كان هناك رجل عجوز يتوكأ على عصاه ويجلس تحت شجرة صنوبر خضراء مطرقاً يفكر. أراقبه منذ عام من شرفة بيتى، منذ كان طفلا صغيراً، وحتى صار عجوزاً يوشك على الرحيل. نزلتُ إليه وسألته عن حكايته، فقصّ علىّ القصّة كاملة.
أنا يا ابنتى رجلٌ طاعنٌ فى العمر، لم تبق لى فى الحياة سوى ساعات، أعود بعدها إلى أبى الذى يمسكُ فى يديه دفتراً ضخماً يدوّن فيه كلَّ ما يجرى وما قد جرى منذ عرف الإنسانُ الكتابةَ والتدوين. بوسعكِ أن تقولى إننى رجل يسكن «منزلةً بين منزلتين، » كما يقول الُمعتزلة. لستُ كافراً تامَّ الكفر، ولا مؤمناً كاملَ الإيمان. بدأتُ حياتى فاسقاً شريراً، أنثرُ الحزنَ والظلام فى كل بيت، وأُظلّل كلَّ وجه ألتقيه بريشة القنوط والغمّ. غشوتُ عيونَ المصريين بعتمة انعدم معها الأملُ فى إشراقة غد جديد.
وفجأةً، حينما بدأ العمرُ يتسرّب من بين أصابعى، وتداعت تداعياتُ منتصف العمر، جلستُ وحدى أفكّر. رحتُ أُحصى الأمهاتِ اللواتى جعلتُ منهن ثكالى يتفرسن كلَّ مساء فى صور أولادهن الراحلين مزينة بشرائطَ سوداء. عددتُ وجوه شباب أزهقتُ أرواحهم محفورة على جدران ميادين مصر.
رحتُ أُحصى القلوبَ التى بذرتُ فيها الألمَ. فدثّرنى الخوفُ من العودة لأبى مُحمّلا بكل تلك الأوزار والخطايا.
أبى لا يسامحُ. اسمه التاريخ. خصص فى كتابه صفحاتٍ سوداءَ قاحلةً ينفى إلى ظُلمتها أبناءه العاقّين، مثلى، ممَن أساءوا الأدبَ ولم ينهجوا النهج القويم. أنا يا صغيرتى الابنُ الضالُّ الذى أشفق من عقاب ريشة ماعت العادلة، فقرر أن يُحسن فيما تبقى له من أيام فوق الأرض.
قرب منتصف عمرى، فى شهر يونيو، أمسكتُ ممحاةً وحاولتُ أن أمحو ما كتبته فى الشهور الستة الماضية. لكننى أخفقت.
فرفعتُ عينىّ إلى أبى الشيخ. فابتسم وقال: «ما حدث قد حدث، ولا يمكنكَ محوه بممحاتك. فقط بوسعك أن تكتب شيئاً صالحاً يُطوّب سيرتك فى أفواه الناس. فـ(إن الحسناتِ يُذهبن السيئاتِ)، كما يقول القرآن»، فى ٣٠ يونيو، اليوم الذى يشطر عمرى نصفين، أمسكتُ قلماً أخضرَ صافيًّا وبدأتُ أكتب. علّكم تسامحوننى بعدها على رعونتى فى بداية حياتى. وها أنا ذا، كما تريننى، أجلسُ تحت هذه الصنوبرة، أنتظرُ العمَّ الطيب الذى يحمل على ظهره مِخلاةً زاخرة بالفرح.
وما إن ينتهى من توزيع هداياه على أطفال مصر الفقراء، أنهضُ معه ليأخذنى إلى التاريخ، لأنام وأستريح، قابلاً بصدر رحب ما تمطروننى به من لعناتٍ أو دعوات طيبة. فأنا أستحقُّ كليهما.
وقبل أن يحمل هذا العامُ العجوزُ عصاه ليرحل، ويلوّح لنا مودّعاً، أودُّ أن أودِع فى جعبته بعضَ الكلمات والأسرار وهمسات الصفح.
أقولُ له إننا سامحناه. لأنه غسل أوّلَه بآخره. شكراً لمنتصف عمره الذى أهدانا الفرح. شكراً لكل خيط أحمر، جاور خيطاً أبيض، جاورا خيطاً أسود وشكلوا معاً علم مصر.
وشكراً لكل طفل تعلّم فيه أن يحمل علمَ مصر الشريف ليكبرَ ويغدو شابًّا جميلا يبنى ولا يهدم. شكراً لكل قطرة دم طاهرة أُريقت فوق تراب مصر لتبنى غداً أجمل. شكراً لكل مواطن ومواطنة خرجوا فى منتصف هذا العام ليكتبوا مستقبلا رغداً لمصر. شكراً لخمسين مصريًّا ومصرية كتبوا لمصر دستوراً محترماً يليقُ بمجدها العريق وهويتها الناصعة. شكراً لكل من اختار النورَ ونبذَ الظلام.
نقلآ عن الوطن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com