مهما طال بي الزمن وانزلقت السنون تحت سفح العمر، لا تفارقني ذكرى نسائم ليل الصبا تهفو إليّ معطرة بعطر الحلم. أتذكر سماء القاهرة مرصعة بآلاف النجوم. وسط صمت الأحلام تلتقط أذناي همهمة بعيدة آتية من دار السينما الصيفية التي كانت قريبة من بيتنا. أتذكر صوت محمد عبد الوهاب آتيا من شرفة قريبة فتحت قلبها لرقة الليل الساكن. تأسرني اللحظة وتحملني كلمات أغنية ما زالت مفضلة لديّ إلى فضاء الأمل: «حبيبي ياللي خيالي فيك.. ياللي حياتي حتكمل بيك. مين انت؟ معرفشي.. فين انت؟ معرفشي».
تجربة عمرها قرابة 50 سنة، وقصة اكتملت فصولها أو كادت. ويكفي أن يعرف القارئ أنني وجدت ما كنت أبحث عنه بعد صبر طويل طويل.
يخدعك من يقول إنه لا يحتفظ في دهاليز الذكرى بقصة حب أول. فالحب الأول ابتهال ورجاء وسمو في مرحلة يدير فيها المرء ظهره لألعاب الطفولة ويخطو نحو عالم مليء بالأسرار والأخطار يختلط فيه المعقول واللامعقول... الخيال جامح والواقع مفترس والناجي من الصراع بينهما محظوظ.
في صباي كنت أدهش من جدتي التي كانت إذا سمعت قصص المحبين رفعت يديها إلى السماء وقالت: الحب؟ ربنا يكفينا شره.
فهل الحب حقا شر مستطير نستعيذ بالله منه؟ إن لم يكن شرا فلماذا خلد تاريخ الأدب قصص الحب ذات النهايات المأساوية؟ هل هناك أشهر من روميو وجولييت؟ ولماذا آثر شكسبير أن يموت الحبيبان منتحرين بعد أن استحال الوصال نتيجة لصراع أسرة منتجيو وأسرة كابيوليت؟
ولماذا فضل والد ليلى العامرية أن يدفع بابن أخيه قيس إلى الموت والجنون حين زوج ليلى بآخر. كان قيس الذي عاش في فترة حكم مروان بن الحكم نشأ مع ليلى في الطفولة إلى أن حجبت عنه في الصبا، فطلبها للزواج ورفض الطلب، فهام على وجهه ينشد الشعر ويأنس بالوحوش إلى أن وجد ميتا بين الأحجار.
في العصر الحديث خلد غابرييل غارسيا ماركيز، الكاتب الكولومبي الحاصل على جائزة نوبل للأدب، ملامح الحب الأول في روايته «الحب في زمن الكوليرا». وهي رواية تروي قصة حزينة في زمن حزين. بطلاها فلورينتينو وفيرمينا، مراهقان أغرتهما حلاوة الحب فتبادلا الرسائل إلى أن ضبطت فيرمينا متلبسة بكتابة رسالة إلى الحبيب فطردت من المدرسة. وقرر أبوها التاجر أن يأخذها بعيدا على أمل أن تتزوج بمن هو أكثر ثراء ورقيا من فلورينتينو. غير أن فيرمينا تظل على اتصال بحبيبها سرا ولمدة ثلاث سنوات. ثم يوصل لنا الأديب المفارقة المأساوية حين تتجاوز فيرمينا جموح المراهقة وترى حبيبها عن بعد في السوق، فتدرك أنها لا تعرفه حقا وإنما أحبت وهما محوره حبيب لا ملامح محددة له، فتقرر أن تنهي العلاقة. ثم تتزوج طبيبا ثريا وتعيش معه 52 عاما حتى وفاته. أما فلورينتينو فيظل وفيا لذكرى الحب الأول. وتتحول مشاعره إلى هاجس وقوة دافعة تحرك سلوكه سرا وتحدد طبيعة علاقاته مع النساء. ثم يسمع بوفاة زوج فيرمينا فيتحرك الأمل ويبدأ سعيا حثيثا للتقرب منها بعد أن تجاوز كلاهما السبعين. وكان العالم تغير والكوليرا تفتك بالناس وابنة فيرمينا التي تجاوزت منتصف العمر تعد فكرة الحب بعد السبعين قذارة ما بعدها قذارة. وهنا تحتدم المعركة بين الخيال الجامح والواقع المفترس، لتنتهي الرواية نهاية فيها ألم وسخرية واعتراف بانهزام خيال المحبين.
قد يعد البعض اهتمامي بأدبيات الحب في مثل عمري تفاهة وهروبا من واقع الحياة كما يعيشها ملايين الناس في أوطانهم فقرا وقمعا وثورات تحرق الأخضر واليابس. غير أني أحمد الله كل يوم أن وهبني تلك المساحة الفكرية التي تسعفني كلما شاركت أصدقائي المثقفين نقاشا سياسيا يطالب بالعدالة والحرية. لم أعد أصدق أحدا ربما لأن للحقيقة وجوها عدة. يصيبني ما يشبه اليأس من تضارب الرؤى والأفكار فأتذكر مقولة الزعيم سعد زغلول: مفيش فايدة.
بت أبغض الدوافع الميكيافيللية التي تحمل إنسانا وهبه الله عقلا يفكر وقلبا ينبض ببيع مبدأ في مزاد علني نظير مال أو منصب أو حظوة عند رئيس أو زعيم.
لو استسلمت لفوضى الجدال السياسي القائم لأصبت بما يشبه الجنون.
الشرق الاوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com