قول للزمان ارجع يا زمان
بقلم: سحر غريب
اضطرتني الظروف مؤخرًا لزيارة كُليتي القديمة التي تخرَّجت فيها لإنهاء بعض الأوراق، وهناك عاودتني الذكريات، رأيت "ممر جيمي" الذي كان السبب في أول انفصال بيني وبين أول صديقة تعرفت عليها، فقد قرَّرت صديقتي أن "جيمي" أبقى لها من حضور المحاضرات، وهو ما وجدته منافيًا لرغبتي في حضور جميع المحاضرات المفيد منها وغير المفيد.
و"جيمي" هو اسم لممر يقع علي أطراف كلية الآداب، معروف عنه أنه ممر العشاق ولا يدخله إلا المُزز، عندما سمعت حكايته صوَّر لي عقلي أن المشي فيه شُبهة، وكانت تصيبني قشعريرة وخوف وهجوم رهيب للدم في وجهي كلما مررت به، وقد تراهنت يومًا مع صديقاتي الأنتيم أننا سندخل الممر دون أن نتعرض للمعاكسة، وقد خسرت الرهان؛ فتذكرة الدخول إلي هذا الممر هو المعاكسة.. تذكرت "ماجد" زميلي الذي اختارني من وسط خمس صديقات، وقال لي: "لو سمحتي يا آنسة سحر، ممكن أطلب منك طلب صغير".. تخيلته سيطلب يدي مثلًا فاحمر وجهي بشدة بصورة أخجلته هو نفسه، ولكنه فاجأني وطلب كشكول المحاضرات.. يا خسارة همس ولمز صديقاتي، يا خسارة سُمعتي التي اكتسبتها بجدارة، ما أخدناش من وراه غير شوية سخرية.
نفس الأماكن لم تتغيَّر، نفس الوجوه، ونفس قصص الحب والثنائيات المنتشرة في ربوع الكلية، وكأن الطالب يدخل الجامعة لا ليحصل على شهادة بل ليحصل على شوية حب..
وصلت إلى الحجرة الخاصة بشئون الخريجين، وانتهت ذكرياتي على صدمة، فالحجرة مُكدسة بالوجوه العكرة والورق، مناظر تجعلك تسقط من أعلى ربوة في ذكرياتك إلي أسفل سافلين، كانت الساعة العاشرة صباحًا وقد تعالى صوت أحد الموظفات قائلة: "هو احنا هانرّوح امتي، أنا زهقت"!!..
وقفت أنتظر دوري لأحصل على أوراقي، فوجدت خريجًا يبدو من ملامحه البريئة أنه حديث العهد بالتخرج، يطلب من الموظفة أن يحصل على شهادة تخرُّجه بأقصى سرعة لينهي أوراق التجنيد، قالت له الموظفة: "وأنا مالي، إذا كنت إنت نايم على روحك، يعني إيه عاوز الشهادة بسرعة؟، الشهادة بتاخد وقت". قال لها بمنتهى الأدب- أدب المضطر مع أشكال لا تستحق الأدب-: "آسف، أنا أصلي مشغول جدًا وعاوز أخلص بسرعة".. ردت عليه وكأنها صُعقت لأن كلمة "مشغول" ليست كلمة مُدرجة في قاموسها، فكيف لأحد خريجي كلية الأداب أن يعمل: "تعالى بعد العيد".. ثم التفتت
الموظفة الحيزبون ناحيتي، وقالت لي- وكأنني قد دست لها على طرف-: "ها عاوزة إيه إنتي كمان؟".
تغيَّرت نبرة صوتي، وقد كدت أفقد شعوري لولا أنها تحمل أوراقي بيديها: "معايا وصل وعاوزة أستلم شهادتي"، أخذت الحيزبون تبحث عن اسمي، ثم قالت لي: "إنتي متفائلة أوي، دا أنتي لسه مقدِّمة عليها من أسبوعين، تعالي استلميها بعد العيد"..
خرجت من حجرة الجحيم الروتيني وقد تذكَّرت أن العمل في تلك الوظائف الحكومية يتم عن طريق الوراثة!!، فكل موظَّف يورِّث ابنه وظيفته، فلا كفاءة ولا اهتمام، فالكل فيها مسنود، واللي له ضهر ماينضربش على بطنه، والحياة عند هؤلاء بطالة مقنَّعة، وربنا يتوب علينا من موظفين آخر الزمان.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :