(29) الحداثة والحياة السياسية عند الأب "متى المسكين"
بقلم- د. ماجد عزت إسرائيل
بدأ مذهب الحداثة السياسية منذ القرن الثامن عشر الميلادي في "ألمانيا" و"فرنسا" على يد كثير من الأدباء السرياليين والرمزيين والماركسيين، ولــــقي استجابة لدى العديد من الأدبــــاء الماديين والعلـمانيين، ما بين الشرق والــــغرب. ومن أبـرز رموز الحداثة الفيـلسوف الألمــــاني "كـانط" (1724-1804م)، والكــونت "سان سيمــون" (1760-1825م)، و"كـارل ماركـــــس (1818-1883م) الذي سعى إلى إزالة المجتمع الطبقي، والأديب الفرنسي "شـارل بـــــودلير" (1821-1867م)، والأديب "جـوستاف فـــلوبير" (1821-1880م)، والشـــاعر الفرنسي "مـالا راميـه" (1842-1898م) وهو من المدرسة التي تنتــــمي إلى الـمذهب الرمـــزي، والأديب الروسي "مايكوفســـكي" الذي نادى بنبذ الماضي والاتجاه نحو المستقبل الـــــمشرق، والشاعر السوري "يوسف الخـــال" الذي حاول نشر مذهب الحداثة في الشرق الأوسط، ونجحت الحداثة في الغرب والشرق في تحقيق بعض أهدافها، وأخفقت في البعض الآخر، بل أن العديد من المعارضين لها إتهموا القائمين عليها بإنهــم ملحدون؛ لتعـــارض بعض مبادىء الحداثة مع بعض المذاهب الدينية.
أما الأب القديس "متى المسكين"، فهو صاحب السبق في "المنهج التوافقي الحداثي في الحياة السياسية"، الذي يعتمد في المقام الأول على المبادىء والقيم والمثل الدينية التي تدعو إلى بناء المجتمع كــكيان متكامل ما بين النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، على أساس استـــــخدام الدين في خدمة السياسة، من خلال تنمية القيم لدى الإنسان، وبـــذلك يصبح مواطنًا صالحًا وخادمًا ومنتجًا ومنتميًا لوطنـه، وبهذا الفــكر العلمي يكون الأب "متى" قد نجح في الجمع ما بين الدين والسياسية، ومحاربة الإلحاد والملحدين، وتنمية المجتمع علميًا.
ومن خلال المنهج التوافقي الحداثي في الحياة السياسية نجح الأب "متى المسكين" في العبور بكنيستنا القبطية وتجنبها بعض الخلافات مع السلطة الحاكمة في أواخر القرن المنصرم، وخاصةً بعد سوء العلاقات بين الكنيسة والدولة، وبالتحديد في أواخر أيام حكم الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" (1970-1981م) ومن بعدها، وانحصر دور الكنيسة في الشئون الدينية فقط، وربما زاد حجم هذا الدور بعد احساس الأقباط أنهم أقلية دينية، واستشعرت الكنيسة أهمية دورها كمؤسسة دينية مسئولة عن تقديم ألوان الرعاية الاجتماعية لرعاياها.
ويصف لنا الأب "متى المسكين" علاقته بالسلطة في كتابه "المسيحي فى المجتمع"، قائلاً: "يلزمنا جدًا منذ بداية حياتنا، أن نضع أمام أعيننا أن المسيحي حتمًا سيواجه في العالم نفس الظروف التي عبرها السيد المسيح والتلاميذ وكافة الذين جاهدوا بالروح وكملوا في الإيمان، طبقًا لما حدّده الرب "فى العالم سيكون لكم ضيق" (يو 16:33)، و"إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم"( يو 15:0)، و"لا تخافوا.." (مت 14:27)، و"لا تهتموا.."(مت 6-25)، و"أنا قد غلبت العالم"(16- 33). ولكن الحقيقة أن أحرج ساعات الإيمان هي التي يقف فيها الإنسان أمام الرؤساء الظالمين الحاقدين غير المستنيرين، سواء كانوا من طبقة الفريسيين الذين يصطادون بالكلمة، أو طبقة "حنان" و"قيافا" الملفقين للتهم وشهود الزور، أو طبقة "هيرودس" و"بيلاطس" القساة الخائفين على مراكزاهم، أو طبقة "نيرون" و"دقلديانوس" المستبدين بحكم سلطانهم، أو طبقة "الحاكم بأمر الله" المجانين الذين ألقتهم مجريات الأمور على كراسى الحكم."
ومن أبرز المواقف في المنهج التوافقي الحداثي في الحياة السياسية لدى الأب "متى المسكين"، دوره من أجل المصالحة بين الكنيسة والدولة، وتمثَّل ذلك من خلال اللقاء الأول الذي جمعه مع الرئيس الراحل "السادات" في 15 مايو 1979م، بعد تلقيه دعوة لمشاركة دير أنبا "مقار" بمنتجاته الزراعية في قرية "نكلا العنب" التابعة لمحافظة "المنوفية"، وحضره سيادة الرئيس "السادات". وفي أثناء معرض منتجات "نكلا العنب" تقابل الرئيس "السادات" مع الأب "متى المسكين"، ودار حديث بينهما بدأه "السادات" بالحديث حول منتجات دير أنبا "مقار" وخاصة "بنجر العلف"، وعن تسهيل انتهاء إجراءات انتقال المائة فدان للدير.. وأنهى الرئيس كلامه مع الأب "متى"، قائلاً له: "أنا عايزك ضروري عايز أشوفك، وحابعت لك".
وجاء اللقاء الثاني ما بين الرئيس "السادات" والأب "متى المسكين" في 5 أبريل 1980م، بعدما أصدر المجمع المقدس قرارًا بإلغاء الاحتفالات بعيد القيامة، واعتبرها "السادات" تحديًا من جانب الكنيسة لسياسته، وخاصةً أن توقيته جاء متزامنًا مع استعداده للسفر إلى "الولايات المتحدة الأمريكية" للتفاوض بشأن المشكلة الفلسطينية. وعقب انتهاء اجتماع البابا "شنودة الثالث" البطريرك الـ(117) ولفيف من الأساقفة والأراخنة في أوائل أبريل 1980م بدير الأنبا "بيشوي"، انتهى الأمر بتكليف الأب "متى المسكين"- كان ذلك في 5 أبريل 1980م- بمقابلة الرئيس "السادات" كمحاولة لحل الأزمة، ولكن المحاولة باءت بالفشل، وهو ما استنتجه الأب "متى" من قوله له: "أنا مستاء من تصرفات الكنيسة".
على أية حال، بعد عودة الرئيس "السادات" من "الولايات المتحدة الأمريكية"، عرض بعض الأساقفة- بعد أخذ رأى قداسة البابا "شنودة الثالث"- اختيار الأب "متى المسكين" لمقابلة الرئيس "السادات" لتقديم مذكرة توضحية لمتابعة شئون الأقباط، تكون بمثابة قناة شرعية لضبط العلاقة بين الدولة والكنيسة، وبعد تسليمها وعد "السادات" بدراستها. وربما لم يتم النظر فيها؛ ردًا على مظاهرات الأقباط بـ"الولايات المتحدة الأمريكية" أمام فندق "بلير هاوس". وردًا على تلك الأحداث، لجاء الرئيس "السادات" إلى استخدام العنف ضد أراخنة وأساقفة الكنيسة، لدرجة وصلت إلى التفكير في عزل واعتقال البطريرك، حسبما ذكره في خطابه العام في 14 مايو 1980م.
وفي أوائل سبتمبر 1981م، طلب الرئيس "السادات" مقابلة الأب "متى المسكين" لإبداء الرأي في العلاقة بين الدولة والكنيسة، واقترح الأب "متى" ثلاثة حلول للأزمة كان منها مصالحة البطريرك، وتعيين لجنة مع بقاء البطريرك، وتعيين هيئة علمانية. وباءت تلك المحاولات بالفشل، فأدرك الأب "متى المسكين" بحكمته أن النية تتجه إلى العزل، فأوضح بأسلوب من اللين أن هذا العمل ليس من اختصاص الدولة، وانتهى الأمر على تشكيل هيئة من مجموعة من الأساقفة لمتابعة شئون الكنيسة أمام الدولة. وعلى أثر ذلك، قام الرئيس "السادات" بإلغاء القرار الجمهوري بسلطة البابا أمام الدولة، فإذا جاز التعبير عزل إداري وليس كنسي، وعاد قداسة البابا "شنودة الثالث" المتنيح في 17 مارس 2012م إلى مقر إقامته بدير الأنبا "بيشوي"، حتى أصدر الرئيس السابق لـ"مصر" "محمد حسنى مبارك"(1981- 2011م) في عام 1984م قرارًا جمهوريًا بعودة قداسة البابا "شنودة الثالث" إلى مهام منصبه.
خلاصة القول، إن الأب "متى المسكين" رائد المنهج التوافقي الحداثي في المجال السياسي، نجح في ذات الفترة بهذا المنهج من عودة العلاقات ما بين الدولة والكنيسة، وهذا ما نتمناه دائمًا.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :