"
ثورة العبيد ... ضد الحرية !"
بقلم عبد الكريم نبيل سليمان
عندما ترد إلى الذهن مفردة " ثورة
" فإنها تجلب معها كافة المعاني المؤدية إلى رفض الطغيان والتمرد
على الظلم والمواجهة العنيفة للاستبداد والتضحية بكل غال ونفيس من
أجل الحصول على الحرية التي يفتقدها من يتعرض لصور الظلم المختلفة
وضروب الاستبداد المتنوعة .
وعندما تضاف هذه الكلمة إلى " العبيد " فإنها تعمل على تأكيد
المعاني سالفة الذكر حيث أن العبيد هم أكثر الفئات تعرضا للظلم
ووقوعا تحت طائلة الطغيان ومعاناة من استبداد سادتهم الذين
يتعاملون معهم على أنهم بشر غير كاملين بسبب استرقاقهم وعبوديتهم .
وبالتالي فإنه عندما يسند فعل " الثورة إلى " العبيد " فإنه يفهم
على الفور الغرض المرجو تحقيقه منها وهو الحصول على الحرية التي
يتمتع بها غيرهم من البشر والتي افتقدوها عندما سلبها مالكيهم
إياها ، وتعاملوا معهم كتعاملهم مع سائر ممتلكاتهم الأخرى .
ولكن عندما يصدر عن فئة " العبيد " فعل " الثورة " ضد " الحرية "
فهذا يدل على التناقض الشديد واللامعقولية الغير متناهية التي وصل
إليها الفكر الإنساني في مراحله المتأخرة ، والذي دفع بعض الناس
إلى الثورة - لا إراديا - ضد ما يرغبون فيه وهم في كامل وعيهم .
فعندما يثور الإنسان لا إراديا ضد حقه في الحصول على أغلى ما يمكنه
تملكه ، يتطلب هذا الأمر وقفة مع الجانب النفسي في حياة هؤلاء
العبيد الذين يعشقون التبعية ويهوون التمرغ في تراب أقدام سادتهم .
بادئ ذي بدء ، لا بد من التأكيد على أن الحرية هي أثمن ما يمكن أن
يمتلكه الإنسان ، ومما لا شك فيه أن الإنسان لا يعرف القيمة
الحقيقية للأشياء إلا إذا افتقدها ، ومما لا يختلف بصدده أحد أن
العبيد تنقصهم الحرية التي يتمتع بها غيرهم من البشر مما يعيقهم عن
ممارسة الحياة بصورة طبيعية سوية ، وبالتالي فهم يشعرون بحاجتهم
الماسة إليها وينظرون إلى غيرهم من الأحرار نظرة حسد تحمل في
طياتها تمنى الحصول على هذه القيمة المعنوية التي لا تقدر بثمن .
أعتقد أن هذه هي طبيعة العبيد ، وهم يستشعرون مدى النقص في هذا
الجانب الهام من حياتهم الذي قد لا يحتاجون إليه كضرورة مسببة
للحياة ، ولكنهم يريدونه وتهواه نفوسهم وتهفو إلى الحصول عليه
قلوبهم .
إذن .. فالحرية إرادة ورغبة وليست حاجة أو ضرورة ، وبالتالي قد لا
يعيرها البعض اهتماما إذا شعر أن سعيه إلى نوالها قد يمثل خطرا على
حياته ويوجه جل اهتمامه إلى ما يحفظ له حياته ، إذ أن الحرية تمثل
أغلى ما يمكن أن يحوزه الإنسان في حياته ، ولكن الحياة - في حد
ذاتها - تمثل قيمة لا يمكن مقارنتها .
وقد يفكر الإنسان بشكل جدي في الحصول على الحرية ويسعى جاهدا للفوز
بها ، وقد يقدم الحصول على حريته على سائر المكاسب المادية الأخرى
التي قد توفر له حياة يصفها البعض بالـ " كريمة " ، وأحيانا يفضل
الموت على العبودية .
هذا إذا كان الحديث بصدد الإنسان الطبيعي الفطري الذي لم يتعرض
لتدخل القوى والأفكار المعادية للطبيعة البشرية ولم تتمكن هذه
القوى - بعد - من طمس هويته التي اكتسبها كغيره من البشر عندما
ولدته أمه حرا قبيل أن يتعرض للاستعباد عن طريق آخرين .
أما إذا كان الحديث بصدد من نجحت القوى والأفكار المعادية للطبيعة
والمناهضة للإنسانية في تحويلهم إلى مسوخ تشبه البشر شكلا وتخالفهم
مضمونا ، فإن هذا يستلزم تناول الحالة النفسية لهؤلاء البشر الشواذ
عن الطبيعة والمخالفين للفطرة .
فالعبد هو الذي يستعذب إذلال من دونه ويتلذذ بإيلامهم وتغلبه مشاعر
النشوة والارتياح عندما يجد غيره يعانى الذل والقهر والهوان .
ربما يعترض على البعض بحجة أن العبيد هم الذين يقع عليهم فعل
الإذلال والإيلام والتعذيب والقهر والإهانة ، وربما يظن البعض أنني
أخطأت - عن غير قصد - وعنيت بصاحب الصفات سالفة الذكر " السيد "
الذي يمتلك " العبد " وليس " العبد " الذي يمتلكه " السيد " .
ولكن الحقيقة التي تؤكد نفسها هي أن " العبد " و "السيد " ما هما
إلا وجهين لعملة واحدة ، يعبران عن شخصية فرد واحد وهذا ما سأحاول
توضيحه قدر المستطاع فيما يلي :
فالعبد يتعرض للإذلال من قوى أكبر منه ويقاسى الذل والهوان نتيجة
وقوعه تحت سطوتها وخضوعه التام لسيطرتها ، وحيث أن هذا الفعل
القاسي - طبقا لقوانين الطبيعة - يتطلب رد فعل تجاه مصدره ، وحيث
أن العبد لا يستطيع مقاومة هذه القوى - مصدر الفعل - وتوجيه رد
فعله نحوها فإن رد الفعل هذا ينحرف ليتخذ اتجاها عكسيا يبحث من
خلاله العبد عن من هو أقل منه في القوة لكي يوجه رد الفعل هذا نحوه
، وهنا تتعقد العلاقة لتضيف إلى أطرافها عناصر جديدة كلها تخضع (
بفتح التاء والضاد ) وتخضع ( بضم التاء وكسر الضاد ) وتذل ( بضم
التاء وكسر الذال ) وتذل ( بضم التاء وفتح الذال ) وتستبد ويستبد
بها .
ومع الاعتياد على هذا الوضع الشاذ يصبح كل طرف من أطراف هذه
العلاقات راض عما يتعرض له من إذلال من قوى أكبر منه ، ويعتاد
الجميع على أوضاعهم المخزية ويصبح الشذوذ طبيعة وتنقلب الطبيعة -
في نظرهم - لتصبح شذوذا وخروجا عن المألوف .
إذن .. فنحن بصدد علاقات سادومازوكية ، كل طرف من أطرافها يؤلم
ويتألم والكل راض عن قدره مؤمن بأن هذا مصيره الذي لا فكاك ولا
مناص منه .
وعندما نحاول قياس هذه الصفات على بعض النماذج البشرية التي
نعايشها في حياتنا اليومية ستصدمنا النتائج لأننا سنجد أن الكثيرين
ممن يشاركوننا الحياة في مجتمعاتنا تنطبق عليهم هذه الصفات الغير
سوية والتي تعبر عن خروج عن المألوف فطريا وشذوذ في التفكير وحرب
صريحة ومعلنة على الطبيعة .
فعندما تطالب النساء في العراق وفي الأردن بسن قوانين تبيح للأزواج
ضرب زوجاتهن دون أن يشكل هذا أدنى مسئولية على الأزواج .... وعندما
تساعد هؤلاء النسوة الرجل على ممارسة كافة أساليب القمع والمنع
تجاه أخواتهن من النساء بدلا من أن يتضامن معا في وجه الطغيان
الذكوري المستشرى في المجتمعات العربية ... أليست هذه العلاقة بين
المرأة التي تطالب بالحماية القانونية للرجل الذي يعتدي عليها ،
وتساعده في اضطهاد غيرها من النساء وبين الرجل المتسلط المستبد
نوعا من السادومازوكية التي أشرت إليها آنفا ؟!
وعندما يقبل البعض على تجشم عناء السفر إلى دول الخليج للعمل فيها
بنظام " الكفالة " الذي هو أقرب الشبه بالرق في العصور الوسطى ،
متحاملين على أنفسهم راضين بالتعسف والإذلال والقهر الذي يتعرضون
له عن طريق الكفيل الذي أتاح لهم العمل في هذه البلاد في مقابل
مالي ضخم يقتطع من رواتبهم الضئيلة بمقياس رواتب العاملين من أهل
هذه البلاد ، وهم في الوقت ذاته يحاولون بشتى الطرق الاحتفاظ
بأعمالهم حتى ولو كان على حساب زملائهم في العمل ، فهم دائمو
الوشاية بهم عند أرباب الأعمال لأتفه الأسباب ولأيسر التجاوزات .
وعندما تقبل بعض النساء - بناء على نصائح وفتاوى بعض المتطرفين -
على مساعدة أزواجهن في أن يتزوجوا عليهن ، بل والسماح لهم باستقدام
زوجاتهم الأخريات للإقامة معها في منزلها ( أي يقيم مع أزواجه
جميعا في منزل واحد ) ، وهى في الأصل تعانى من عدم الرضا نتيجة
البرود الجنسي الذي تعانيه جراء ختانها وهى صغيرة ، وفي الوقت ذاته
تعانى من الاضطهاد الاجتماعي لها بوصفها امرأة .
وعندما تقبل النساء على ختان بناتهن بالقوة وهن صغار مع علمهن
بخطورة هذه الممارسة الإجرامية علما يقينيا ناتجا عن تجربتهن
الذاتية التي أورثتهن مشاكل نفسية وعضوية وجنسية ، وحولتهن إلى
مجرد آلات يمارس الجنس معهن دون أن يشعرن فيه بأدنى لذة أو متعة
كالتي يشعر بها الأزواج وهم يغتصبونهن فوق فرشهم .
أليست كل هذه النماذج السالفة الذكر تعبر عن مدى الانحطاط المتوارث
في الفكر والازدواجية الأخلاقية التي ألفها الجميع والتي وصلوا
إليها في العصر الذي يتقدم فيه الجميع خطوات واسعة إلى الأمام
نتيجة اعتمادهم على عقولهم في تسيير أمور حياتهم ، باستثنائنا -
نحن - الذين لا نزال نعتمد على الجوامد من النصوص الدينية والعادات
البالية والتقاليد المتخلفة التي نوقن ونعتقد في قرارة أنفسنا أنها
شر .... ولكن لا بد منه ! ، وكأس مر ..... ولكن لا بد أن نتجرعه !
.
|