الفنـــــانـــــة The Artist- الجــزء التاسع
بقلم- انطوني ولسن/استراليا
[سمع رامي أمرأة تطلب شراء طابع بريد من السيدة زميلته في المكتب المجاور، تعرف على الصوت.. انها نفس المرأة التي التقى بها عند مدخل محل «دافيد جونز» وكلمته باللغة العربية ورد عليها بنفس اللغة. وها هي تتحدث الى زميلته باللغة العربية ثم تتاسف باللغة الانجليزية.
ترك العمل وخرج يبحث عنها دون جدوى. تعب من كثرة ما مشى، عاد أدراجه الى مكتب البريد حيث يعمل واتجه الى رئيسه طالبا منه السماح بعدم تكملة يوم عمله، لأنه مرهق ولا يشعر بالقدرة على الاستمرار في العمل].
بعد ان غادر المبنى، تذكر صديقته الاسترالية اليزابيث وتذكّر أنها سوف تأتي في فترة الغداء ليتناولا غداءهما معاً في حديقة «الهايد بارك» في مكانهما المفضّل عند الخميلة حيث الازهار تحيط بالمكان من كل جانب. وامامها دائرة كبيرة بدرجات منسّقة، كلها ورود وزهور تجعل الانسان يشعر بانه ليس في هذا العالم المليء بالروائح الكريهة والزحام الخانق وعادم السيارات القاتل، بل في الجنة. لو تخيل الشعراء القدامى الجنة، لماوجدوا مكانا افضل من هذا ليصفوه وليعيشوا فيه بين احضان السماء والارض المفروشة بالورود والزهور والروائح العبقة التي تفوح منها، فصار هذا المكان هو ملتقاه مع اليزابيث وقت الغداء. انه مكانه المفضّل، المكان الذي ذاق فيه طعم أول قبلة في حياته، بعد أن تعدَّدت اللقاءات بينه وبين «ليزا» كما تحب هي ان يناديها، في اماكن متفرقة. لكن اليوم الذي اخذته الى «الهايد بارك» وسارا كل منهما ممسكا بيد الآخر يجوبان هذه الحديقة الكبيرة، إلى ان وصلا هذه البقعة من الحديقة، ترك يدها واخذ يجوب فيها مشدوها محملقا مأخوذا بروعة المكان وجماله.
رامي شاعر وكاتب، فلا عجب اذا احب هذا المكان، امسك بليزا بعد ان عاد اليها وقال لها:
رامي: لماذا لم نأت الى هذا المكان من قبل؟
ليزا: صدّقني انا استرالية.. ولدت في سدني وعشت فيها، ولكني لا اعرف هذا المكان ولم اره قبل اليوم.. اتحُبِّهُ يا رامي؟
رامي: أحبه.. أُحبه كما احبّك.. كلاكما فيه الهدوء الذي ابحث عنه.
امسكت هي به.. نظر كل منهما في عين الآخر.. جذبت يديه نحو خصرها.. رفعت يديها الى عنقه ابتسمت ثم جذبته اليها وغابا في قبلة طويلة افرغ فيها كل منهما الحب كله الذي غلفّهما منذ النظرة الاولى التي جمعتهما معاً.
كانت تلك هي القبلة الأولى في حياة رامي.. الشاب المهذّب خريج كلية الزراعة، جامعة القاهرة، والذي جاء الى استراليا مهاجرا.. لم يعمل في مجال تخصصه، ولكنه فضّل العمل في مكتب البريد وليزا هي كل شيء له في سدني. انها حبيبته وصديقته.. لم تبخل عليه بشيء بعد القبلة الاولى والتي قالت له بعدها..
ليزا: رامي. انني ولدت اليوم.. وهذا مكان مولدي.. ومهما حدث بيننا.. أتعدني ان تتذكر هذا اليوم والساعة و تأتي للقائي هنا؟
رامي: لماذا كل هذا التشاؤم.. لن يحدث شيء بيننا.. بل سنحتفل بعيد ميلادك كل يوم. سيكون هذا مكان تناول غدائنا يومياً بما في ذلك عطلة نهاية الاسبوع.
منذ ذلك اليوم وهما دوما يذهبان الى هناك.. يتناولان الغداء ويستمتعان بجمال المكان ثم يعودان الى عملهما، وفي نهاية اليوم يتلاقيان ويرجعان معاً الى منزل عائلة ليزا، حيث يتناول معهم العشاء ويقضي وقتاً طيباً مع والدها يتحدثان فيه عن مصر او عن استراليا.
لم يحدث ابدا ان شاَبَ الحديث بينهما اي نوع من التحديات، او محاولة ان يقلل أحدهما من شأن بلد الآخر او حديثه.. لأن الاحترام، كان متبادلا بينهما.
لم تكن أم ليزا ترغب ان ترتبط ابنتها بزوج مهاجر، تمنت لو انها ارتبطت باسترالي. ولكن هذه رغبتها «هي حرة».. ولم تمانع في هذا الارتباط وهذه العلاقة القائمة بين رامي وليزا، ومع مرور الوقت اقتنع الجميع بشخصية رامي وقبلوه «كبوي فريند» لابنتهم ليزا.
مرَّ الوقت سريعا وهو غارق في ذكرياته، نظر بدون ارادة وكأن عقله الباطن كان مستيقظا مترقبا مجيء ليزا وقت الغداء. رآها في الناحية الاخرى من «بيت ستريت» تهمُّ بالعبور، اطلق صفّارته التي تعرفها واشار لها بيده ان تبقى حيث هي لأنه يعبر الشارع اليها.
قبَّلته قبلة خاطفة، ثم تأبطت ذراعه ولم تتوقف شفتاها عن الكلام والاسئلة التي تدور كلها حول وجوده خارج العمل، ولماذا لم ينتظرها في مكتبه ولماذا؟ ولماذا؟ كل هذه الاسئلة التي تسألها المرأة لرجلها دون مراعاة ان كان في وضع يستطيع فيه أن يجيب على اسئلتها، أو على الأقل يستمع اليها بآذان صاغية. شيء جميل في ليزا.. انهاتحترم صمته.. اذا بدأت الحديث، ولم تجد الاستجابة منه.. او انه في عالمه الخاص.. تحترم هذا العالم الذي تمنَّت من كل قلبها العيش فيه.. ولكنه عالمه الذي يهيم فيه بخياله واحلامه، وعلى هذا، قطعت المسافة دون ان تنبث ببنت شفة، الى ان وصلا الى مكانهما المعهود.
جلست واخذت تخرج من حقيبتها «الساندويتشات» التي اعدتها. اليوم هو دورها في اعداد الغداء لأنهما يتبادلان اعداد هذا الغداء بدلا من الاكل في المطاعم، وفي الكافيتريا، لأنهما بهذا لن يحرما من الاستمتاع بجمال هذا المكان في «الهايد بارك».
اما هو، فأخذ يطوف بالمكان.. روحه هائمة.. محلِّقة تبحث عن شيء هو نفسه لا يعرفه.. لأول مرة، يشعر بان ليزا بعيدة عنه.. لم يستمع الى اي.. من اسئلتها. رأى شفتيها تتحرّكان، ولكن لم يسمع صوتها.. في أذنه صوت واحد، صوت هذه المصرية التي تتحدث العربية مع كل من تقابلهم او على الاقل، هذا ما حدث معه منذ اكثر من عام، واليوم مع زميلته في المكتب المجاور.. سمع نفس الصوت.. او بمعنى آخر، سمع امرأة تتحدث.. بنفس الطريقة. تُرى أهي فعلا صاحبة «المرسيدس» ام انها امرأة اخرى؟ انه يعرف صوت ابناء بلده او بناته عندما يتحدثون بالانجليزية.. ولكنها تتحدث باللغة العربية اولا.. ثمَّ بانجليزية جيدة. ترى هل سيعرفها اذا رآها؟ واذا رأته هل.. هل ستتذكره؟
عاد بعد ان طاف بالدائرة المليئة بالزهور والورود والحسان ممن جئن للراحة والاستجمام. مدّ يده الى ليزا واخذ منها «الساندويش» قضم منه وبدأ يأكل ورأسه الى الأرض. لم يرفع رأسه وظل في هذا الوضع دون ان يدري ما يفعل، ودون اي احساس بوجود صاحبة اليد التي تمدّه بالأكل كلما انهى ما بيده.
فجأة وهو جالس هكذا، احس بانسان توقف ولم يتحرك. رفع رأسه ليرى من هو، لماذا توقف امامه؟ رأى امرأة حاملة كلبا صغيرا على ذراعيها تنظر اليه وتتفرّس فيه.. اطال النظر اليها.. لم يصدَّق ما يرى.. انها هي.. هي لا شك في ذلك. لقد عرفته. نعم عرفته كما عرفها هو ايضا.
نهض من مجلسه فاغرا فاه كالأبله. لم يعرف ماذا يقول، توقفت الكلمات في حلقه، انتابته الحيرة، أيصرخ في وجهها لانها كانت السبب في ارهاقه وتعبه وهو يبحث عنها؟ وكذلك في عدم تكملة يوم عمله؟ هل هي فعلا التي كانت تشتري طوابع البريد، أم امرأة مصرية أخرى؟ ماذا يفعل؟ لا يعرف، لقد وقف وكأنه شدَّ من مجلسه ليقف.
اما ليزا، فقد سيطر عليها شيء من التعجّب، انها تعرفه منذ اكثر من عامين، لم يخبرها ابدا انه يعرف نساء آخريات من بنات بلده أو من اي جنسية اخرى. ماذا ترى أمامها الآن؟ رجل ينظر الى إمرأة وكأنها كانت مفوقدة ووجدها. هل يعرف احدهما الآخر منذ زمن بعيد وتلاقيا هنا في هذا المكان صدفة؟ نعم صدفة، دون ترتيب مسبق اوموعد. تُرى هل لها دخل في عدم تكملة يوم عمله؟ كل هذا جعلها تجلس مكانها رافعة رأسها محملقة في الأثنين فارغة فاها ايضا دون ان تنبث شفتاها بكلمة.
تعجبت سلوى من هذا اللقاء، كانت مارة في نزهتها.. احبت هذا المكان. لا تضيع وقتا اذا كانت في البلد، بعد الانتهاء من « التسويق» دائما وابدا تذهب الى «الهايد بارك» للتمشية، ثم تعرِّج الى هذا المكان لتجلس وتراقب وتستمتع بجمال المكان وشاعريته والرومانسية المحيطة به وعناق المحبين وهمسهم. خصامهم الصامت ومصالحتهم بعد عتاب هادئ ينتهي بقبلة طويلة وكأن القبلة عوضا عن الاعتذار والكلام. واليوم.. اليوم رأت هذا الجالس الصامت وهو يقضم ساندويتشه ورأسه الى الأرض. اختلست نظرة اليهما دون ان يلحظ هو او الفتاة الى جواره. قربّت قليلاً اليه.. تفحصته بعينيها وتحققت أنه هو.. هو ذاته ذلك الشاب الاسمر ذو الشارب الصغير.. نعم هو الذي ساعدها منذ عام مضى او اكثر على حمل مشترياتها من «دافيد جونز» عندما فتح لها الباب وشكرته باللغة العربية. ردَّ عليها بنفس اللغة كما كان لطيفا ومؤدبا ورقيقا في حديثه معها. تذكرَّت انهما افترقا دون ان يعرف احدهما اسم الآخر او من يكون أو كأنهما اصدقاء منذ زمن بعيد. اسمها بالنسبة له امرأة.. واسمه بالنسبة لها رجل. رجل وامرأة تلاقيا صدفة، وايضا افترقا دون ما الحاجة الى معرفة الاسماء. تمنت في كثير من الاحيان لو تراه مرة اخرى، لا لشيء.. لكن لمجرد ان تراه، وها هي الصدفة ايضا تجمعهما مرة اخرى، اشارت باصبعها اليه وقالت:
سلوى: انت..
في نفس اللحظة تحدّث هو وقال:
رامي: انت.
ضحك الاثنان وقهقها عاليا.. وقطع عليهما هذا الضحك نهوض ليزا غاضبة صارخة في وجه رامي..
ليزا: هل من الممكن ان تشرح لي ماذا يحدث الآن؟!
ظل رامي يضحك. لم يتوقف وان كانت سلوى توقفت. امسك بيد ليزا ناظرا الى سلوى ثم بعد ذلك الى ليزا، محاولا ان يتكلم ليشرح لها، ولكن الضحك غلبه فاستمر يضحك.كذلك سلوى عادت و.. شاركته الضحك.. مما جعل ليزا تنظر اليهما و.. تضحك هي الاخرى، وكأنها عدوى تنتشر فاصابتها دون ان تعرف لماذا تضحك.
صمتت سلوى.. وخفّف رامي من ضحكه الى ان صمت هو ايضا. اما ليزا، فظلت تضحك برهة ونظرت اليهما وهزت رأسها متعجبة ثم توقفت عن الضحك.
نهض رامي مادا يده مصافحا سلوى..
رامي: رامي حداد..
سلوى: سلوى الاسيوطي.
رامي: أي علاقة للدكتور الأسيوطي..
سلوى: "مبتسمة"..حرم الدكتور الاسيوطي.. انت تعرفه.
رامي: وهل يخفى القمر.. الحقيقة هو اكثر من نار على علم في سدني، ويمكن كمان في العالم كله.
سلوى: ياه للدرجة دي جوزي مشهور وانا مش عارفه.
رامي: دا من امهر جراحي احدث انواع الجراحة في العصر الحديث.
سلوى: انا عارفه علشان كده اتجوزته.
ضحك الأثنان مرة اخرى.. وظلت ليزا في جلستها لا تعرف ما يدور حولها.. ففضلت السكوت، لكن سلوى نظرت اليها وتفرّستها تفرّس الانثى للأنثى وقالت له:
سلوى: استاذ رامي، استرالية «مشيرة الى ليزا بعينها»..
رامي: مدام سلوى.. ممكن اقول حاجة.
سلوى: اتفضل.
رامي: اولا بلاش استاذ
سلوى: على شرط بلاش مدام.
رامي: موافق دا اذا كان يعني ما..
سلوى: بالعكس.. بقالي كتير بعيد عن عدم الرسميات.. لان موتي وسمي من الرسميات.
رامي: اتفقنا.. «مشيرا الى ليزا» ايوه استرالية الجيرل فريند وفي الحقيقة انا باعتبرها خطيبتي.. خطيبتي بالمفهوم المصري عندنا.
سلوى: ناوي يعني تتجوزها؟
رامي: باذن الله.
التفت الى ليزا ومد يده طالبا منها النهوض، ثم قدمها الى سلوى باللغة الانجليزية.
رامي: اليزابيث ديكسون.. اناديها ليزا.. «مشيرا الى سلوى» مدام سلوى الاسيوطي زوجة الدكتور المصري المشهور عزت الاسيوطي
ليزا: تشرفنا.. فعلا الدكتور الاسيوطي مشهور جدا في سدني.
سلوى: ارجو ان يكون مشهورا وذا سمعة طيبة.
ليزا: لا تخافي.. انه ذو سمعة طيبة حقا نه اول طبيب يأتي من الخارج ويحظى بكل هذا الاحترام والاهمية.
سلوى: حقيقة ان المعاشرة لا تلتفت الى اهمية من تعاشر.
رامي: انت ترين فيه زوجا فقط.. اما نحن فنرى فيه الطبيب الجراح المعروف.
ليزا: نعم.. فالعلاقات بين الافراد رفعت الكلفة بينهم.. ساروا افرادا عاديين.ولكن اذا كانت الكلفة موجودة.. تظل الرسميات والألقاب..واظن هذا في العلاقات العامة خارج المنزل .
رامي: شكرا ليزا.. اسمحي لي ان اتحدث الى سلوى باللغة العربية.. اذا كان هذا لا يضايقك.
ليزا: على الاطلاق اتفضل.
رامي: شكرا.
سلوى: ليه عملت كده.. ماحنا كويسين.
رامي: لا ابدا.. بس انت عارفة الواحد برضه يحب يتكلم لغة بلده مش كده برضه..
سلوى: معاك حق.
رامي: ممكن اسألك سؤال.
سلوى: اتفضل
رامي: انت النهار ده رحتي مكتب البريد واشتريتي طوابع بريد.
سلوى: ايوه..ليه
«نظر اليها رامي معاتبا» وقال:
رامي: اعمل فيكي ايه.
سلوى: خير.. انا عملت حاجه مش كويسه !
رامي:لا يا ستي.. بس تعبتيني ودوختيني
سلوى: أنا.. ازاي
رامي: انا باشتغل هناك.. وكنت في المكتب اللي جنب المكتب اللي اشتريتي منه، سمعت صوتك وانت بتتكلمي بالعربي وبعدين اعتذرتي واتكلمتي بالانجليزي.. عرفت.. عرفت صوتك.. على الرغم من مرور اكثر من سنة تقريبا على اول مرة شفتك فيها.
سلوى: صحيح.. ياه.. ذاكرتك قوية جدا.
رامي: وانت كمان عرفتيني اول ما شفتيني.
سلوى: ايوه.. ايوه.. لكن انا تعبتك في ايه ودوختك ازاي.
رامي: سبت الشغل وجريت ادور عليكي في كل مكان. لفيت المنطقة كلها، وكأنك فص ملح وداب.
سلوى: ابدا، انا خرجت من مكتب البريد على البنك. وبعدها لفيت شوية وجيت على هنا.
رامي: واشمعناهنا.
سلوى: ما عرفش.. كل ما احس اني متضايقة.. او مخنوقة من حاجة.. اجي هنا اشم هوا ومنظر الورد الجميل يريح اعصابي.
رامي: غريبة نفس شعور ليزا وانا.. احنا دايما نيجي نتغدى هنا.. الا اذا كان الجو وحش جدا.
سلوى:احناحنفضل واقفين وسايبين ليزا قاعدة لوحدها كده..
(يتبع)
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :