نهاية أم بداية؟
(2)
1
– عظمة الأبوة الروحية في كنيستنا القبطية
طغت روح الأبوة الحانية على تصرفات أبي الروحي ،
فور علمه بقيام أعداء الصليب بمحاصرة بيتي ، وزوجتي بداخله.
وبوجود كمين على مدخل الشارع لإلقاء القبض علي وأنا عائداً
للبيت. وتضاعفت أحشاء رأفاته نحوي،بعدما عاد إليه الشماس
الإكليريكي ، ليخبره بأمر مغادرتي البطريركية متوجهاً إلى بيتي ،
دون أن أعلم بما هو مخبؤاً لي هناك .
فأستدعى الدائرة المقربة جداً من أشقائي
المكرسين، وأبلغهم ( وهو في غاية التأثر ) بخطورة موقفي ، وأوضح
لهم بأن حياتي ، وسلامتي ، أصبحتا في خطر شديد .
فحزنوا كثيراً ، ووضعوا أنفسهم على أهبة
الاستعداد لمساعدتي حتى لو اضطروا إلى أفتدائي بأرواحهم!!! وهذه
هي الروح القبطية ، الطيبة ، الأصيلة ، الراسخة داخل نفوس
العاملين بالكنيسة.وأنا هنا أتكلم عما رأيته بنفسي على مدى خس
سنوات كاملة قضيتها داخل البطريركية ، تعاملت خلالها مع آباء
وخدام كثيرون ، والواجب الأخلاقي يحتم علي الأعتراف بإحسان هؤلاء
معي ، وخصوصاً أبي الروحي ورئيس خدمتي، والذي أنتهز هذه الفرصة
لأقول له : شكراً لك يا أبونا ، وربنا يعوض تعب محبتك الكبيرة
معي ، وخصوصاً في أيام محنتي التي طالت 540 يوماً.ويعوض تعب محبة
بقية الآباء ، والأخوة الشمامسة الإكليريكين المكرسين ، والأخوات
المكرسات وبقية الخدام والخادمات ، لتعبهم الكبير معي طوال هذه
الأيام الصعبة .
2 –
الوالد الذي لم يلد !!!
ألغى أبونا كل مواعيده وارتباطاته ، ثم أعطى
تعليماته لزملائي المكرسين باستبدال ملابسهم الإكليريكية بأخرى
مدنية، لسهولة التحرك بدون عوائق ، وطلب منهم أن يكون على أهبة
الاستعداد للذهاب إلى بيتي لتقديم المساعدة لي ، ولزوجتي ،
المحاصرة داخل بيتها .
ورغم كل ما يقوله الناس عن قوة شخصية أبونا
(المهيبة) ، وعن حزمه الشديد جداً ،إلا إن الرب قد شاء أن يريني
الجانب الآخر من شخصيته ، وهي في غاية العذوبة والرقة ، لدرجة
أنه لا يحتمل رؤية طفل يبكي ، أو شخص يتألم سواء من مرض ، أو من
ظلم ، أو من اضطهاد ، أو من عوز..
بل كان لا يحتمل رؤية دموع الخطاة وهم يعترفون
بخطاياهم ، فكان يواسيهم بكل حنو، ويشجعهم على التوبة ويحافظ على
مشاعرهم ، وكانت علاقته بأولاده الخدام علاقة والد بأولاده، ولو
حدث وتعرض أحدهم للخطر لأي سبب ، كنت تراه في غاية الحزن ، وكأن
سكين اخترق قلبه الأبوي الحاني الكبير.
وكلنا ( حوالي خمسة كهنة ، وثلاثون مكرس ومكرسة ،
و 500 خادم وخادمة) قد رأينا كم الحزن الذي أصابه عندما أصيب أحد
أولاده الاكليريكين المكرسين بجلطة على المخ ،نتج عنها شللاً
نصفياً ، وكيف أسرع بإدخاله مستشقى السلام الدولي، متحملاً كافة
نفقات علاجه الباهظة ، حتى أمكن انقاذه ، وإعادة تأهيله حركياً ،
وهو بنعمة الرب يواصل خدمته الآن ، وقد تزوج وأنجب أولاد وبنات !
وكان طوال فترة محط رعاية وعناية أبونا ، والذي كان يحرص على
زيارته يومياً ، بالرغم من مشاغله الكثيرة والتي تبدأ منذ الصباح
الباكر وتمتد حتى الساعات الأولى من فجر اليوم التالي ! فلم يكن
مجرد أب راهب، بل كان شيء آخر لم أرى له مثيل ، ولا أعرف كيف
أصفه لكم، وأقرب تشبيه لمحبته لاولاده الروحيين ،هو محبة السيد
المسيح لتلاميذه ! لذلك أعتبر أبونا بأن هذه الضربة لم تكن موجهة
لي أنا ، بقدر ما كانت موجهة له شخصياً ، لأنه أبي ، ومن يؤذي
الابن فإنما يؤذي أبوه ، وأبونا هو والدي الذي لم يلدني ، هو أبي
الحقيقي الذي عرفته ، والذي تمتعت بأبويته ، لأن أبي الذي أنجبني
قد توفي وعمري خمسة أعوام ، ولا أذكر أي شيء عنه،بعكس أبي الروحي
الذي امتزجت محبته الابوية لي ، بخلاص نفسي ، وقيادتي لحياة
التوبة والبر ،والذي أتمنى أن أموت بين يديه واضعاً رأسي على
صدره ، ثم يصلي على جثماني بنفسه . وكنت أتعجب كيف لراهب ناسك
مثله ، شديد الزهد والنسك ، ولم ينجب حتى يختبر أبوة اللحم والدم
، رغم ذلك فيملك مثل هذا القلب الأبوي الحاني الكبير ، الذي يفوق
أبوة اللحم والدم مئات المرات ؟ تخيلوا أنه كان يهتم بكل كبيرة
وصغيرة، ليس في خدمتنا ، وحياتنا الروحية فقط ، بل وفي سائر
أمورنا الحياتية حتى تلكم المتعلقة بأدق خصوصياتنا ، فأن مرض أحد
أقاربنا بالجسد ، نراه يهتم بالأمر، ويسرع بتقديم العون لنا ، أو
لو أراد أحدنا أن يتزوج ، فيلتق بالعروس ، وبأهلها ، كأي أب
حقيقي، ثم يسرع بتقديم المساهمة في تكاليف الزواج ، من مسكن ،
وأثاث ( لمن تطلب ظروفهم ذلك) فكان أباً حقيقياً بكل ما تحمله
الكلمة من معان ، علماً بأنه الذي أحضر لي هذه الشقة (المحاصرة
الآن) ودفع المطلوب فيها ، وهو الذي أصر على تحمل تكاليف تشطيبها
، وتأثيثها ، ومن المواقف الطريفة إنني رغبت في دهانها
بالبلاستيك لخفض النفقات ، لكنه أصر على دهانها بالزيت ! وعندما
علم بأني أقوم بواجبي تجاه والدتي ، بثلث راتبي، عاتبني بشدة
لإخفائي هذا الأمر عنه، وقرر زيادة راتبي ، وقال لي : أنا يا
أبني أقدر الأم ، وأمك هي أمي . علماً بأن محبة هذا الأب الجليل
لي،هي من إحدى العوامل المؤثرة وراء ثباتي في المسيح ،ومحبتي
الجارفة لكنيستي ، وآباؤها وخدامها. وكنت قد التقيت بقدسه لأول
مرة في عام 1988 ، ومن يومها ، وحتى الآن ، وإلى آخر يوم من عمري
، سيبقى أبي ، وولي نعمتي ، ومرشدي الروحي، وأمين ورئيس خدمتي .
4– قوة الصلاة وفاعليتها في كنيستنا القبطية
دخل أبونا الحبيب قلايته ، وأغلق الباب على نفسه
، ثم سكب ذاته في الصلاة ، متوسلاً للرب في لجاجة أن يتدخل بسرعة
لإنقاذي مما هو مزمع أن يحدث لي من إيذاء خطير ، سواء من المباحث
، أو من الجماعات الإسلامية، أو من أهل زوجتي ، أو من الجيران ،
أو من رعاع المنطقة.
وكان قد أعلم بالروح ، بخطورة وبشاعة ما سوف
أتعرض له ( في حالة سقوطي في قبضتهم) لثلاثة اسباب:
1 - خلفياتي الماضية .
2 - طبيعة خدمتي الحالية.
3 - جبروت أعدائي.
الأمر الذي يفسر قلقه الكبير علي في هذه اللحظات
العصيبة .ولولا صلوات هذا الأب القديس من أجل سلامتي ، لكانت
مزقتني الذئاب ، ونهشتني كلاب الشوارع.
ولا زلت أعيش حتى الآن بفضل الرب ، وبفضل صلوات
هذا الأب الجليل من أجلي .
5– شفاعة القديسين في كنيستنا القبطية
مسألة شفاعة القديسين ، ليست مجرد مسألة نظريات
وآراء ، بل هي أحداث ووقائع مدعمة بالأدلة والبراهين يشهد على
صحتها المسلمين قبل المسيحيين ،رغم ذلك تنكرها بعض الطوائف
المسيحية المستحدثة ، وأنا هنا لا أتحدث عن اللاهوت المقارن ،
ولا أتجادل أمام الذين يتنكرون لشفاعة القديسين ، إنما أتحدث عن
وقائع محددة ، فلقد طلب أبونا شفاعات القديسة العذراء مريم أم
النور،و شفاعات القديس الأنبا ابرام ( شفيع الخدمة).وبفضل الرب ،
وبفضل شفاعة القديسين ، وصلاوات أبي الروحي ، تمكنا من الخروج ،
زوجتي وأنا، من وسط النار سالمين ، في واحدة من الأعاجيب التي
اربكت أعدائي ، وشلت تفكيرهم ، وتركتهم يأكلون أنفسهم من شدة
الغيظ والحيرة ، لإفلاتي من بين أياديهم، بمثل هذه المعجزة
الباهرة ، وبدون أن يصيبني أدنى إيذاء.
صحيح قد خسرت بيتي بكل محتوياته ، ولم أخرج منه
إلا بملابسي التي أرتديها فقط ، لكني ربحت نفس زوجتي ، ونفسي ،
إذ أخرجنا الرب من أتون النار سالمين.
6– ولا تخافوا من
الذين يقتلون الجسد
حدث قبل مغادرتي البطريركية بدقائق ، أن جاءني
شخص مقرب من قلبي ، وما أن رآني حتى قال :الحمد لله إنني وجدتك
حتى أحذرك من خطر محدق بك ، فكن محترساً لنفسك !!!
فقلت له: أشكرك على محبتك ، لكن أنت تعلم بأنني
منذ سلكت طريق المسيح ، وأنا أصبحت مستهدفاً،ويندر أن يمر يوم أن
أتلق تهديدات،ولكنك تعلم أيضاً أنني ( بنعمة الرب) لا ألتفت لمثل
هذه التهديدات.
قلت هذا ، ثم أخرجت الأنجيل من جيبي ، وقرأت
أمامه من ( مت 10 : 16- 40 ) وكنت أعيد تكرار آيات معينة مثل :
+ها
انا ارسلكم كغنم في وسط ذئاب.
فكونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام..
+ ولكن
احذروا من الناس..
+ وسيسلم
الاخ اخاه الى الموت
...
+ ولا
تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا
يقدرون ان يقتلوها..
+
فكل
من يعترف بي قدام الناس اعترف انا ايضا به قدام
ابي الذي في السموات ولكن من ينكرني قدام الناس انكره انا ايضا
قدام ابي الذي
في السموات
..
+
واعداء الانسان اهل بيته.
+
ومن لا ياخذ صليبه ويتبعني فلا
يستحقني.
من وجد حياته يضيعها.
ومن
اضاع حياته من اجلي يجدها
)..
فقال
: نعم ، نعم ، أنا أعرف كل ذلك (!) ، ولكن الأمر مختلف تماماً في
هذه المرة ، لأن الموضوع أصبح كبيراً، لتدخل اطراف عديدة فيه ،
وكلهم يصرون على القضاء عليك ، والأخطر
إن هناك خيانة من الداخل؟
7–
الجرح العميق .
لا أخفي عليكم اضطرابي الشديد بمجرد سماعي لهذه
الجملة الأخيرة ، لأن المسيحي مهما أختلف مع أخوه في بعض المسائل
الجانبية ، إلا أنه لا يمكن أن يغدر به ، ويسلمه إلى ايدي أعداء
المسيح،وإلا عد مرتداً عن المسيحية ، ومحُارباً للرب وكنيسته ،
لذلك كنت استبعد تورط أي مسيحي في التأمر ضدي مع أعداء المسيح .
+ كان واضح من كلام هذا الأخ ، معرفته التامة
بهذه المؤامرة، لكنه لم يخبرني بتفاصيلها حتى أخذ حذري!!!
بل وتركني أغادر الكاتدرائية متجهاً إلى بيتي
بدون إبلاغي بأن بيتي محاصراً من أعداء الصليب !!!
والأعجيب من كل ذلك ، أنه أصر على مرافقتي! ، وفيما يبدوا إنه
كان في صراع حاد مع ضميره ، ولربما
كان يريد ان يبوح لي بما
يعرفه في الطريق، لكنه لم يفعل، أما بسبب الخوف ، أما بسبب تورطه
في المسألة !
+ وبمجرد أن اقتربنا من
الشارع من جهة الخلف ، حتى فوجئت به وهو يعتذر لي عن مواصلة سيره
معي حتى البيت (كالمعتاد) ، ثم ودعني وهو يردد قائلاً : خلي بالك
من نفسك !!!
+ شكراً لك يا أخي
المحبوب ! ، لكن لماذا لم تقل لي مِن َمن أخلي بالي من نفسي ؟؟؟
8– الرب يستخدم كيلو سكر
لانقاذي
عجيب هو أمر ربنا معنا،
حينما يتدخل لحمايتنا من المخاطر الرهيبة مستخدماً طرق بسيطة لا
تخطر على قلب بشر ، فلولا نفاذ السكر من البيت لكنت سلكت طريقي
اليومي المعتاد الذي يعرفه أعدائي ويكمنون لي فيه ، وما كنت
أضطررت الى سلوك طريق آخر للذهاب إلى البقال ، فلقد دخلت الشارع
من مؤخرته عبر طريق ضيق جداً ، وما أن دخلت الشارع ، حتى شعرت
بقلبي وهو ينقبض ، فلا صوت ولا حركة ! وكأن الشارع تحول إلى
مقبرة ! ووزاد من حيرتي عندما وصلت للبيت فوجدت البلكون مغلقة ،
وكذلك النافذة ، وهذا أمر لا يحدث بسبب شدة الحر ، صعدت دركات
المنزل وأنا متوجساً ، وضغطت على جرس البالب ،فجاء صوت زوجتي من
الداخل خافتاً مرتعباً :أنت مين ؟
فقلت لها : افتحي يا مريم
أنا صموئيل !
ففتحت ، وعانقتني ، وهي
تبكي ، ثم قالت لي وهي في غاية الهلع والارتباك :
يالا نمشي من هنا بسرعة ،
أبونا مستنيك ، ومفيش وقت ، وفي الطريق سوف أحكي لك كل شيء !!!
فقلت لها : اهدئي وقولي
لي إيه الحكاية ؟
فقالت بعصبية: أرجوك ،
مفيش وقت ، البوليس ، والجماعات، وأهلي ، محاصرين البيت من الجهة
الأمامية !!!
9 – الثبات في الازمات
العجيب أنه بالرغم من
سماعي هذه المفاجأة القنبلة ، إلا أنني لم اهتز، ولم أضطرب ، بل
قلت لها بثبات:
أنا مش منقول من هنا !
وإن عشت فللرب أعيش ، وإن
مت فاللرب أموت !!
فقالت لي : أبوس رجليك
أسمع الكلام ، وبلاش عناد ، أنا عارفة إنك راجل ومبتخافش من حد ،
ونفسك تموت شهيد ، لكن بلاش تخالف أوامر أبونا ، فأنا اتصلت به
وهو طلب مني أبلاغك بالرجوع إليه فوراً .
قالت هذا ، ثم سحبتني من
يدي الى الشقة الملاصقة لشقتنا ، وتطل على الشارع من الجهة
الأمامية ، وتعلو موضع الكمين مباشرة ، فرأيت كل شيء بعيني ،
وبدأت أدرك أبعاد المؤامرة .. ولكني عدت الى شقتي وطلبت من زوجتي
أن تذهب إلى البطريركية ، وتتركني لمواجهة
الاستشهاد ، لكنها رفضت وقالت : سوف أبقى ، ولكن
لو تعرضت (للبهدلة) منهم ، فستكون أنت السبب ، ولو أنت مت ، فسوف
تموت كاسراً وصية طاعة الكنيسة ، وأنت عارف مصير كل واحد بيخالف
طاعة أبونا !!!
10–
الطاعة أفضل من تقديم ذبيحة
فقلت لها هل أنت متأكدة إن أبونا طلب منك إخباري
بأن أرجع إليه ؟
فقالت
: صدقني هو دا اللي حصل ، وانا مش بقول كده علشان خايفة عليك ،
ومستعدة لأقسم لك على الإنجيل ! فلانت صلابتي ، وعاد إلي صوابي
وحكمتي ، وتذكرت أحاديثي الطويلة معها ، ومع كل الناس ، عن وجوب
طاعة الآباء الروحيين تنفيذاً لوصية الكتاب : (
اطيعوا
مرشديكم واخضعوا لانهم يسهرون لاجل نفوسكم كانهم سوف يعطون
حسابا لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنين لان هذا غير
نافع لكم
) [ عب 13 : 17 ].
ودار بي شريط الذكريات ، فتذكرت أول أب روحي
التصقت به بعد إيماني بالمسيح مباشرة ، وهو أ بي الروحي المتنيح
القديس القس ( بولس شاكر) راعي كنيسة العذراء بالدقي، وكيف منعني
من الذهاب إلى ساحة الاستشهاد التي أقامها رؤسائي المشايخ في
منطقة المقطم ، فور علمهم بارتدادي عن الإسلام ، في شهر يونيو
1987، وكان اليوم المحدد لقتلي هو يوم أربعاء أيضاً ! ( أنظر
كتاب : كان ميتاً فعاش ) فقلت لزوجتي : أنا موافق على مغادرة
البيت ، لكن لابد أن أفتح درج المكتب وأخذ منه جميع الاوراق
الكنسية ..
فقالت لي : ليس هناك وقت ، ولربما يأتون بعد
لحظات لاقتحام الشقة ؟
والعجيب إن هذا هو ما حدث بالتمام !!!
11–
لعبة ساذجة
فيما يبدوا إن (العيون الخائنة البصاصة) كانت قد
أبلغت " الكمين" بأنني قد عرفت بأمره ، وإن الكنيسة صار لها
علماً بالموضوع ، وإن الأمر يحتاج لخدعة حتى يمكن اصطيادي ،
فأصدر الأشرار أوامرهم للكمين بالتظاهر بالتراجع والانسحاب من
الموقع لمدة عشر دقائق ، ثم العودة مرة أخرى والاتجاه إلى بيتي
مباشرة لاقتحامه بالقوة.
وهي الفترة التي استخدمها الرب لمغادرتنا المنطقة
بأسرها ، والتوجه مسرعين إلى البطريركية !!! وما هي إلا دقائق
معدودات حتى انقضوا على بيتي..
ويقول أحد الآباء الكهنة، وكان يشاهد ما يحدث من
مكان قريب جداً :
( اقتحموا البيت بعد خروجكم منه بعدة دقائق ،
وفقدوا صوابهم لعدم عثورهم عليكم بداخله ، وظلوا لمدة 15 يوم
يأتون إلى البيت ثلاث مرات يومياً ، وعرف الكثيرين من أهل
المنطقة بحقيقة أمركم )!!! وهكذا انتشر الخبر في المنطقة ، وسط
غيظ السكان المسلمين ، الذين قالوا :
بقى القسيس اللي كان عايش بيننا ، كان في الحقيقة
شيخ مسلم مرتد عن الإسلام ، وإحنا مكناش عارفين ؟!
12– من
العباءة والطاقية والمسبحة
إلى
الروب الاكليريكي والصلبيب والإنجيل !!!!
وصلنا إلى البطريركية في حوالي العاشرة مساءاً ،
وكان أبونا واقفاً وحوله اشقائي المكرسين ، ومعه اب كاهن آخر من
أولاده الروحيين، وهو كان زميل لنا في الخدمة قبل سيامته للكهنوت
، وكنيسته تقع بإحدي المحافظات البعيدة ، وأتفق أنه كان في زيارة
لأبونا في هذا اليوم ، فرى أبونا بحكمته الكبيرة ، أن يستبقيه
لديه لربما يحتاج إلى مساعدته في أمر انقاذي ..فلما رآني أبونا ،
ترك كل من حوله وأسرع نحوي ، معانقاً إياي بكل محبة أبوية ، وهو
يقول لي بفرح: حمد لله على سلامتك يا ابني ، أنت خرجت من وسط
النار بمعجزة كبيرة ، العذراء والانبا ابرام عملوا معاك معجزة .
وبالرغم من محبتي الجارفة لأبونا ، إلا إن هذا
الموقف الأبوي المؤثر، قد ضاعف من مكانته في قلبي ، وخصوصاً
بعدما رأيت المسيح فيه.
وقد أبكاني أكثر عندما أخذني من يدي وألبسني
الثوب الإكليريكي المقدس ، وعلق صليب كبير على صدري ، واعطاني
كتاب مقدس . وقال لي :
سوف تهرب خارج القاهرة ، وستبقي هناك حتى استدعيك
بعد أن تهدأ الأمور وأعرف بنفسي تفاصيل ما حدث وسوف تذهب مع
أبونا (....) وهتكون هناك في أمان .
13 –
فرحتي بالصليب أنستني آلامه !!!!
نسيت نفسي ، ونسيت أنني فقدت بيتي ، وصرت مطارداً
، وتجمدت خدمتي ، ونسيت كل شيء تقريباً ، أمام فرحتي الكبيرة
بهيئتي الكنسية الرسمية ،علماً بأنها المرة الثانية التي أرتدي
فيها الزي الاكليريكي،فلقد حدث أن ألبسني إياه أبونا عندما قرر
اختياري ضمن وفد الشمامسة الاكليريكين الذين عهد إليهم باستقبال
سيدنا قداسة البابا في الكاتدرائية ، بعد عودته من إحدي رحلاته
الرعوية الطويلة بالخارج ، وكان ذلك تكريماً كبيراً من الكنيسة
لضعفي ، ومن الطريف أن أب اعترافي القمص (م.ص) كان قد جاء للمقر
البابوي ضمن الاباء الوافدون من ايبارشية الجيزه لتهنئة سيدنا
على سلامة الوصول ، فلما رآني وأنا بهذا الزي ، عانقني بفرح كبير
ثم داعبني قائلاً : إيه يا واد الحلاوة دي ؟
دا الروب لايق عليك خالص !!! ، هي الكنيسة خلاص
نويت تعملك قسيس ، ولا إيه الحكاية بالضبط ؟!!!
فبكيت ، وقلت لقدسه : العفو يا أبونا ، دا أنا
هنا مجرد خدام وزبال !!!!
وعندما قامت وسائل الإعلام بتصوير وفد الكلية
الاكليريكية ، اسرعت باخفاء وجهي ، حتى لا اظهر في الصورة ،
واتسبب في مشاكل للكنيسة. و ظلت مرتدياً الروب حوالي ثماني
ساعات فقط ، وبعدها خلعته .
14 –
بما إن الله هو أبي ، فالكنيسة هي أمي !!!
لكن هذه المرة ، فلها مذاقها الخاص ، لأنها كانت
بمثابة اعتراف كنسي رسمي بأنني من أحد رجالها ، فضلاً على إنني
سوف ارتديه شهر كامل! ، وسوف اتنقل به في الشوارع والطرقات بشكل
علني ، وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ الكنيسة الحديث.
ويقال إن كل ما فعلته معي الكنيسة من محبة ومراحم
وتشجيع وتكريم ، كان استثناءاً فريداً جداً من نوعه ، وكان كل
ذلك بإيعاز من السيد الرب الكريم الذي شاء – من فرط تواضعه – أن
يجعل كنيسته تكرمني في إشارة واضحة المعالم للآخرين مفادها ، أنه
قد أحبني ، وقبلني ، ومحا عاري ، ورد اعتباري .
وقد فعل ذلك كأب حنون ، لأنه آبانا السماوي ،
وبما أن الله هو أبي ، فالكنيسة هي أمي . نعم أمي التي ولدتني في
جرن المعمودية ، وارضعتني حليب الإيمان ، وحمتني من بطش
الطغاة.أمي التي عشت في أحضانها الأمينة منذ عودتي من مكة في
1987، حتى مغادرتي مصر عام 1993 .
كل شبر فيكِ يا كنيستي بيشهد إنك أم حنون ، أم
تبذل نفسها من أجل حماية أولادها ، لولا حمايتك لي يا أمي لكانت
أكلتني كلاب الشوارع .
15 –
باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته .
نظرت إلى هيئتي وأنا بالزي المقدس ، والصليب
يتدلى الى صدري ،فهتفت في أعماقي:
عجيبة جداً هي أعمالك يا رب ، عجيب أنت في محبتك
وعطفك بالخطاة والمنبوذين ، أنت وحدك يا رب الذي تستطيع أن تقيم
المسكين من التراب ، وترفع البائس من المزبله ، لتجلسه مع روؤساء
شعبك ..أنت وحدك يا رب الذي تستطيع أن تجمع :اللصوص ، والزناة ،
والمجدفين ، والمقاومين ..من الطرقات ، والشوارع ، والجوامع ،
وأزقات الموت.. لتصنع بهم عجائبك .المجد لك يا رب ، يا من جعلت
من الشيخ محمد ، المكرس صموئيل .. ويا من استبدلت عباءته
الشيطانية ، بزي الكهنوت المقدس!!! شيء عجيب جداً يا اخوة ،
ويجعلنا نهتف من أعماق قلوبنا ، قائلين : ما أحن قلبك يا رب ؟
أنني أبكي الآن بشدة ، وأنا أستعيد هذه الذكريات المباركة ،
وأقول لنفسي :باركي الرب يا نفسي ولا تنسي كل احساناته. وأقول
للرب : سامحني يا رب على كل ضعف وعلى كل خطية وعلى كل هفوة .
وادعو الجميع ليتأملوا في مراحم إلهنا القدوس مع
النفوس الجريحة والمتألمة .
16 -
رحلة الهروب
+ بقينا عدة ساعات حتى رتب أبونا كل شيء في سرية
تامة ، وأهتم بأن تكون كل تحركاتي بصحبة الأب الكاهن ، وأنا
بالزي الاكليريكي ، حتى متى نلت اكليل الاستشهاد ، أكون بذلك
شهيد الكنيسة بشكل رسمي. وفي هذا اعتراف عظيم من الكنيسة
باولادها المتألمين من أجلها ، وهذا الأمر قد رفع من معنوياتي
بشكل كبير،كما كان بمثابة لطمة قوية وجهت لهؤلاء الذين تآمروا
ضدي غيرة وحسدا ، وخصوصاً الذين استكثروا على انسان مسكين مثلي،
أن يكون خادماً مكرساًُ محبوباً من الكنيسة ، ولم يتوقعوا أبداً
، لا هم ، ولا أعدائي التقليديين ، إن الكنيسة سوف تدخل ، وتعترف
بي ( في هذا الظرف العصيب) وبمثل هذه الطريقة الجليلة .
+ كانت الساعة قد قاربت على الثانية بعد منتصف
الليل ، عندما حان وقت مغادرتي البطريركية في صحبة الأب الكاهن ،
فودعت أبونا ، واخوتي وزملائي من المكرسين، ثم فوجئت بأبونا وهو
يعطيني مبلغا من المال للانفاق منه طوال فترة هروبي ، لكن الأب
الكاهن المرافق ، لم يدعني انفق فلس واحد مما معي !!!
وتوجهنا نحن الثلاثة ، الأب الكاهن ، وضعفي ،
وزوجتي ، إلى خارج القاهرة بنحو 250 كم .
17–
الهرب من الأسد ، إلى عرينه !!!
العجيب في أمر قصص هروبي المتكررة من المضايقين
في مصر ، هو إنني كنت أهرب منهم ، إليهم !!!
فعلى سبيل المثال ، فالجامع الذي كنت أعمل فيه،
كان يقع في أحد أحياء محافظة الجيزة ، وهي المحافظة عينها التي
تتواجد بها أهم وأخطر القيادات الإسلامية التي كانت تطالب برأسي
، وخصوصاً منطقتي ( الدقي ، والمهندسين) ،وكان لي فيهما صولات
وجولات ابان عهدي الاول ..فلما صرت مسيحي ، شاء الرب، أن يكون
مسكن أول أب روحي تعرفت عليه (أبونا بولس)، يقع في منطقة الدقي ،
وكذلك الكنيسة التي يخدم بها، فكنت دائم التردد على الكنيسة
والبيت !!
وعندما كشف الأعداء أمري ، وأراد أبونا بولس أن
يخفيني عنهم، اختار منطقة المهندسين ليخفيني فيها !!!!! وأين ؟
بالقرب من مسكن ( الشيخ صلاح أبو إسماعيل!) والذي كان يعرفني
معرفة وثيقة في حياتي الأولى!!! وحدث أن رآني بالفعل وهو داخل
سيارته، وحاول الإمساك بي ، لكني تمكنت من الهرب منه ، والذهاب
إلى منطقة أخرى . ثم احضر لي ابونا بولس شقة داخل منطقة صعبة
جداً تعج بأخطر الإرهابيين، بل وكانت قريبة جداً ( 15 دقيقة
بالسيارة ) عن مسكني القديم الذي كنت أقيم فيه وأنا شيخ مسلم !!!
وكان يسكن فيه المتهم الثالث في قضية اغتيال السادات !!!
18 – أنت الشيخ محمد النجار ؟
- لع - !!!
والعديد من زملائي الشيوخ الإرهابيين، فضلاً على
الجيران والمعارف من سكان المنطقة ، وقد رآني أحدهم بالفعل ،
وقال لي : أنت الشيخ محمد النجار!!!
فأجبته باللهجة الصعيدية قائلاً :لع ، أنت أكيد
غلطان ، ويخلق من الشبه أربعين ! فأنا مسيحي وأسمي صموئيل بولس
عبد المسيح ، مش محمد الحجار !!!
ولكنه لم يقتنع ، فرجع وقال لي : والهي العظيم
أنت الشيخ محمد النجار !؟
فقلت له وأنا أحاول أكتم ضحكاتي بداخلي :
وبعدين معاك بجا معاك يا بلدينا ! أنا عم باجولك
إن اسمي صموئيل بولس عبالمسيح ، وأنت عم تجول لي ، لع أنت محمد
النشار !!!
فتركني وهو يضرب كف على كف ويقول والهي العظيم
أنت الشيخ محمد النجار !!!
وعندما انتشرت اكمنة الشرطة في هذه المنطقة ،
والتي كنت اضطر المرور منها يومياً في طريقي الى عملي
بالبطريركية، قرر ابي الروحي ، ورئيس خدمتي ، أن يحضر لي شقة
قريبة من الكاتدرائية ، تقع ضمن منطقة خطرة هي الأخرى ، بل
البطريركية نفسها ، كانت قريبة جداً من مسكن أخطر طالبي نفسي !!!
فهكذا كنت أهرب منهم إليهم !!!
ومن الامور الطريفة ، أنه كانت تأتيني أحياناً
عناوين لحالات شارعة في الارتداد ، وتقيم ليس داخل هذه المناطق
فحسب ، ولا حتى في نفس الشوارع التي يقيم بها أعدائي ، بل وداخل
منازلهم نفسها !!! أذكر مرة أنه جاءت لي حالة تسكن في منطقة
المنيل ، وفي الشقة المقابلة لشقة واحد من اخطر طالبي نفسي !
وكنت متردد ، لكن جازفت ودخلت البيت ، وعندما وصلت للشقة تنفست
الصعداء إذ وجدتها مغلقة بالأقفال !!! فهبطت الدركات مسرعاً !!!
وهذه المرة ، هأنا أهرب ، إلى أسوأ مدينة مصرية
رأيتها في حياتي من حيث العداء للأقباط !!!
19– مدينة متعصبة
سمعت الكثير عن تعصب سكان هذه المدينة ، ولكنها
المرة الأولى التي أراها بنفسي ، وكان متعصبوها أقبح بكثير جداً
من كل ما سمعت ، وأنتهز الفرصة لانحني احتراماً لأقباطها الذين
يحملون صليب العيش بداخلها ، ولا يرغبون في تركها حفاظاً على
مقدساتهم .
+ وصلنا الى هذه المدينة المتعصبة في السابعة
صباحاً ، وحدث أثناء مرورنا في شوارعها ، أن رأيت الناس وهي تبصق
علينا !!! والبعض الآخر منهم كان ينظر إلينا نظرات عدوانية
قبيحة ، وقلت في سري : إذا كانوا بيعملوا كده لمجرد مناظرنا
المسيحية (أبونا بزيه الكهنوتي ،وانا بزي الاكليريكي ، وزوجتي
بصليبها الكبير الذي تعلقه حول عنقها) آمال ها يعملوا إيه بقى لو
عرفوا أصل الحكاية ؟ وعرفوا إني كنت شيخ في الجامع،وان زوجتي
كانت بنت شيخ ؟
ثم سألت نفسي : هل هذا مكان مناسب للهروب إليه؟
أو حتى لاستخدامه طريق مرور لمخبأي ؟
+ استضافنا الأب الكاهن الحبيب في منزله لمدة
يومين ، وفي فجر اليوم الثالث قمنا بمواصلة رحلة الهرب الطويلة ،
لكن هذه المرة ليس بالقطار ، ولا بالسيارة ، بل بالمركب في نزهة
نيلية طويلة !!!
+ بلغنا قرية نائية تقع أسفل أحد الجبال ، واستقر
بنا المقام داخل بيت معزول للغاية، لكنه آمن جداً وبقينا
مختبئين بداخله لمدة شهر كامل.
ثم تركنا الأب الكاهن ، عائداً إلى حيث يقيم هو
وأسرته، وكنا ، زوجتي وانا ، في غاية التعب والإرهاق ، فصلينا
للرب شاكرين احساناته معنا ، وحمايته لنا من الأشرار ، ثم نمنا
نوماً عميقاً .
20– لا
مصر هي القسطنطنية !!! ولا الأقباط هم الروم !!!
استيقظت من نومي فجراً ، ثم ارتديت الزي
الاكليريكي، وعلقت الصليب على صدري ، وأخذت كتابي المقدس في يدي
، ثم صعدت على سطح البيت ، لأترقب الشمس وهي تشرق. وشكرت الرب
كثيراً لأن شمسنا لا تزال تشرق، بعدما غاب شروقها عن شعوب مسيحية
كثيرة ، شعوب كانت اكثر منا عدداً ، وأقوى منا عتاداً ، شعوب
كانت لها إمبراطورية قوية مترامية الأطراف ، تصول وتجول دون أن
يعيقها عائق ، أسطولها يجول البحار ، وخيولها ومركباتها تطوف
البلاد والامصار، تهزم الفرس ، وتتوغل حتى آسيا ، وتفرض سيطرتها
التامة على البحر المتوسط ، أباطرها يسكنون أفخم القصور ،
وشعوبها تتباهي بتاريخها العتيد ، وفرسانها يتمخطرون بخيلاء ،
واضعون أحذيتهم فوق أعناق الأعداء ..إنها القسطنطنية
المنيعة..أنهم الروم الذين لا ينهزمون .
ولم يظن أحد أن شمسها سوف تغيب ذات يوماً ، ورغم
ذلك فلقد غابت إلى الأبد !!!
سقطت القسطنطنية ، وأصبحت تركيا . وانهزم الروم
وأصبحوا مسلمين . ولم تعد لهم بقية في القسطنطنية ، وصار
بطريركهم الملقب ب " المسكوني" يجلس وحيداً بلا سكان !!! وتحولت
جل كنائسها إلى مساجد ، ومتاحف .. وهذا ما يحاول الوهابيين
تكراره معنا في مصر !!!
لكن فاتهم إن: لا مصر هي القسطنطنية ، ولا
الأقباط هم الروم؟؟؟
فمصر القبطية مقدسة ، وشعبها القبطي لا ينهزم ،
والدليل على ذلك أنه لا يزال متمسكاً بمسيحيته ، رغم كل ما لاقاه
من مذابح على أيدي المسلمين الغزاة منذ 14 قرناً ، وحتى اليوم .
فنحن شعب عنيد ، والاضطهاد يضاعف من عنادنا ، وكلما وجهت إلينا
السهام ، كلما قلنا : هل من مزيد ؟!
21 –
نحن شعب ولد من رحم المعاناة
ظللت جالساً مكاني على سطح البيت حتى انتشر ضوء
النهار في كل مكان ، فنظرت نحو الأفق فرأيت الصحراء الشاسعة
بجبالها الشامخة ، فتذكرت آبائي الأفذاذ ..
فهنا عاشوا ، وأناروا البرية بتقواهم ، هنا كان
ملاذهم في وقت اشتداد الاضطهادات ، هنا ولد البابا أثناسيوس ،
والبالبا بنيامين ، ولدوا من رحم الاضطهادات والمطاردات والنفي ،
ولدوا من رحم الصحراء .. من رحم المعاناة.وأنا أيضاً ، ولدت من
هنا . فالصحراء ليست غريبة عني ، وسبق أن عشت بداخلها سنة كاملة
في بداية إيماني ، وبداخلها عرفت لماذا أنا قبطي؟ ولماذا أهدر
المسلمون دمي ؟ ولماذا ينبغي علي أن أكون رجلاً كما كان آبائي
وأجدادي؟
وعدت إليكم بعد مضي سنة لتفاجئون بالشيخ ، وقد
أصبح خادماً مسيحياً . أما هذه المرة ، فغيابي عنكم لن يطول أكثر
من شهر ، وبعدها سأعود إليكم لتفاجئون بهذا الخادم وقد أصبح
مقاتلاً رشيقاً !! وخصوصاً بعدما خففتم من أثقالي ، فالبيت
وأخذتموه ، وحررتموني من عبئه !!! وأما زوجتي ، فسوف أودعها في
مكان مسيحي آمن ، لتشهد لربها وسط بنات جنسها .. لن تسألني بعد
اليوم عن سبب تأخري عن البيت، ولن تعاتبني لتناولها طعام العشاء
بمفردها .. لقد حررتموني من قيودي أيها السادة، فلا بيت ولا غيط
! ولا زيد ولا عبيد !!! سأتفرغ لكم تماماً أيها السادة ، ستكون
الكنيسة هي مسكني ،ليل نهار ستجدونني فيها ، متأهباً للتحرك ،
لأنقاذ طفل قبطي برىء اختطفتموه ، أو فتاة مراهقة غررتم بها ، أو
إعادة فقير معدم اشتريتموه باللقمة والكسوة.. لم أعد الأستاذ
صموئيل!، ولم تعد خدمتي خدمة مكاتب! ، واعتباراً من اليوم فلن
تعرفون لي مقر ثابت ، انتهى زمن الرسميات وولى . سوف يكون اللعب
بيننا على المكشوف ، انتم يا من خرجتم علي لترهبونني ، وحاولتم
اصطيادي لتذلوني ، ها أنا قد قبلت التحدي ، وسوف ترون ماذا يمكن
للقبطي الأعزل ، المشرد ..أن يفعله ، ليس بسيف الشر ، بل بصليب
القوة والصمود والبذل والتضحية حتى النفس الأخير .
22 –
فص ملح وداب !!!
+ استيقظت الناس في القاهرة فلم تجد صموئيل
اين ذهب صموئيل !؟ لا أحد يعلم ؟ ماذا حدث له ؟
لا أحد يعلم .
فلقد اختفى في ظروف غامضة ، وكأن الأرض انشقت
وابتلعته، كأنه فص ملح وداب !!!
لم يكن هناك أحد من البطريركية يعرف مكاني سوى
أبونا وحده.
وهو لم يرد على اي استفسارات الآخرين لمعرفة
مكاني، ومنهم آباء كهنة ، ومنهم شخصية بروتستانتية كبيرة
تربطني به علاقة أخوية وثيقة. وأصبح الجميع يتلاش
مجرد سؤال أبونا عني ، بعدما طالب الجميع بعدم ذكر اسمي على
ألسنتهم ( لدواعي الحكمة).
أما الثلاثة ( الرجلان والمرأة )الذين وشوا بي،
فلقد ظنوا إنني سقطت في أيدي مضايقي ، ففرحوا واحتفلوا بهذه
المناسبة السعيدة !
الرجلان :
+ زمانهم دولوقت عمالين يضربوه على قفاه !!!
+ كان عامل فيها راجل ؟ خليه يشرب بقى !!!
+ انتم سمعتم اخر خبر !؟
صموئيل أعتقلوه و(أسلم ) داخل المعتقل بعدما
هددوه ببهدله مراته أمام عينيه !!!
+ راح وريحنا
ثم قاما بتغيير معالم المكتب ، فالشماس الخائن
استولى على مكتبي ، واحضر مكتب آخر لشريكه الساعاتي! واستولى على
خاتم المكتب ، وكذلك المفاتيح ، وبداً يخطط في الاطاحة بقدس
أبينا القمص حزقيال وهبه !!! وامور اخرى كثيرة مؤلمة ، تؤكد لنا
مرارة الخيانة التي تتعرض لها الكنيسة من بعض المحسوبين عليها
انها ساعة الظلمة وسلطانها . لكن فات الجميع انه
مهما طال الظلام الا ويعقبه نور النهار .
اما المراة ، فلقد ذهبت الى جارة لها ، وكانت
ابنة هذه الجارة من احدى الحالات التي اتابعها ،وكانت نائمة ولكن
الرب اوقظها على سماع اعترافات المراة، فتظاهرت بمواصلة النوم
لتعرف تفاصيل ما حدث : + صموئيل خلاص راح وانتهى زمانهم قبضوا
عليه وبيضربوه بالجزمة ابن ال ....
حب يعمل فيها قسيس ، أهو راح في حيص بيص ! وامباح
كانت فيه حفلة في بيته : امن دولة ، ومخابرات ، وشيوخ ، وجماعات
، واهل مراته .. وانا عرفت أنهم سياخذوها منه ويسلموها ليهم
علشان يقتلوها لارتدادها عن الاسلام معاه ، وأما هو ، فقالوا
أنهم (هاينفخوه وهايفضلو يعذبوا فيه لغاية ما يقول أنا مسلم
،وبعدها هيسلموه بطريقة معينة للجماعات لتقتله ...)
أما الولد المسلم (ن)، فقال :
النصراني النجس ابن ال...، واد صايع ، ومحدش عارف
له مله ولا دين ، كان عامل فيها فتوة ، وضربني في شارع العطار ،
وأخذ مني البنت (..) أهو زمانه دولوقت في المديرية وقفاه بيقمر
عيش من كترة الضرب !!!
23 – بطولة ورجولة أبي الروحي
+ تطرق هذا الكلام المؤلم الى مسامع امي (
القبطية الصعيدية الأصيلة) الأرملة ، المسنة ، المريضة (شبه
الكفيفة) فانهارت باكية ، ولانها غير قادرة على السير ، فأرسلت
شقيقتي الصغيرة إلى البطريركية لتسأل أبونا عن صحة ما يقال عني.
فذهبت أختي للبطريركية ، وألتقت بقدس أبونا ،
وقالت له من بين دموعها :
( الناس بيقولوا أنهم قبضوا على أخويا صموئيل ،
وأنهم قتلوه ، وأخذوا منه مراته وسلموها لأهلها ليقتلوها هي كمان
، وأمي هاتموت من شدة البكاء ، وعاوزة تعرف أخويا حي ، ولا ميت ؟
فهدأ أبونا من روعها ، وانتحى بها جانباً ، ليقول
لها :
متخافيش يا بنتي ، أخوكِ بخير ، وأنا عارف مكانه
، وطمئني أمك ، وقوليلي لها أبونا بيقولك :
طول ما أنا عايش ، محدش ها يقدر يمس شعرة واحدة من رأس صموئيل
ابني.
+ تأملوا يا أخوة يا أقباط في هذه العبارة ،
لتعرفون جانباً يسيراً من بطولة ورجولة آباء كنيستنا ، ربنا
يحميهم ويحافظ عليهم .
أبي الروحي عمره ما تخلى عن أي قبطي يمر بضيقة
بسبب الصليب ، لو كان معتقل يرسل من يسأل عنه ، ويقيم له
المحامين ، ويهتم بأسرته.
أبونا مش بيخاف من أي مخلوق ، وأعدائي يعرفون ذلك
جيداً ، ولهذا كانوا يعملون له الف حساب .
+
طول ما أنا عايش ، محدش ها يقدر يمس شعرة واحدة من رأس صموئيل
ابني.
لا
تعرفون ماذا كان شعوري عندما التقيت بأختي بعد
شهر ، وأعادت على مسامعي هذه العبارة المؤثرة التي سمعتها من
أبونا ، أذكر ساعتها ، أنني هتفت من أعماقي قائلاً ( كتر ألف
خيرك يا أبونا ). ولا زلت أرددها حتى اليوم (بعد مضي 14 سنة) ،
ممزوجة بدموع الحرمان من محبة وعطف هذا الأب الراهب القبطي
العظيم .
ثم قدم لها مظروف به مبلغ من المال لتقديمه
لأمي ، وقال لها :
سلمي على ماما وقوليلي لها أنه من الحكمة أن يبقى
صموئيل في مكانه حتى يزول الخطر، وأعرف إيه اللي حصل بالضبط ،
وبعدها ساسمح له بالرجوع ، وكلكم هاتشفوه .
( التكملة في المقال القادم) .