الأقباط متحدون | حول حكومة المحاصصة مرة أخرى
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ١٨:٥٣ | الجمعة ٢٣ سبتمبر ٢٠١١ | ١٢ توت ١٧٢٨ ش | العدد ٢٥٢٥ السنة السادسة
الأرشيف
شريط الأخبار

حول حكومة المحاصصة مرة أخرى

الجمعة ٢٣ سبتمبر ٢٠١١ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم:د. عبدالخالق حسين
 
كنت قد تطرقت مراراً في مقالات سابقة لهذا الموضوع المثير للجدل والاختلاف، ولكني رأيت من المفيد العودة إليه، لتكتمل الصورة في سلسلة المقالات التي خصصتها للنقاش حول الأزمة العراقية. ففي هذا المقال أحاول الإجابة على السؤال الأكثر إثارة للجدل بين العراقيين، والذي بدوره يعكس وضع الشعب العراقي وانقساماته، وهو: لماذا حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية؟ وهل من بديل؟ 
 
أكاد أجزم أنه ليس هناك عراقي وطني مخلص لوطنه، ويتمتع بوعي سياسي ناضج، لا يتمنى أن يكون نظام الحكم في العراق بمستوى أرقى دولة ديمقراطية في العالم، ولكن التمنيات شيء والممكن تحقيقه على أرض الواقع شيء آخر.
 
فمن نافلة القول أن النظام البعثي الصدامي "ترك العراق خرابة حقيقية، والمجتمع العراقي مصاب بألف علة وعلة" على حد تعبير كاتب اعترف بواقع الحال، رغم أنه صار كل همه تشويه صورة الحكومة، وإلقاء كل آثام وسوءات الدنيا عليها، وإسقاطها بأي ثمن ووسيلة كان، وعذره أن ما تحقق بعد سقوط حكم البعث لم يتناسب مع توقعاته، ولم يجعل العراق بمستوى سويسرا بالسرعة الصاروخية!!. 
 
يعرف كل قاص وداني، أن الشعب العراقي يتكون من تعددية قومية ودينية ومذهبية، متصارعة، وتعاني من أزمة الثقة فيما بينها نتيجة لمظالم الحكومات السابقة، وهذه المكونات موزعة على مناطق جغرافية، كل منطقة تسكنها غالبية لمكونة معينة. فمحافظات الوسط والجنوب غالبية سكانها عرب شيعة، والمحافظات الشمالية الغربية عرب سنة، والمحافظات الشمالية الشرقية أكراد (كردستان)، وبين المنطقة الكردية والمنطقة العربية السنية، شريط فاصل غالبية سكانه تركمان، وهم أيضاً مزيج من السنة والشيعة وبنسب متساوية تقريباً. إضافة إلى أقليات أخرى مثل المسيحيين، والأيزيديين، والشبك وهم مسلون شيعة، في الشمال، والصابئة في الجنوب. أما بغداد، فسكانها مزيج من كل هذه المكونات، فهي بحق، عراق مصغر، وكذلك محافظة كركوك. وبعد كل المعاناة من التمييز والعزل الطائفي والقومي، والتركة الثقيلة التي ورثها العهد الجديد من العهد البائد، ونتيجة لهذا التوزيع الأثني الديني الجغرافي، انعكس كل ذلك سلباً على تشكيل معظم الأحزاب والقوى السياسية العراقية. ولذلك فمن تحصيل حاصل أن تتألف الحكومة من ممثلين لهذه المكونات والمناطق.
 
ذكرنا في مقالات عديدة، إن حرمان مكونات كثيرة وكبيرة من الشعب العراقي من حقوق المواطنة، والمشاركة العادلة في حكم بلادهم في العهود السابقة، ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو كغرباء في بلادهم، كان السبب الرئيسي لعدم استقرار الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921، وحتى انهيارها عام 2003. يقول الفيلسوف الايرلندي إدموند بيرك: " لكي نحب الوطن يجب أن يكون في الوطن ما يدفعنا لحبه". 
 
كذلك لو نرجع إلى تشكيلة أحزاب المعارضة الفاعلة في عهد حكم البعث، لوجدنا أن معظمها كانت مؤلفة وفق التخندقات الأثنية والدينية والمذهبية، فكانت هناك الأحزاب الكردية، والأحزاب الإسلامية الشيعية، والإسلامية السنية، والأحزاب التركمانية، والتنظيمات المسيحية، ...وغيرها. أما الأحزاب العلمانية الديمقراطية العابرة لهذه الحواجز فكانت عبارة عن قوى مبعثرة إلى عشرات التنظيمات الصغيرة، لا حول لها ولا قوة، وحتى الحزب الشيوعي العراقي نفسه، الأعلى صوتاً اليوم ضد "حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية"، لم يسلم من هذا الانقسام، حيث انشق عنه الشيوعيون الأكراد وشكلوا حزبهم الشيوعي الكردستاني، وبذلك تغلب الطابع القومي على طابع الصراع الطبقي الذي هو أساس الحركة الشيوعية.
 
وتلافياً لهذا الغبن الذي لحق بمكونات الشعب العراقي في العهود السابقة، ومنعاً لتكرار مأساة هيمنة مكونة على أخرى، أكد الدستور العراقي الدائم الجديد، على مشاركة جميع مكونات الشعب العراقي في الحكم دون أي تمييز، وحسب ما تفرزه صناديق الاقتراع، بشكل فعال وعادل، وليس صورياً وللديكور فقط كما كان في العهود السابقة. 
وبهذه المناسبة، أرى من المفيد أن أعيد ما استشهدت به سابقاً، ما أكده  عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي بقوله: "إن الشعب العراقي منشق على نفسه، وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر- باستثناء لبنان- وليس هناك من طريقة لعلاج هذا الانشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية. ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار! فهل من يسمع؟!" (على الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 382- 383). 
 
ولذلك، ومنذ سقوط حكم البعث، ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث، تمت مشاركة جميع مكونات الشعب العراقي بالحكومة والبرلمان وجميع مؤسسات الدولة، مشاركة حقيقية وفعالة وحسب نسبها العددية في الشعب وما تفرزه صناديق الاقتراع. ولكن هذه المشاركة لم تمر بسلام، إذ لم ترضَ عنها الفئة التي احتكرت السلطة لوحدها لعشرات السنين، وفجأة وجدت نفسها تعامَلْ أسوة بالفئات الأخرى، فخسرت امتيازاتها واستئثارها بالسلطة. لذلك قيل الكثير ضد هذه المشاركة أو الشراكة، وأنزلوا عليها اللعنات، ووظفوا كل ما في اللغة من مفردات تساعدهم على تقبيحها، فوصفوها بأقذع الصفات، حيث أطلقوا عليها أسماءً تسقيطية مثل (المحاصصة الطائفية والعرقية!!). 
 
وهكذا، عزيز القارئ، إذا كنتَ مع مشاركة مكونات الشعب العراقي في حكم بلادهم، فتصف العملية بكلمات جميلة جذابة مثل (حكومة المشاركة أو الشراكة partnership). أما إذا كنت ضدها، فما عليك إلا وأن تعبر عنها بكلمات بذيئة فتسميها (حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية البغيضة!). ومع الأسف الشديد مرَّت لعبة التلاعب بالألفاظ على الكثيرين، فوقع معظم المثقفين والسياسيين في هذا الفخ (وعلى حس الطبل خفن يا رجلية)، إلى حد أنه حتى المشاركين في الحكومة بحصة الأسد، ويحتلون ربع الحقائب الوزارية مثل كتلة "العراقية"، راحوا يستخدمون مفردة "المحاصصة الطائفية والعرقية" في وصف العملية السياسية وإدانتها، بدلاً من استخدام تعبير (حكومة الوحدة الوطنية أو المشاركة الوطنية) وذلك من أجل تبرئة أنفسهم من تهمة الطائفية والعرقية رغم ممارستهم لها، ولكن في الحقيقة نجدهم يلعبون على الحبلين، مشاركون في السلطة ومعارضون لها في آن واحد، وهذا لن يحصل إلا في العراق فقط. 
 
لا شك أن الغرض من هذه التسمية (المحاصصة الطائفية والعرقية) ليس بريئاً، بل أن مشاركة مكونات الشعب والديمقراطية والانتخابات هي المستهدفة من هذه التسمية البذيئة، وذلك من أجل تشويه صورتها بإضفاء صفات قبيحة عليها، وكذلك لإظهار الحكومة المنتخبة بصفات طائفية قبيحة، وتجريدها من شرعيتها، وإنكار كونها منتخبة من قبل الشعب، ووصفها بأنها حكومة عميلة نصبها الاحتلال، وحتى تحميلها مسؤولية الإرهاب. كل ذلك كتمهيد وتحضير ذهنية الشعب للهجوم على الحكومة، وتوفير المبررات لإسقاطها وإلغاء الديمقراطية ومشاركة الآخرين في الحكم. 
ولكن ماذا بعد إسقاط الحكومة المنتخبة "التي نصبها الاحتلال" حسب تعبيرهم؟ وهل من بديل أفضل؟ أم عودة البعث وبصيغة وهابية طالبانية؟ 
أعتقد جازماً أن الاحتمال الثاني هو الأرجح.
 
يكرر هؤلاء قولهم أن الديمقراطية لا تعني الانتخابات فقط، بل كذا وكذا. ولكن نسي هؤلاء السادة أنه لا ديمقراطية بدون انتخابات أيضاً. فإذا ما جاءت النتائج ليست على مقاساتنا أو كما نرغب، فهذا لا يعني أن الانتخابات مزيفة وعلينا إلغاءها، ونلغي معها الديمقراطية.
لذلك أرى من الواجب إعادة النظر في المقاصد وراء هذه الحملة التسقيطية، والتعامل معها بمنتهى التحفظ والحذر والمسؤولية والعقلانية. 
 
ونتيجة لما تقدم، وبعد إسقاط حكم البعث، حصلت كل فئة على حصتها في السلطات التشريعية، والتنفيذية، والمجالس المحلية حسب نسبتها التي أفرزتها صناديق الاقتراع. وإذا ما كانت الانتخابات قد كشفت عن الاستقطاب المذهبي والقومي، فهذا لا يقلل من نزاهتها، وعدالة المشاركة فيها، بل لأن شعبنا يتكون من هذه التعددية الدينية والأثنية، وهناك استقطاب وفق هذه الانتماءات. ومهما قالوا في مساوئ المشاركة وأطلقوا عليها من أسماء بذيئة، فهي في جميع الأحوال أفضل من استئثار فئة واحدة بالسلطة عن طريق الدكتاتورية. فحزب البعث، الذي حكم العراق لـ 35 عاماً، كان طائفياً وعنصرياً ومستبداً، يمارس التمييز بين مكنات الشعب عملياً، رغم إنكاره له في دستوره وإعلامه.
 
والجدير بالذكر، أن معظم الذين يستنكرون المحاصصة قولاً، يدافعون عنها عملياً ولكن باسم آخر وهو (الشراكة) وبعبارات مموهة. فعلى سبيل المثال، عندما صوت البرلمان العراقي عام 2009 على لائحة قانون انتخاب مجالس المحافظات، وألغوا المادة رقم خمسين التي كانت تنص على تخصيص مقاعد للمسيحيين وغيرهم من الأقليات في بعض المحافظات، وسبب إلغائهم لتلك المادة هو أن النواب أرادوا بذلك ترك الحرية للمرشحين والناخبين أنفسهم في تقرير العدد، فرأوا أنه من حق أي عدد من المسيحيين وغيرهم من الأقليات الترشيح في أية محافظة دون تحديد العدد أو وضع سقفية (كوتا) محددة لهم على أساس الحصة الأثنية أو الدينية. إلا إن هذا الحل لم يرضَ عنه كثيرون بمن فيهم المسيحيين أنفسهم، لذلك شن المثقفون حملة شعواء ضد إلغاء المادة المذكورة، وأصروا على إعادتها وتمت الاستجابة لهم. وكذلك تطالب المرأة بحصة 25% من المقاعد في البرلمان والحكومة. أليس هذا تأييداً للمحاصصة؟ 
 
في الحقيقة هذا النوع من التمييز الديني، والأثني، والجندري، هو ما يسمى بالتمييز الإيجابي، لأنه يساعد على رفع الغبن عن المرأة والأقليات. ولذلك خص قانون الانتخابات التشريعية لعام 2009 ثمانية مقاعد للأقليات بينها خمسة للمسيحيين وواحد لكل من الصابئة المندائيين، والايزيديين، والشبك، وهو إجراء صحيح ومنصف في رأينا، ولكن المشكلة أن رضاء جميع الناس غاية لا تكسب.
  
هل من حل لمعضلة المحاصصة؟
آسف، ليس هناك أي حل سحري وسريع لمشكلة (المحاصصة في الحكومة)، وأسميها باسمها الصحيح، وهو (حكومة الشراكة أو الوحدة الوطنية)، فهو أمر لا مناص منه كالقدر المكتوب في هذه المرحلة العاصفة من تاريخ بلادنا.
فالمشاكل التي ورثها العراق الجديد، من الضخامة بحث تهد الجبال. وإذا وجد الحل، فهو في التنظير فقط، ولا نصيب له في التطبيق في الظروف الراهنة، أشبه بنصائح وعاظ السلاطين، التي تبدو جميلة نظرياً، ولكنها غير قابلة للتطبيق عملياً. والذين يشتمون "حكومة المحاصصة" ويعملون على إسقاطها يعرفون هذه الحقيقة المرة قبل غيرهم، ولكنهم يواصلون صراخهم، ليس لأن في جعبتهم حل واقعي قابل للتطبيق، بل للمتاجرة بمعاناة الناس (الأرامل واليتامى، والعاطلين عن العمل...الخ)، والمزايدة عليها لأغراض سياسية ومكاسب فئوية وشخصية على حساب مصلحة الشعب، ليس غير. يقول إرنست همنغوي: "العربات الفارغة تعمل ضجيجاً أعلى". ولحسن الحظ، بدأت الجماهير تكتشف حقيقة هؤلاء الصخّابين، ونواياهم الحقيقية من هذه المتاجرة، بدليل أن حملتهم للتظاهرة "المليونية" يوم 9/9 (جمعة البقاء!!!) لإسقاط (حكومة المحاصصة...والفساد) باءت بالفشل الذريع، فكانت عبارة عن تصويت على شعبيتهم، فكشفت حجمهم الحقيقي، وإفلاسهم السياسي، وأنهم في طريق الانقراض كما انقرضت الدينصورات وفق مبدأ البقاء للأصلح.  
 
ومن كل ما تقدم، نستنتج أنه لا يمكن التخلص من المشاركة والمحاصصة والديمقراطية التوافقية...الخ، إلا بعد أن تتغير الأحزاب العراقية وتخرج من شرنقتها الدينية والمذهبية، وتتحول إلى أحزاب وطنية علمانية عامة وشاملة، يضم كل حزب في صفوفه أعضاء من جميع مكونات الشعب العراقي ومناطقه، دون تخندقات دينية وأثنية، أو أي تمييز، كما هو الحال في الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية الناضجة. وهذا لن يتم بين يوم وليلة، بل يستغرق وقتاً قد يطول، إذ لا يمكن حرق المراحل. فالحل لا يتم عن طريق الصراخ والعويل والتهويل، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتدمير ما تحقق، بل عن طريق النقد البناء، والعمل بإخلاص على رفع الوعي السياسي للجماهير، ونقد السلبيات بالمنطق، ودعم الإيجابيات المكتسبات، لا تدميرها بحجة أن الحكومة فشلت في الإصلاح والإعمار بالسرعة الصاروخية!. 
إن المزايدات الرخيصة للفئات الانتهازية الفاشلة التي رفضتها المرحلة والجماهير، لن تقدم حلاً واقعياً للمعضلة، بل تزيد النار اشتعالاً، وعلى حساب الأمن والاستقرار السياسي. 
وأخيراً، أطمئن المخلصين من أبناء شعبنا، أنه رغم الصعوبات التي يمر بها العراق الديمقراطي، إلا إنه لا بد وأن ينتصر، لأن ليس هناك حل آخر سوى الحل الديمقراطي والتقدم التدريجي.
 

 




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :