جديد الموقع
المسيحيون في محنة والسنة أيضاً والشيعة كذلك
«أن تكون مسيحياً، أمر باهظ الثمن». المشرق العربي ليس آمنا. الأديان فيه أسلحة طائفية ومتاريس مذهبية. السلطة فيه استبداد يشرعن الخوف والانكفاء. الأمن فيه نكوص عن المجتمع، وذوبان في الجماعة ولجوء إلى الأسرة والعشيرة، والتمسك بالسلف، والتماهي بقيم المتسلّط أو قوى الدين... أما الناس، فعلى دين آياتها، تقرأها كيفما كان، استجابة لنقمة أو تبريراً لنعمة عابرة... التعايش فيه مغشوش، لا يستقر فيه أمر إلا على خوف، خوف من، وخوف على... فلا شيء يطمئن المسيحي المنتمي إلا جماعته أو كنيسته أو سلطته الراعية، وهذه اختارت الاحتماء من بطش السلطة ومن خوف التعصب، بالسلطة ذاتها.
«أن تكون مسلماً شيعيا، أمر باهظ الثمن» كذلك. بلاده ممتدة بلا حدود. حيث تكون جماعته يكون إيمانه. هو فوق الحدود واللغة والوطن. لا يرى واقعه إلا من تاريخه. يستحضره حسينياً، فيؤلب عليه الوجه الآخر من التاريخ. يتسيّس مستقلاً عمن ليس منه وعمن لا يشبهه في المعتقد والتاريخ، ولأنه يتسيّس يصبح هادفا وهدفا. يهدف إلى وضد، ويستهدفونه كضد كذلك.. هو ابن محنة تاريخية مجلجلة، وابن محنة في الحاضر القريب، هكذا كان، (العراق ولبنان نموذجان). دمه يملأ الأمكنة في العراق. نزف بلا هوادة. وإذا فاز بانتصار، حتى على إسرائيل، تعرض لتشنيع وتبخيس وترخيص. فلا هو في السلم آمن ولا في الانتصار آمن. هو الخطر، هكذا يرون إليه. هو الكثرة المخيفة، هكذا يحصونه. هو كم مدعوم بدولة لا تنطق العربية، إذاً، هو محنة متنقلة. مخيف وخائف... ولا مصالحة مع غريمه ولو تضرّع من أجلها.
«أن تكون مسلماً سنيا، أمر باهظ الثمن». الحكم في معظمه كان باسمه أو ضده. عندما كان باسمه، لم يأمن، وعندما كان ضده لم يسلم. السنة أهل سلطة في التاريخ، تكراراً. صاروا في أزمنة الاستبداد، إما رعايا السلطة أو ضحاياها. كانوا ذات مرحلة ذهبية، دعاة قومية ونضال ضد الاستعمار، ثم، كان ما كان من أنظمة وممالك وإمارات، ورثت زعامات وثورات، وأبادت إرثها بالكامل، وانتظمت في ولاء للغرب، مثير للفزع. أهل السنة في المشرق ما عادوا مشروعاً قومياً، صاروا، أما بمعية سلطات ليسوا فيها، (السلطة ملك خاص وليست ملكا عاما) أو ضد سلطات تناوئهم وليسوا منها. وبينهم وبين الشيعة، يستعاد التاريخ... هنا التكفير يبلغ أقصاه... رافضة في المذهب، وروافض في السياسة، ولا عروبة ترتجى منهم.
أن تكون إنساناً عادياً في المشرق، أمر باهظ الثمن أيضاً. ترى المشرق بين هلالين: شيعي ولو بالوهم. سني ولو بالرسم. والمسيحي لا ناقة له ولا.. في هذا الصراع المندلع... ولكنه يدفع الثمن. فلا أحد آمن في المشرق. دارت الدائرة على لبنان، فخسر خمسة عشر عاماً من عمره، وخسر المسيحيون سلطتهم وتميزهم وتمايزهم وامتيازاتهم، وباتوا على قارعتي السنية السياسية والشيعية السياسية، يتوسلون قوة لما تبقى من حضور... مغامرة مستحيلة، بعد فوات الانتصار. خسر المسيحيون في العراق وجودهم. تاهوا في كل الأمكنة. العراق مدنف مسيحياً، متقاتل شيعيا وسنيا. لا دم يفوق ذلك السفك الطائفي.
أن تكون مسيحيا في فلسطين! أندلس ضاعت ولم يبق منها غير أنين الأجراس. ما أبقت إسرائيل على ورثة المسيح إلا الرداء الذي عليهم أن يقترعوا عليه. فلسطين فرغت من أبنائها وظل الصليب. ان تكون مسيحيا في سوريا، فهذا أمر يثير الأسئلة: هل خوف المسيحيين مشروع؟ ما الذي ينتظرهم؟ إلى متى يستمرون في بلدهم ووطنهم؟ وإلى أين سيتجهون إذا أفلتت الأمور؟
عودة إلى الأصل. الخوف مشروع، وان لم يكن لأسباب حقيقية وموضوعية مرجحة. فالمشرق بلاد بلا دول، بلا حريات، بلا ديموقراطية، بلا أحزاب، بلا منابر، بلا مواطنين. بلاد لا تصنّع غير الخوف المتبادل، ولا تحفر إلا الخنادق للإقامة الجبانة... أول واجبات الدولة، حماية الشعب، بما تقره من قوانين وبما تنفذه من سياسات. أول الواجبات، حماية الحاضر بالحرية وحماية المستقبل بالمشروع السياسي، حامل القضايا والمصالح والإنتاج (فكراً وصناعة وعلماً وغلالاً)... بلاد بلا دول، بلا ديموقراطية، هي مشاعات للسلطة، والسلطة هنا غول يأكل أولاده... ولقد أكلتهم مراراً، ولن تشبع.
«أن تكون مسيحياً أمر بالغ الأهمية» لو ان الدولة تتعامل معه كمواطن يتساوى في الحقوق والواجبات، لا يعيش في ذمة سياسية ولا في ذمة أحد اجتماعياً، ولا موجب البتة لإبراز هويته الدينية، إلا عندما ينشئ علاقته بربه، ان كان مؤمنا متعبدا... لو ان الدولة كانت كذلك ومفتوحة للجميع، ولا دين لها ولا دين لرئيسها ولا دين لوظيفة أو مقام... لكان المسيحي مثله مثل الشيعي والسني و... مواطناً، يتمتع بجرأة العمل السياسي ملتزماً قضاياه وقضايا مجتمعه وقضايا أمته.
أما وان المشرق قد ابتُلي بدكتاتوريات استبدادية، فكان أمام الناس، إما ان يكونوا ضد السلطة، بطرق مختلفة، أو معها ولو بالغصب أو بالتراضي. خيار الكنائس في المشرق، التواطؤ مع السلطة والتواطؤ على المؤمنين، توفيراً للسلامة وللحصة. ليس بقدرة الكنائس، إن أرادت، أن تقاوم الاستبداد. وحدها لن تفعل. طبيعتها سلطوية. (لا دخل لآيات الدين بالفعل السياسي. الآيات حمّالة أوجه وتفسيرات متباينة). ليس باستطاعة الكنائس وحدها أن تعارض، في مجتمع تتباين فيها المؤسسات الدينية الإسلامية وتختلف وتتناقض، ولا موقف موحداً لها إزاء الاستبداد... لكل طائفة أو مذهب رأي أو آراء ومواقف.
لا يقارن موقف الكنائس الشرقية، حيث التفتت الاجتماعي سائد مذهبيا ودينيا وإثنيا، مع الكنسية في أميركا اللاتينية. هناك، دين واحد وتعدد سياسي. لاهوت التحرير يواجه «ناسوت السلطة». لاهوت وناسوت لا يجتمعان...
هنا، في المشرق، الكنيسة لا تعارض، إلا إذا كانت أقوى من الدولة. الكنيسة المارونية في لبنان جرّبت عبر مواقفها وعبر دعمها لأحزاب مسيحية وفشلت. خسرت المارونية السياسية ولكنها تجرأت لما اعتبرت ان قوتها كافية. وهي لا تزال تحلم باسترجاع أندلسها. وهذا من أضغاث السياسة.
في الفيافي العربية، حيث للدين الإسلامي حضور حاسم، لا تاريخ يشير إلى مناهضة الكنيسة للسلطة الغاشمة. جرب الآشوريون في حالة، فخسروا وجودهم في العراق، لذا، تصالحت الكنائس في المشرق مع السلطة المستبدة، عنوة لا رغبة، ولطول عمر التصالح، باتت الكنائس متطبعة، وعلى دين رؤسائها المستبدين.
ولا شذوذ على هذه القاعدة، لدى المؤسسات الدينية كافة، مسيحية أو إسلامية، اللاهوت ملحق بالسلطة، والفقه في عباءة السلطان. والمحاولات المعاندة دفعت أثماناً، لا طاقة على تحملها تكراراً.
«أن تكون مسيحياً في المشرق، أمر بالغ البؤس». لا حاجة للفلسفة والتحليل. التعداد السكاني كاف، المسيحيون في فلسطين إلى المتحف. المسيحيون في العراق إلى المنافي. المسيحيون في لبنان إلى تناقص مذهل. لقد زحلوا في الحرب من إلى... حتى بلغوا القارات الخمس، وما عادوا ولن. المسيحيون في سوريا خائفون, وخوفهم على درجات، ولا حاجة للشرح.
نظام صدام حسين حمى الأقلية المسيحية، فدفعت الثمن. السؤال: ترى، لو عارضوا، هل كان الثمن سيكون أقل؟ السؤال يجيب عنه آل الصدر، وقائدهم باقر، وآل الحكيم الذين كادوا أن يبادوا اغتيالاً وقتلاً؟ من يحتمل اضطهاداً لا تستطيعه قوى الجحيم؟ نظام الأسد شكل حماية للمسيحيين في سوريا. لو كان المسيحيون ضداً، ما كانت النتيجة؟ أنظمة الاستبداد لا تقبل بنصف ولاء، بل بولاء كامل، على مدى الحياة، بلا مساءلة ولا محاسبة.
إذاً، ليس صحيحاً نصح الكنيسة بأن تكون مع الوطن ومع الدولة ومع المؤمنين من مذاهب اخرى. هذه لغة كاذبة ثبت فقدانها للمعاني، عندما صيغت بمعادلة العيش المشترك. لا شعار يشبه هذا الشعار، إلا في البلاد التي يتعذر فيها العيش معاً، على قاعدة المساواة والعدالة والمواطنة والحرية والمسؤولية... العيش المشترك اللبناني، كذبة بلقاء، دفع اللبنانيون ثمنها مراراً، مئات آلاف القتلى. شعار العاجزين عن صناعة وطن، هو «العيش المشترك»، وترجمة ذلك، هذه لك وهذه لي. هذه منطقتك وتلك لي، هذه حصتي وتلك لك.
«أن تكون مسيحياً في المشرق، أمر في غاية الخطورة» ولكن،
ان تكون مسلماً شيعياً، أمر بالغ الصعوبة أيضاً. ولكن،
ان تكون مسلماً سنياً، أمر في منتهى المأزق، ولكن،
ان تكون كرديا، سؤال بحجم المصير. ولكن...
هل من مجموعة دينية، طائفية، مذهبية، اثنية تعيش في حالة استقرار، أو في الحدود الدنيا من الأمن الخاص والأمن المشترك. ما حال الشيعة مع سنة العراق؟ ما حال المسيحيين مع مسلمي العراق؟ ما حال السنة مع النظام في دمشق، والنظام في أكثريته، إدارة وأمنا وسياسة، بأيد علوية أمينة! ثم.. ما كان حال الموارنة مع الدروز في الجبل، وما حال الشيعة في النبعة مع المسيحيين، وما حال السنة مع الشيعة وهلّم جراً من الكوارث؟
إذاً، ان تكون إنساناً، من المشرق من أي دين كنت، فأمر في غاية الخطورة.
من ينظر إلى المشكلة على انها مشكلة أديان ومذاهب وطوائف ومؤسسات تابعة لها، يلحقه الصواب القليل ويعتوره الخطأ الجسيم:
ما حال الإنسان العادي إزاء النظام الاستبدادي؟ ما حاله إذا طالب باليسير من حقوقه؟ ما حاله إذا سأل أو تساءل أو أجرى مساءلة؟ ما حال الأحزاب، وبلاد المشرق كانت تعج بالأحزاب؟ ما حال النقابات (لا دين لها) ما حال الاعلام؟ ما حال المنابر؟ ما حال الكتّاب والمبدعين (ومعظمهم على الكفاف من الدين والفقر من الإيمان)؟ وما حال كل من لا يمت إلى النظام بصلة الطاعة.
المشكلة ليست في الدين وتنوعاته المذهبية. ليست في بنى المجتمع القديم، عشيرة وعائلة واثنية. المشكلة ليست في الأحزاب وغيابها والنقابات واستتباعها... كل المشكلة في الاستبداد وحده، قاتل الممكنات ومنشئ المستحيلات ومخترع تأبيد المؤقت. المشكلة في نظام الاستبداد وحده، مولد المشكلات وصانع الخوف والتخويف. حتى من آمن وتعصب ليس مذنبا، إلا في مجتمع ديموقراطي حر. أما في بيئة الاستبداد، فإن العنف المضاد، من طبيعة ردة الفعل.
لقد فات «دول» المشرق ان تحل أزمة الاكثريات والأقليات، منذ اندلاع الحداثة. سرقت الحداثة من أنظمة، واغتصبت ثم وضعت قيد الاستعمال، بكل التشوهات التي ابتكرها نظام الاستبداد، الملكي والجمهوري على السواء. فشل التحديث، من قوى قومية وملكية وقيادات «مستنيرة»، أدى إلى عودة الماضي بأوكاره كلها. وبتنا اليوم، على خوف من المستقبل... انما:
بعد الثورة العربية الديموقراطية، ظهر أمل جديد. التاريخ العربي الحديث، بدأ من تونس، وهو يضج في القاهرة، وهو يتلمس انتصاراته في اليمن وسوريا وليبيا وسواها. غير ان خوفا يصيب المسيحيين من هذا التحوّل، ليسوا لأنهم ضد الديموقراطية والعلمانية والدولة المدنية، بل لتوجسهم من إمكان انتصار الفكر الديني، بأي شكل من أشكاله، أكان معتدلا او متسامحاً او متعصباً سلفيا. لأنهم يشعرون بأن درجتهم في المواطنية ستكون أدنى. إذ لا أحد يعرف ما شعور المسيحي في دولة ينص دستورها على الإسلام؟ اسألوهم. ثم هم يخافون إذا اندلعت حرب أهلية، ان يكونوا وقودها المجاني.
يختلف المسيحي في المشرق عن أقرانه من الديانات الأخرى. ليس صاحب مشروع سياسي. للسنة مشاريعهم السياسية وحركاتهم. للشيعة كذلك، وما بينهما تاريخ من الصراع والأحقاد. أما المسيحي، فمشروعه الاحتماء من الاستبدادين: الاستبداد السياسي، فيتصالح معه، والاستبداد الديني، فيهاجر عنه.
فات أوان التسوية... في الأفق أمل ديموقراطي. لماذا لا يصلّي جميع المؤمنين لانتصار الحرية؟
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :