لم أحلم يوماً بأن أكون طبيبة، كرهت الأطباء فى طفولتى، لا يدخل الطبيب بيتنا إلا فى المصائب، الموت أو المرض المميت الذى لا يشفى بالأسبرين أو البنسيلين أو لبخة الأنتوفلوجيستين وغيرها من العلاجات الناجعة التى تقوم بها أمى وأبى وجدتى.
أول طبيب رأيته كان عمرى سبع سنوات، فتح فمى بشىء يشبه الكماشة، كمش لسانى، انتهز فرصة عجزى عن النطق وقرصنى فى ثديى، لم يكن لى ثدى بعد، لكن القرصة أوجعتنى فصرخت، قال الطبيب لأمى أننى أصرخ بدون سبب، وأن صراخ الأطفال بدون سبب قلة أدب، قلت لأمى إن الطبيب كداب، ولم تصدقنى أمى، كانت تظن أن الأطباء لا يكذبون.
كنت أحب الموسيقى والشعر والأدب، أبى قال إن الأدباء والشعراء يموتون فقراء أو فى السجن، والأفضل أن أدخل كلية الطب حتى لا أموت من الجوع أو فى السجن، وأيضاً لأعالج الأسرة والأقارب بالمجان، حصلت على المجموع الأعلى فى العلوم فدخلت الطب، كانت الدراسة فى الكلية عقيمة بليدة خالية من الإبداع تصيب العقل بالبلادة، والأساتذة غلاظ القلوب لا يرحمون المرضى الذين نتعلم عليهم فى عنابر مستشفى قصر العينى، الأساتذة يعاملون الطلبة باحتقار، ويختلسون النظر الى صدور الطالبات، ينطقون اللغة الإنجليزية بلهجة ركيكة، يتباهون بسياراتهم وبدلهم الأنيقة، قليل منهم كان إنساناً رقيقاً متواضعاً ينظر إلى مهنة الطب كرسالة إنسانية، أكثر من وسيلة للثراء والصعود الطبقى والسياسى.
اشتغلت طبيبة رغم أنفى بحكم التخرج وضرورة العمل، انتقلت من جراحة الصدر والطب العلاجى إلى الطب الوقائى ثم الطب النفسى، باعتباره أقرب التخصصات للأدب والفلسفة وعلم النفس، لكنى لم أشعر أبداً بانتماء لمهنة الطب أو للأطباء فى أى تخصص، أغلقت عيادتى الطبية أكثر من مرة.
لم أشعر أيضاً بانتماء إلى مهنة الكتابة أو الأدباء أو أساتذة الجامعة أو الصحفيين أو السياسيين أو أى مهنة أخرى، هناك شىء فى المهن يقتضى المساومة وحسابات المكسب والخسارة، لا تخلو أى مهنة من عنصر تجارى، أقبح لحظة فى حياة الكاتبة (أو الكاتب) حين يحدث اللقاء مع الناشر، ويبدأ الحديث عن بنود العقد، المقدم والمؤخر و..و.. إلخ، أشبه بعقود الزواج، كنت أخسر دائماً، بسبب نفورى من عملية البيع والشراء، ينتصر التاجر الناشر وينهزم الكاتب أو الكاتبة.
خسرت الكثير من حقوقى القانونية لأننى لا أقرأ العقود ولا حسابات البنوك، ولأن كراهيتى للمحامين لا تقل عن كراهيتى للأطباء، أفضل المرض والموت عن رؤية الأطباء أو دخول المستشفى، لكن أتعاب المحامين ورائحة المحاكم تنفرنى أكثر من رائحة المستشفيات.
يراودنى دائماً السؤال: هل يمكن تغيير المهن الحرة؟
سؤال ساذج، مثالى أو غبى، بلغة محترفى السياسة والأحزاب ورجال الأعمال وأصحاب المهن الحرة، لكنه سؤال وارد لأى إنسان، خاصة فى فترات الثورات، وأصوات الملايين تدوى يسقط النظام، يدور السؤال فى الرأس: هل تتغير المهن مع تغير النظام؟
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com