها و ملاك (أنجلينا) صغير يجاورها و نعمة (جريس) تحوّط بها .
***
و حيثما تجلس العرافة ، فهناك على رأس الطاولة صديق ، و فى مقابلها أجلس أنا ، يجاورنى عن يمينى صديق ثان .
تشتعل الرؤوس بالأفكار . يقفز الصديق الأول من على رأس الطاولة مسرعاً ، و قد فرغ من فنجان قهوته ، فيقلبه رأسا على عقب منتظراً ما يشكله القدر من أشكال ، و ما ترسمه الأشكال من أقدار . يتمتم أدعيته و تضرعاته و أمنياته فى مسكنة مسرحية أتلذذ برؤيتها ، و هو نصف جالس نصف واقف .
تتلاحق الأفكار و العرافة تمد يدها تحمل الفنجان بثقة و هدوء الخبير ، تنظر إليه و أصابعها تدور نصف دائرة ، تحملق بعينيها ، و سمات المعرفة و الرضا تبدو على ملامحها ، و صاحبنا لا تعرفه إن كان جالساً أم واقفاً ، تأخذ نفساً عميقاً ، بينما عيناها تنتقلان إلى وجهه الذى هرب منه الدم فصار شاحباً .
تتكلم بلهجتها اللبنانية ، مما يخفف من وقع الحدث و القدر و المكتوب ، حينما تنطلق الضحكات مستفسرة عن معنى بعض الكلمات ، فتأتينا الإجابة ممن لعب دور الوسيط والذى يعرف الكثير من الخبايا و الأسرار ، فيختلط ما يعرفه مع ما ينقله مع ما يشعره و يفسره ، مع ما قد يراه فرصة سانحة للسخرية و التلاعب .
تمتد يد العرافة جاذبة فنجانى ، تطالبنى أن أبصم بالإبهام الأيمن فى الفنجان و أنا أفكر فى أكثر ما يهمنى و يشغلنى ، فيفيض خيالى أفكاراً و صوراً و أحداثاً ، و يخفق قلبى ، و تتملكنى شهوة معرفة المخبوء و سبر أغوار المستقبل المجهول . أعود طفلاً يصدق كل شئ و يسعى نحو اى شئ .
تترك فنجانى لتمسك بفنجان الصديق الثانى ، فيبدى صاحبه صلابة أعصاب تفوق حدود الطبيعى ، و تلوك شفتاه عبارات اللامبالاة ، فتظهر أكثر مما تخفى وراءها ، و يفضح الفضول القاتل عينيه ، وتهرب ضحكاته خجلى .
تبدو الآن ضحكاتنا متراجعة مغلفة بقشرة من تساؤلات .
***
تنزلق السيارة يميناً و يساراً خارجة عن مسارها ، فلم يعد هناك فواصل أو حدود ، و لم يعد هناك قانون للسير ، و قد تلاشى ما بين الواقع و الخيال كما تلاشت أوليات القيادة بتأثير الثلوج .
أترك الطريق السريع إلى طريق داخلى ، و فى الطرق الداخلية تكثر إشارات المرور . تتوقف السيارة أمام إشارة ، و يخيّم صمت كئيب و يعلو الوجوم الوجوه .
- ما الذى يجعلنا نقف أمام هذه الإشارة ؟ و من الذى يحدد متى نتحرك ؟ و ماذا يا ترى ينتظرنا فى الإشارات القادمة ؟ هل نقف فيها أم يحالفنا الحظ فنتجاوزها ؟
لم أعد أذكر مَن مِنّا طرح هذا التساؤل ، و الذى أسقط من خلاله كلام قارئة الفنجان حتى أن احداً لم يجب ، و ظل الصمت هو مالك المكان و رئيس جمهوريته ، فأطبق سيطرته .
- انت سبت كل حاجة و مسكت فى الاشارات .
لم أعد أذكر أيضاً من كان صاحب المبادرة ، و الذى كسر بعبارته –هذه- المعلبة فى ضحكة متهدجة ، الجو الخانق ، وفك رباط الصمت من على أفواهنا ، ليُستأنف حواراً أحادي الأفكار ثلاثى الكلام .
- خلينا فى الغول أو فى السمكة
- و الفرق بين كلب الصيد فى فنجانى و كلب الحراسة فى فنجانك
- هى قالت الحصان فى الفنجان يرمز لإيه ؟
- أنا فاكر قالت الأسد يعنى انك هـتكون شديد فى بيتك
- زى سى السيد يعنى !
- يا خوفى يا بدران !
- ولا البومة و الافعى ... حاجة تجيب التشاؤم
- بس شفت انت لما قالتلك انك بتحب على حبيبتك
- اوبس ... دى لو عرفت تطين عيشتك
- بس أنا عارف مين هى الأفعى ... روحى يا اللى فى بالى
- كل ما تدعى عليها كل ما عمرها يطول
- انا حاسس ان كلامها كله مظبوط خاصة الإشارات
- دى تبقى وقعة سودا
- دا إحنا قدامنا ييجى 100 اشارة
- يبقى مش هنخلص حاجة فى سنتنا دى
- موت يا حمار
- يا ريت تيجى عـ الحمار
- مش ملاحظين ان الحمار هو الحيوان الوحيد اللى ماكنش فـ الفنجان
- دا عشان كان بره الفنجان يا برنس
- ..........................
- .....................................
***
تصل السيارة الجراج ، تتحرك بثبات و هدوء ، على أرض صلبة متماسكة لم تعرف ثلجاً ولا مطراً ، فتوقظنا على واقع رتيب ، حيث مصابيح الجراج الصفراء الناعسة ، حيث لا ثلوج ولا قهقهات ولا اشارات ، ولا سمك ولا بوم ولا أحصنة ولا كلاب صيد أو حتى كلاب حراسة .
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :