فى الحملة الدائرة منذ أواخر عام ٢٠١٣، من أجل حشد المواطنين وتعبئتهم للتصويت فى الاستفتاء على مشروع الدستور بـ«نعم»، تستخدم وسائل الإعلام شتى الحوافز، من شرح تبسيطى لمواد الدستور، إلى الإيحاء بأن هذا التصويت هو تصويت على ثورتى ٢٥ يناير ٢٠١١، و٣٠ يونيو ٢٠١٣. كما أن مثل هذا التصويت بـ«نعم» هو تصويت ضد «الإرهاب»، وضد «الإخوان المسلمين»!
وأعتقد أن الحملة بهذه المُغالاة تخلط الحابل بالنابل. وتنطوى على إجحاف كبير بجماعة الإخوان المسلمين، التى لا تملك فى الوقت الراهن وسائل إعلامية مُساوية فى القوة، أو مُضادة فى الانتشار. كما أننى من المؤمنين بالقول المأثور «الضرب فى الميت حرام».
أكثر من ذلك، فإننى ما زلت أنظر للإخوان المسلمين كفصيل وطنى، مثلهم مثل اليساريين، والناصريين، والليبراليين. وفى مُقتبل شبابى، قُبيل ثورة يوليو ١٩٥٢، كنت أتردد على شُعبة للإخوان المسلمين فى شارع السكة القديمة، بمدينة المنصورة، كل ثلاثاء، لأستمع إلى أحاديث نشطائهم مثل الدكتور خميس حميدة، أو الأستاذ صلاح الشربينى.
وكان المبنى المُقابل لشُعبة الإخوان المسلمين، فى نفس الشارع، هو مقر «مصر الفتاة» التى كانت تعتبر نفسها الحزب الاشتراكى. وكثيراً ما كنت أنا وشقيقى الأكبر حامد، نتردد على ذلك المقر أيضاً للاستماع إلى خُطبائهم، خاصة إذا حضر زعيم الحزب الراحل أحمد حسين، لزيارة المنصورة. وكان الرجل خطيباً مفوّهاً، يُشعلنا حماساً ضد بقايا الاحتلال الإنجليزى فى القناة، وضد الإقطاع والرأسمالية المُستغِلة.
وحينما يسألنى كثيرون باستغراب: كيف أوصلت الإخوان المسلمين بالولايات المتحدة وبالغرب عموماً؟ فإننى لا يمكن أن أغفل هذه الخلفية التى ذكرتها، فى الفقرة السابقة، أى النشأة فى مصر الليبرالية، فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، حيث كانت تيارات وأفكار وأحزاب مختلفة ومُتنافسة تتعايش معاً، لا فقط فى نفس الشارع، ولكن أيضاً فى نفس الأسرة، دون أن تُحاول أى منها أن تُلغى أو تُقصى الأخرى تماماً من الساحة السياسية. وهو ما صوره كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، فى إحدى روائعه (أسرة السيد أحمد عبدالجواد). فكثير من العائلات المصرية فى ذلك العهد الليبرالى (١٩٢٠-١٩٥٢) كانت تضم تحت نفس السقف، وفديين وشيوعيين و«إخوان مسلمين».
ولم يُفسد تلك التركيبة الليبرالية المُتعايشة إلا الإخوان المسلمون، حينما لجأوا إلى العُنف فى أواخر أربعينيات القرن العشرين، حيث بدأ عُنفهم باغتيال أحد شيوخ القُضاة، وهو المستشار أحمد الخازندار، ثم بعد ذلك رئيس الوزراء المصرى محمود فهمى النقراشى باشا؛ وهو ما ثبت من كل تحقيقات الشُرطة والنيابة ومحاكمات القضاء. وقد دفع الإخوان الثمن المُناسب على ما اقترفوه من جرائم سياسية فى العهد الملكى.
وكان المأمول فيهم أن يكونوا قد تعلموا الدرس، فيكفّون عن استخدام العُنف ضد الدولة وضد خصومهم السياسيين، خاصة بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، التى تخلصت من العهد الملكى كله، وأعلنت مصر جمهورية، بل أعادت مُحاكمة الإخوان وبرّأت ساحتهم، وردّت لهم الاعتبار. ومع ذلك، فقد عاد الإخوان إلى سيرتهم الأولى، باستخدام العُنف ضد المُختلفين معهم سياسياً.
وظلت الجماعة محظورة لحوالى أربعة عقود، إلى أن استردت شرعيتها وصحتها فى أواخر عهد الرئيس أنور السادات (١٩٧٠-١٩٨١). ولكنها فى عهد الرئيس حسنى مبارك، ومنذ ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، تحولت من جماعة محظورة إلى جماعة مغرورة، ابتزت المجلس الأعلى للقوات المُسلحة، فى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، حيث كانت التصفية قد تمخضت عن فوز المُرشح الإخوانى د. محمد مرسى والفريق أحمد شفيق. ولما كان الفارق فى الأصوات طفيفاً لا يتعدى عِدة ألوف، ولكن لصالح أحمد شفيق، فإن الإخوان هددوا المجلس العسكرى بنسف المتحف المصرى، ومُجمع التحرير، ومبنى الجامعة العربية، ومبنى الجامعة الأمريكية، وهى المبانى الأربعة الرئيسية، فى وسط القاهرة.
ولم يرغب المجلس العسكرى فى تهديد هذه المؤسسات الحيوية، بل وافقه فى ذلك المُرشح أحمد شفيق، الذى آثر الخسارة الشخصية على تهديد الأمن الوطنى، فأعلنت النتائج لصالح المُرشح الإخوانى محمد مرسى.
وها نحن مرة أخرى نعود إلى نفس المُربع. فالإخوان يُحرّضون الناس ضد الجيش، وضد المشاركة فى الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد. ونحن بدورنا، نحض المصريين جميعاً على المشاركة، لا فقط فى الاستفتاء على الدستور، ولكن أيضاً فى الانتخابات الرئاسية، والانتخابات البرلمانية القادمة خلال النصف الأول من عام ٢٠١٤.
وكلما سمعت صوت كوكب الشرق، أم كُلثوم، تصدح بكلمات تلك القصيدة الرائعة، «وقف الخلق ينظرون جمعياً كيف أبنى قواعد المجد وحدى»، يقشعر بدنى نشوة وروعة. وأتذكر عبارة الزعيم مصطفى كامل، «لو لم أكن مصرياً، لوددت أن أكون مصرياً». فلنحفظ لمصر عبقرية مكانها وعبقرية زمانها، ولا نُفرّط فى شبر من ترابها، أو حبة من رمالها. فمصر لا تقبل القسمة أو التقسيم. ولها رب يُباركها وشعب يحميها.
وعلى الله قصد السبيل.
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون
© 2004 - 2011
www.copts-united.com