بقلم: القمص أثناسيوس فهمي جورج
حافظت كنيستنا على سيرة شهدائنا بوضع سيرتهم في السنكسار لتكريمهم كتيجان مجد وقلائد بطولة لجهاد ُمظَفَّر، وكدَرْب مُوصِّل للمدينة التي لها الأساسات في الوطن السماوي الأفضل. ويُعتبر السنكسار دليلاً وكتالوجًا لمعالم رحلة تسير نحو الله والملكوت السماوي.. وهو يحتوي على خريطة تحفظ جهادهم وانتصارهم حتى غلبتهم وعبورهم.
وإنْ كُنَّا بعد مذبحة عيد الميلاد في غاية الأسَى والكَمَد بسبب القتل والإبادة المتواصلة وذلك الاستشهاد الجماعي, إلا أن الله يُنهضنا للتذكرة ويُنير أمامنا طريق الحياة والخلود, ويجعل الرجاء يُشرق فينا كمصباح منير في موضع مظلم, كي لا نقف عند البكاء والحزن بل لنجتاز ونفهم أن الآتي سيأتي ولن يبطئ, وهو وشيك أن يختم هذا الزمان ويُنهي مصارعة قوات الحجيم والظلمة.
لقد عاصرنا في هذه السنين القليلة استشهاد شهداء كثيرين في التوفيقية وكفر دميان والقوصية والكشح والفكرية والعياط وسمالوط وديروط والأسكندرية والزيتون ونجع حمادي، وسالت دماء غزيرة وعزيزة خَضَّبت كل أرجاء مصر لشهداء أبرار وبررة, لُكِموا وسُلِبوا وأُهْدِروا ونُهِبوا وقُتِلوا وعُذِّبوا, لا لسبب إلا لكونهم مسيحيين. تعمدوا بدمائهم واصطبغوا بها لأجل الشهادة التي كانت عندهم, ثم ذهبوا إلى البيت الأبدي الغير مصنوع بيد.
وورثوا ملكوتًا وعرشًا وقُدْسًا وعُرْسًا لا يَفْنىَ ولا يضمحل, فما أتْفَهُ الزمن عندما تقيس به أعمال الروح... وما أعظم أيقونات هؤلاء الشهداء اللابسين الثياب البيض اللامعة وفي أيديهم الشبع والسرور وكل مشتهيات الاتقياء, بعد أن ذُبِحُوا بلا ذنب اقترفوه سِوىَ أنهم لا يدينون بما يدين به غيرهم.
أليس من يُسْفَك دمُه من أجل الاعتراف العلني يستحق التقنين الكنسي كشهيد وكمعترف, فالتاريخ الكنسي يذكر أنه حتى الموعوظون قبل معموديتهم يُحْسَب لهم استشهادهم ما داموا قد نالوا (الصبغة) معمودية الدم....فكم بالحري هؤلاء الشهداء المؤمنون المعمدون المستنيرون.
إنني أذكر أن القمص غبريال عبد المتجلي تم تهشيم رأسه بالبلطة لرفضه النطق بالشهادتين, وعند استلام رفاته من المشرحة لم تكن له جمجة, وهناك شهداء آخرون قُطِعتْ ألسنتهم وطُعنوا في صدورهم لأنهم أصَرّوا على نفس الرفض.
لقد قال قداسة البابا شنودة الثالث عن شهداء نجع حمادي (إنهم شهداء بالحقيقة وأن دمهم يصرخ عند الله وأن الله اتخذ موقفًا لدمائهم البريئة) وها عشرات الآلاف التي خرجت لتشهد لمذبحتهم ولأجل تكريمهم في كاليفورنيا وسياتل ونيويورك وملبورن وسيدني وإنجلترا وفرنسا وألمانيا واليونان وهولندا وقبرص والنمسا وفي كل مدن العالم، وكذلك وقفة الشموع المضيئة التي وقفتها الآلاف أمام المقر البابوي, إنما تساهم جميعها في الإجماع الشعبي بل والعالمي لتقنين هؤلاء الشهداء في سنكسار الكنيسة المقدسة خاصة بعد هذا الإجماع الموضِّح لليقين الخاص من قِبَل هذه الجموع حول استشهادهم.
فعلى المتخصصين في الأدب الاستشهادي وفي أعمال التاريخ أن يحفظوا هذه السير في وديعة خزانة الكنيسة وذاكرتها, لأن شهادة دمهم حفرت على جَبين الكنيسة المعاصرة لَحْنًا حزينًا مجيدًا صادقًا, وصار جزءًا حيًا من تراث وواقع زماننا, وستبقى سيرتهم مُخَلَّدة كما خُلِّدت أرواحهم, إذ بعد أن عاشوا الاستشهاد البطيء (الطويل الأمد) مع بني جنسهم بلغوا حتى سفك الدم بالرصاص وتمزقت أجسادهم.... فَمَوْهُوم كل من يظن أن أعمال النعمة في أزمنة الاستشهاد هي من أعمال الماضي فقط, لأن الله سيظل يتمم ما وعد به, وهو حي.... ووعده حق, وهو أمس واليوم وإلى الأبد.
وكما كتب الأولون من أمثال القديسين يوليوس الأقفهصي ويوحنا البرلسي وبطرس الجميل لسير الشهداء ينبغي أن تُدَوَّن سير هؤلاء المعاصرين ليستمر ذكرهم حتى تكتمل دورات التاريخ, فيُسَجَّل أنه في سنة 1727 ش وفي عصر الخليفة محمد بن حسني والي مصر قد أطلَقَ يد الغوغاء والسفهاء والرعاع لحرق وسلب ونهب وقتل الأقباط وتصفيتهم بالبطيء.... وقد سجل الأقباط وبطريركهم مَلْحَمَةً من الصمود والثبات والتمسك بالوصايا الإلهية منقطع النظير.
إن الظهورات الروحية السابقة لهذه المذبحة كانت تعزية وثباتًا ورسالة تقوية لما هو آتٍ, ولما هو عتيد أن يكون, حتى لا نرتاع إذ ليس المنتهى بعد, وحتى لا تُسرق أكاليلنا, بعد أن صار ذبحنا على الهوية أي بالأسماء التي نحملها, حقًا إننا نواجه قوات ظلامية, لكن ها هي غلبتنا وذبيحة إيماننا.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com