الانتقام هو الحل
بقلم : مينا ملاك عازر
جلس الرجل الثمانيني بأحد أجنحة المستشفى المحترم على فراشه، وعيناه معلقتان بالتلفاز مندهشاً مبهوراً منتشياً، وهو يتابع مشاهد التعذيب والقتل التي تمارس ضد من أطاحوا به، يتشفى في أولائك الأمهات اللائي خرجن فرحات بالإطاحة به على أيدي أبنائهنا وبناتهن، وهو يراهم اليوم يلعنَّ ويضربن أنفسهن بالأحذية مع سقوط نفس أولائك الأبناء والبنات قتلى إثر تعذيب أو قتل مباشر على أيدي من أعطاهم الحكم، وها هم ينفذون وعدهم له بأن ينتقموا له من أولائك الثوار، فيشعر هو بالاطمئنان وهو في مأمنه الذي يعيش فيه هادئاً مستقراً يقترب من لحظة البراءة كل يوم عن الآخر، خاصةً وأن ما يفعله النظام الذي يحكم استكمالاً لمسيرته يفعل أضعاف ما فعله هو طول مدة حكمه.
ورغم تلك اللحظات التي تغمرها النشوة والشماتة، فجأة قفزت من عينه دمعة لم يستطع الإمساك بها، لم تكن الدمعة تذرف على حاله ولا على حال أسرته، وإنما كانت حينما سمع من إحدى الحقوقيات بإحدى البرامج أن هناك طفلاً في الرابعة عشر من عمره يعاني من سرطان في العظام مقبوض عليه، ويرفض قاضي التحقيق الإفراج عنه ليحصل على جرعته العلاجية، ثم رفع يده بتلقائية لعينه ماسحاً تلك الدمعة، لكنه سرعان ما لم يتماسك إذ انخرط في بكاء مرير ونظر إلى الفضاء الداخلي بجناحه، وهو يسأل نفسه في أسى، لماذا خلعوني وأنا الذي في عهدي أسست مستشفى لعلاج أولائك الأطفال من مرض السرطان مستشفى صار مؤسسة، ثم سرعان ما تمالك نفسه وهو يقول في شماتة محاولاً بها أن ينتهي من بكائه يستاهلوا خليهم يعرفوا قيمتي، فتدخل عليه سيدة مسنة متأنقة وهي مبتسمة وتقول له مساء الخير شايف رجالتنا بيعملوا إيه في الكلاب إللي شالونا؟ فقاطعها وهو يستعيد شعوره بالأسى الذي سببته له قصة ذلك الطفل وقص لها قصة الطفل فظهر على وجهها علمات التأثر، وقالت هل تذكر أيام كنت أذهب لتلك المستشفى؟ وكيف كنت أدعمها؟ فقال لها أذكر وأندهش أن رجالنا المتدينين يفعلوا هكذا، أنا قلت لهم انتقموا وعدوني بالانتقام، لكن ما ذنب الأطفال، فانطلقت من السيدة المسنة المتأنقة ضحكة طويلة امتزجت بقولها "إيه ذنب النباتات" فابتسم الرجل المسن مرددا معها نفس القول صحيح "إيه ذنب النباتات" ثم نظر لها وهي تضحك تخيلي كبيرهم متضايق على النباتات ولا يتأثر من مناظر السحل والتعذيب العلني، ولا يتحرك قلبه لما يتعرض له هذا الطفل المتألم بآلام لا يطيقها أحد منهم.
ثم اعتدل في جلسته وقال لها هل تذكرين كيف تأثرت لوفاة حفيدنا، فقالت نعم، كلنا تأثرنا، فقال أنا أشعر أن ذلك الطفل وكأنه حفيدي، أتمنى أني لو كنت في الحكم حتى أمنع ما يجرى له، فقالت السيدة المسنة وهو لو كنت في الحكم كان اعتقل ذلك الطفل، فتساءل الرجل تفتكري ليه هما بيعملوا كده في الأطفال؟ طب هما بينتقموا من إللي شالوني زي ما وعدوني، لكن الأطفال ذنبهم إيه؟ بجد مالهم ومال الأطفال؟ فقالت أصل الأطفال بيضربوهم، فقال حتى الأطفال كرهوهم يا لهم من فُجر، هل وصل بهم الحال أن يزرعوا الكراهية بقلوب أولائك الأطفال، تلك القلوب البريئة النقية الطاهرة، وقالت أنا قررت أن إرجع لك التليفزيون عشان تشوف بفسك انتقام رجالتك من المطيحين بك وإللي ظلموك عشان أنا قلت إن الانتقام هو الحل لرفع روحك المعنوية، وعلاج صحتك، فمش معقولة بقى تتأثر كده وتنهار هذا الانهيار، تذكر ما فعله بك هذا الشعب، فقاطعها وهو يقول لقد اتفقنا معهم على أن ينتقموا من مْن خلعوني وليس تدمير البلد كلها، مصر منظرها بتخرب وإنت عارفة إزاي مصر غالية عليَّ، فقالت السيدة إوعى تنسى إننا من الأول عارفين غباءهم ده، إنت إللي قلت لي إني اخترتهم بالذات ليخلفوني لينتقموا من الثوار، ولإني أعرف أنهم لن يستمروا بالحكم إذ لن يتحملهم الشعب، وسرعان ما سيثور ويخلعهم، وأعود أنا أو جمال، فلماذا تتضجر الآن مما يفعلون، فقال لم أكن أتوقع كل هذه الفظاظة والبشاعة والدموية.
المختصر المفيد إن كان الانتقام هو الحل للرجل المسن، فالانتقام هو أيضاً الحل لشعب مصر.
كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها
تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :