الرقابة
والثقافة في مصر
-
-
من وقت لآخر يطفو على سطح الحياة الثقافية موضوع " الرقابة على
التعبير " بعد أن ارتفعت القبضات الملوحة وعلت الصيحات أواخر
عام 2004 تطالب بمنع فيلم " بحب السيما " ، ورواية" سقوط
الإمام" لنوال السعداوي ، وكتاب " يسقط سيبويه " لشريف
الشوباشي . وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة وحش الرقابة
وهو يمد أذرعه إلي التعبير : السينمائي ، والأدبي ، والفكري ،
مهددا بقطف زهرة من كل بستان ، ليؤكد لنا أن الحقول كلها تحت
سطوته .
-
إلا أن لحظة الزهو التي يعيشها وحش الرقابة هي مجرد لحظة
من عمر طويل ومديد حافل بالإنجازات . فقد اعترض الخديوي
إسماعيل عام 1870 على مسرحية يعقوب صنوع " الضرتان " لأنها
اشتملت على تعريض بمن يتزوج بأكثر من واحدة ، فمست الخديوي
ذاته وعلاقاته النسائية المتعددة دون قصد . وفي أكتوبر عام
1881 صدر قانون معاد للديمقراطية بعد شهر ونصف من مظاهرة
الجنود بقيادة أحمد عرابي أمام سراي عابدين ، وأشار القانون
إلي حق الحكومة في مصادرة كل عمل مكتوب أو مرسوم أو معروض يحمل
رأيا مغايرا " للنظام العمومي والآداب أو الدين " . وتوالى بعد
ذلك صدور القوانين التي تمكن للرقابة ،
-
وفي عام 1909 كتب خليل مطران محتجا على قانون المطبوعات قصيدته
الشهيرة الجميلة :
-
كسروا الأقلام هل تكسيرها .. يمنع الأيدي أن تنقش صخرا ؟
-
قطعوا الأيدي هل تقطيعها .. يمنع الأعين أن تنظر شزرا ؟
-
أطفئوا الأعين ، هل إطفاؤها .. يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا ؟
-
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم .. وبه منجاتنا منكم .. فصبرا !
-
وفي عام 1926 ، وعام 1927 صودر ومنع كتاب على عبد الرازق "
الإسلام وأصول الحكم " ، وكتاب طه حسين " في الشعر الجاهلي " ،
إلي أن أصبحنا في عهدنا هذا الذي منعت فيه رواية أولاد حارتنا
لنجيب محفوظ عام 1960، ومازالت ممنوعة رسميا ، وصودرت فيه
مؤخرا صحف مثل الشعب والدستور والموقف العربي ثم حصل بعضها على
أحكام قضائية بحقها في الصدور . وهو عهد تمنع فيه من حين لآخر
مقالات بعض كبار الكتاب في جريدة الأهرام فينشرونها في صحف
أخرى تحت عنوان " المقال الممنوع " . كما تمنع يوميا عشرات
المسرحيات والأغاني والأفلام وتجرى عليها التعديلات بشكل ودي
بين الكتاب والرقابة دون أن نعلم عنها شيئا . إنها رقابة بكاتم
للصوت يتولى بعض الكتاب في ظلها ومن تلقاء أنفسهم مراعاة كل
شروط الرقابة مسبقا ، لتهوين عبء العمل على الرقباء الرسميين
لكي تخرج أعمالهم إلي النور فلا تظل حبيسة الأدراج !
-
تاريخ الرقابة في مصر ، وفي العالم طويل جدا ، وقديم ،
وعريق جدا ، لأن الرقابة تعبير عن اختلال القوى لصالح طرف على
حساب طرف آخر . والرقابة التي يتحدث عنها المثقفون هي في نهاية
الأمر ذلك الشكل الخاص من القمع الذي يناسب مجال الفكر
والتعبير ، بينما تظل للقمع ذاته – وهو جذر المسألة – وسائل
عديدة تتعدد وفق المجالات المطلوب ضبطها : فالمعتقلات هي شكل
القمع للمنظمين في حركات سرية ، والسجن للبؤساء الذين تسوقهم
الحاجة إلي تدمير أنفسهم والآخرين ، وأخيرا هناك طبيعة
العلاقات الاقتصادية والقوانين التي تؤبد رقابة الأثرياء على
الفقراء والمعدمين .
-
وخلافا لأشكال الرقابة العنيفة المتعلقة بحماية مصالح
الطبقات ، فإن الرقابة في مجال التعبير وحرية الفكر تكتسب
أحيانا كثيرة طابعا أعم ، ذا صلة بحالة الرأى العام ، وتوجهاته
، وميوله ، وتقاليده ، ودرجة تطوره الفكرية . وللتدليل على ذلك
، يحدث أحيانا أن تطلق السلطة فكرة ، أو مبادرة ، أو رأيا ،
فيتولى الرأى العام الهجوم عليه ومصادرته ، وهنا يصبح الرأى
العام خلافا لما هو مألوف هو مصدر الرقابة ! وبعبارة أخرى فإن
ما كان ضحية يغدو مجرما ! وأذكر أن الكثيرين شنوا حملة شرسة
على القناطر الخيرية حين انتهى محمد على من بنائها ، وأشاعوا
أن الوضوء من مياه القناطر حرام لأنها مياه راكدة ! هنا لم تكن
السلطة هي التي تصادر وتهاجم ، ولكن المجتمع بحالته المتخلفة .
وليس محتوما أن تنجم فكرة المصادرة من منابع دينية ، فقد تكون
من نظرة اجتماعية متحجرة ، والدين الذي عادة ما تنسب إليه
الكثير من دعوات فرض الرقابة ، هو الذي سمح على لسان الإمام
محمد عبده بكاميرا التصوير الفوتوغرافي في مواجهة حالة عامة
تنادي بأن التصوير حرام . وقد اضطرت ثورة يوليو في سنواتها
الأولى أن تواجه بالمقالات والأفلام والأغنيات الرأي العام
الذي كان مازال متمسكا بأن مكان المرأة الوحيد هو البيت .
وشاعت حينذاك أغنية للمطربة نجاة ، بثتها الإذاعة ليل نهار ،
تقول فيها : " كانوا بيقولوا الست ح تفضل زي ما هي .. ييجوا
يشوفوا الست أهي نجحت ميه الميه " ! وهنا كانت السلطة تكافح ضد
رقابة المجتمع !
-
أقول ذلك لأوضح أنه ليس للرقابة شكل واحد ، ولا مضمون واحد
، ولا توجه ثابت محدد ، وأنها – أي الرقابة – قد تعبر في كل
مرة عن مصالح مختلفة ، ومن ثم فإن علينا في كل مرة ونحن نتحدث
عن الرقابة أن نفكر : أية رقابة؟ من الذي يسعى لمصادرة من ؟
بأية أهداف ؟ وأين ينبغي لنا أن نقف من هذه القضية ؟
-
ولنأخذ على سبيل المثال كتاب شريف الشوباشي " يسقط سيبويه "
الصادر عن هيئة الكتاب ، والذي طالب أحد أعضاء مجلس الشعب
بمصادرته مدعوما بصيحات أخرى كثيرة مماثلة في مختلف المنابر
المطبوعة والمرئية . وجذر الحملة على الكاتب والكتاب يقوم على
الإدعاء بأن اللغة العربية لغة مقدسة لمجرد أن القرآن الكريم
نزل بها ، ومن ثم لا يجوز عليها أي تجديد تقوى به وتصح وتزدهر
، بينما يدعو الشوباشي إلي إعادة النظر في قواعد تلك اللغة
الصعبة لكي نضمن لها أن تستمر بين المتكلمين بها . ويشير
الشوباشي إلي أنه لا يوجد في القرآن الكريم ولا في السنة ما
يشير من قريب أو بعيد إلي اصطفاء اللغة العربية وقدسيتها ، بل
ولا حتى إلي امتياز العربي عن الأعجمي إلا بالتقوى !
-
بالنسبة لنوال السعداوي علينا أن نقر أولا أن كتابها "
سقوط الإمام " ليس رواية ، وأنها لا تحسب على الروائيات
المصريات ، ثانيا إن عملها المذكور يشتمل على عبارات كثيرة
جارحة للشعور الديني العام ، على حين يثبت تاريخ الأدب الحقيقي
أن كبار الأدباء مثل نجيب محفوظ ، ويحيي حقي ، والحكيم ، وبهاء
طاهر، وغيرهم قد تناولوا دائما تلك القضية بما يكفي لتبيان
موقفهم المستنير ، ولكن دون الخوض في تجريح الشعور العام .
ثالثا إذا كان الأديب والكاتب مهتما حقا بتوصيل رسالة إلي
القراء ، فأية رسالة يمكن توصيلها إذا كنا نبصق في وجوه الناس
؟ ونبصق في تصوراتهم عن العالم والحياة ؟ . رابعا هل يمثل
الموضوع الديني حقا حجر الأساس في أن أوضاعنا الراهنة أصبحت
بالصورة التي هي عليها الآن ؟ أم أن هناك أسبابا أشمل سياسية
واجتماعية واقتصادية ؟ وحقيقة الأمر أن الكتاب أمثال نوال
السعداوي المغرمين باختزال الوضع العام الذي نعيشه في إطار
القضايا الدينية ، أو الجنسية ، أو الذاتية ، كتاب بلا مستقبل
، لأن موقفهم مبني على تشويه واختزال تركيبة اجتماعية
واقتصادية كاملة في زاوية واحدة ، بينما لا يعرف تاريخ الأدب
أعمالا كبيرة حقا من غير أن تكون متسمة بنظرة شاملة ومترابطة
لما يحدث في الكون والمجتمع . أخيرا فإن ما تكتبه نوال
السعداوي يثير في نفسي الحذر ، نظرا لعلاقتها بمؤسسات التمويل
الأجنبي ، وهو أمر يجعلني لا أدري إن كان ما يكتبه الكاتب نابع
من عنده ، أم استجابة لمستلزمات أخرى . ومع ذلك فإنني أظل ضد
منع أي كتاب لنوال السعداوي أو غيرها .
-
إذن أجدني مرة مع كتاب شريف الشوباشي ، ومرة ضد شبه
رواية نوال السعداوي ، مرة مع فيلم " بحب السيما " ، وأخرى ضد
فيلم " سبع ورقات كوتشينة " لروبي ، مرة مع نشر كتب نصر حامد
أبو زيد ، ومرة ضد كتب أخرى كثيرة . ولكن علينا في كل الحالات
أن نقف بشدة وبشكل مبدئي وإلي النهاية ضد الرقابة أيا كان
نوعها ومصدرها أوركائزها الفكرية التي تنطلق منها . لقد فرضت
ثورة 1917 في روسيا ذات يوم الرقابة على الصحف مؤقتا ، ثم
استمر هذا الوضع المؤقت للأسف سبعين عاما ! وكان فرض الرقابة
من منطلق تقدمي ، بدعوى حماية الثورة من الرجعية . سأظل دائما
أدعو للوقوف ضد أية وكل رقابة . ولكن ثمة فارقا كبيرا بين
اعترافي بحق الجميع في أن يكتبوا وأن ينشروا ما يريدون ، وبين
دفاعي عما يكتبونه وينشرونه . فالدفاع عن حق الآخرين في
التعبير يتضمن الدفاع عن حقي أنا أيضا في التعبير وفي الاختلاف
مع ما يطرحه الآخرون . من الضروري أن يتضح أننا ضد الرقابة
دائما ، ولكننا قد نكون ضد المادة ذاتها التي تمنعها الرقابة ،
ولابد أن نقول في ذلك كلمتنا كل مرة ! وسأضرب مثالا أخيرا بما
أقصده : فسوف أدافع إذا دعت الضرورة عن حق من يريد في إصدار
مجلات دينية أو جنسية . وسأقف معه ضد الرقابة على هذه المجلات
، وضد منعها ، ولكني في الوقت ذاته سأكتب كثيرا ، جدا ، لأفضح
الطابع الرجعي والضار لهذه المجلات !
أحمد
الخميسي
|
|
|
|