-
مسيحيون
من أجل القرآن
-
-
تأملت بإعجاب خبر المظاهرة التي قام بها مئات المسيحيين في إسلام
آباد من أجل كرامة القرآن الكريم ، بعد أن دنسه جنود أمريكيون في
معتقل جوانتانامو . وكنت أتوقع أن يكتب الكثير عن تلك المظاهرة
في الصحف ، وأن يفرد لها التلفزيون شيئا من أوقاته ، وأن تغدو
فرصة نؤكد للرأي العام عندنا معنى خروج المسيحيين من أجل القرآن
الكريم بكل ما يشتمل عليه ذلك من قيم نحن أحوج ما نكون إلي
ترسيخها . كنت أتمنى أيضا لو أفردت وسائل الإعلام بعضا من
مساحاتها الزمنية والورقية لإلقاء الضوء على الحملة التي قام بها
مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية لتعريف الشعب الأمريكي
بالقرآن الكريم وتوزيعه مجانا على المواطنين الأمريكيين . لأن
وضع تلك الظواهر في دائرة الضوء كفيل بأن يساعد على مواجهة ثقافة
القوة والظلام التي تسبح في أجوائنا مثل الطيور العمياء . هذه
الثقافة التي تنقر أذنيك وعينيك كل لحظة في كل موضع على امتداد
اليوم ، بدءا من ذلك الذي يقتحم الميكروباص ، فاردا كتفيه زاعقا
بصوت يجلجل كالرعد : " السلام عليكم " مبحلقا في الجالسين
يرتجفون من هول التجربة ، وقد تبددت في نفوسهم معاني التحية ،
مرورا بتشغيل شرائط كاسيت تبث آيات الذكر الحكيم دون أن ينصت
إليها أحد في زحمة المواصلات وضجيجها ، والذين ينقضون بالملصقات
على جدران القطارات والمترو والسيارات " الحجاب قبل الحساب " ،
أو بملصقات بعبارات مثل " لا تنس ذكر الله " وتحت العبارة أو
فوقها أرقام هواتف شركة تصليح الدش أو المحمول ! وليس في كل ذلك
شئ من روح الدعوة السمحة ، بل حالة من التحفز والتحرش بخلق الله
. وشيئا فشيئا يتزايد عدد سائقي التاكسي الذين لا يتوقفون إذا
أشارت إليهم فتاة غير محجبة . أما في قطارات المترو فقد أصبح
مألوفا أن تدخل إحداهن إلي عربة السيدات وتدعوهن من دون مبرر
واضح إلي قراءة الفاتحة على روح موتى المسلمين جميعا . ثمة رغبة
تتخذ شكل شبكة من البشر تتواثب لفرض مفاهيم سطحية للدين ، وليس
نشر كل ما في ذلك لإيمان المنير من عمق ومحبة . وقد كنت مرغما
ذات مرة داخل أتوبيس إلي سماع محاضرة طويلة عن نوع جديد من قطرة
العين صنعت مستلهمة من القرآن الكريم ! وأضف إلي كل ذلك معجزة
المساجد التي لا ترحم مكبرات الصوت فيها طفلا نائما أو شيخا
مريضا . بينما مازلت أذكر إلي يومنا هذا أن إحدى القصص التي أثرت
في نفسي تأثيرا بالغا في صباي كانت عن الرسول صلى الله عليه وسلم
حين أطال الصلاة ليعطي فرصة للأطفال لكي يفرغوا من لهوهم عند
كتفيه . أما الآن فأرى في شارعنا الذي لا يزيد طوله عن مائتي متر
مسجدين يتقاطع منهما الآذان كل مرة ، في ذات المساحة من الهواء ،
فلا تفهم شيئا لا من الأول ولا من الثاني ، وكأن المسألة مجرد
فرض شئ معروف ومفهوم مسبقا بالساعات والمنبهات . وهم في كل ذلك
يريدون بالقوة نشر دعوة لم تنتشر إلا بالحسنى والحب والتودد ،
وتسود خلال ذلك كله رغبة متحفزة في استبعاد الآخرين ، ونفيهم ،
تصل إلي حد التحريض على المسيحيين والأقباط في خطب المساجد كل
جمعة . وقد سمعت بنفسي ذات مرة خطيبا يهتف : لا تصافح مسيحي ،
فإذا ألقى عليك السلام فتجاهله ! . ولاشك أن هذا المناخ المشحون
بالبغضاء والتربص ، وتقديس الشكل دون الجوهر ، أبعد ما يكون عن
روح الإسلام ، وروح الوطن ، وثقافة الأمة ، وتاريخها . وقد بلغت
الأمور حد أن إحدى المعلمات في مدرسة يدرس بها ابن أخي كانت تلقن
التلاميذ الصغار أن " المسيحي " هي الكلمة المناقضة لكلمة المسلم
. وفي حينه وجه أخي خطابا إلي إدارة المدرسة يحتج فيه على ذلك
النوع من العلوم ! ولكن بم تنفع مثل تلك المبادرات الفردية وهي
كثيرة ؟ .
-
إن
ثقافتنا الدينية في حاجة إلي مراجعة ، وما يتعلمه خطباء الجوامع
في حاجة إلي مراجعة ، وكيفية تخريج أولئك الخطباء اصبح في حاجة
إلي مراجعة ، والثقافة التي يتلقونها صارت في حاجة إلي إعادة
النظر، هذا لكي تتردد في أجوائنا كلمات أخرى عن وحدة الأمة ،
ووحدة ثقافتها، وهو أمر لن يتم إلا بالنظر من جديد لكل ما تنمو
عليه حالة التربص هذه . وفي مثل هذا المناخ لا ينبغي أن نستغرب
ظهور من قتلوا فرج فودة ، ولا من اعتدوا على نجيب محفوظ ، ولا من
قاموا بعملية التفجير في منطقة الموسكي . ذلك أننا نحرث التربة
لظهور كل هذه الأشواك التي لا ترى في الآخرين سوى أعداء وخصوم .
وكنت أتمنى أن أسمع ، وأن أقرأ ، وأن أشاهد الكثير عن معنى
المظاهرة التي قام بها مئات المسيحيين احتجاجا على تدنيس القرآن
الكريم ، ودفاعا عن قدسية وكرامة القرآن الكريم . ومازلت أتمنى
أن تدوي أصوات خطباء المساجد بكل ما يحفل به تاريخ مصر من صور
التآخي والتآزر بين المسلمين والأقباط ، وأن تحتشد خطبهم بتلك
الحالة ، وأن تضرب الأمثلة بالأقباط الذين تبرعوا لبناء المساجد
، وغير ذلك .
-
كان الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيخوف يقول : " إذا لم تلمس
التقدم في التفاصيل الصغيرة ، فلا جدوى من البحث عنه ". ومازالت
تفاصيل حياتنا اليومية الكثيرة حافلة بشيء آخر غير الذي نتمناه
لأنفسنا وللآخرين . وللإعلام في كل ذلك دور لا يستهان به .
أحمد الخميسي . كاتب مصري
عن جريدة أخبار الأدب المصرية - عدد 12 يونيو 2005
|
|
|
|