تأجل حلم كثير من التونسيين بتأسيس أول دولة علمانية عربية، إلى أجل غير مسمى بعد أن أبقى النواب على صيغة "الاسلام دين الدولة" في الدستور.
وكانت تلك الصيغة التوافقية الوحيدة التي أرضت الاسلاميين بعد أن فشلوا في فرض الشريعة الإسلامية كمصدر أول للتشريع.
وبعد ثلاث سنوات من سقوط نظام بن علي تمكن التونسيون من التوافق على دستور جديد يعوض دستور سنة 1959 الذي تم تعليق العمل به سنة 2011 .
ويثير دستور تونس أسئلة كثيرة منها كيف تمكن التونسيون من اعتماد دستور ينص على اقتسام المجالس المنتخبة مناصفة بين المرأة والرجل؟ وهل حقق كل ما تطمح إليه المرأة التونسية؟ وهل حمى تونس من أي محاولة مستقبلية لـ"أسملتها"؟
ليست علمانية
يرد بعض المراقبين الفضل الأول في إصدار دستور توافقي يكرس مبدأ الدولة المدنية لا الدينية للاسلاميين الذين يتمتعون، حسبهم، بجانب كبير من البراغماتية حيث صوت عليه 200 عضو في المجلس التأسيسي أغلبيتهم من النهضة مقابل 12 صوتا ضد وأربعة امتنعوا.
ومع ذلك ينفي البعض الآخر أن يعود الفضل في ذلك للاسلاميين.
واعتبر آخرون أن الفضل يعود في الأصل للرئيس التونسي الأسبق، لحبيب بورقيبة، الذي بدأ مسيرة الحداثة التونسية بقانون الأحوال الشخصية والذي مازالت الدول العربية بعد أكثرمن خمسة عقود عاجزة عن إصدار مثله.
فإلى أي مدى حقق الدستور آمال التونسيين؟ وهل وضعت تونس قدمها في طريق بناء دولة مدنية حديثة؟
يقول سمير ديلو وزير حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في الحكومة السابقة (والعضو في حركة النهضة) لبي بي سي إن "مبدأ الشريعة الاسلامية كمصدر أول للتشريع لم يكن موجودا ليلغى، وإن النهضة اعتبرت ما نصت عليه المادة الأولى من الدستور بأن الاسلام دين الدولة والعربية لغتها كاف."
وأضاف ديلو أن "عدم اعتماد الشريعة الاسلامية كمصدر للتشريع لا يجعل من تونس بلدا علمانيا وأن التوافق تم على كون تونس دولة مدنية باعتبارها مرجعية مشتركة."
لكن المحامية والناشطة راضية النصراوي قالت لبي بي سي " لقد انتظرنا ان يتم التركيز في الدستور الجديد على الدولة العلمانية لكن الاسلاميين من جهة وضعف الوعي في بعض الأوساط من جهة أخرى رسخ في الأذهان معنى خاطئا للعلمانية وهو الإلحاد."
وتضيف "تونس دولة مدنية في ممارستها لمختلف شؤونها لكن ذلك لم يكن مكتوبا في أي مكان، ومن المهم أن يسجل ذلك في الدستور تأكيدا لهذا الطابع وحماية له."
وقال خالد عبيد، الباحث في الشأن السياسي التونسي، لبي بي سي إن " الاسلاميين حاولوا تمرير الشريعة كمصدر أساسي للتشريع لكنهم فشلوا بسبب معارضة شديدة من الأحزاب والمجتمع المدني فتراجعوا واكتفوا بصيغة الاسلام دين الدولة وليس دين الشعب التي تتضمن بالتبعية، حسب قراءتهم، تطبيق مبادىء الشريعة الاسلامية."
غير أن المتحدث السابق باسم الحكومة سمير ديلو شرح أنه "لم يكن الهدف تقديم دستور إيديولوجي بل كان الهدف التوصل لدستور توافقي."
خطير على المستقبل
وتنص المادة الأولى من الدستور على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، وذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها، والجمهورية نظامها."
وتنص المادة الثانية على أن "تونس دولة ذات طبيعة مدنية، مؤسسة على المواطنة، وإرادة الشعب وأولوية الحق."
ويعود نص المادة الأولى من الدستور إلى سنة 1959 حيث لم تغير فيه الأطراف شيئا ما جعل بعض المحللين يرون في ذلك ضمانا لاستقرار المجتمع التونسي الذي سيبقى يعمل وفق المبادىء التي تعود عليها. بينما يرى البعض الآخر أنه في ظل الأفكار والتيارات الموجودة اليوم فإن هذه المبادىء قد تشكل خطرا مستقبليا على تونس.
"تحاول النهضة أن تظهر وكأنها تنازلت لكن لديها تأويل آخر لنص الاسلام دين الدولة" خالد عبيد
وأشار عبيد إلى "الملاسنات الحادة التي وقعت في رواق المجلس بين منجي الرحوي عن الجبهة الشعبية ولحبيب اللوز القيادي في النهضة عندما عارض الأول إقحام الشريعة كمصدر للتشريع واتهمه الثاني بمعارضة الإسلام."
مضيفا أن "المشكلة تكمن في أن النص توافقي في ظاهره، فضفاض في مضمونه ويمكن لأي طرف أن يطبقه حسب توجهاته، وهنا مكمن الخطر خاصة إذا فاز الاسلاميون بالانتخابات القادمة."
ومثال ذلك، كما يرى "النص المتعلق بحرية الضمير والمعتقد، فالاسلاميون الذين وافقوا على هذا النص لم يغيروا موقفهم التصادمي الذي اتخذه الغنوشي في البداية إلى خطاب توافقي إلا بعد اغتيال محمد البراهمي واتهام التونسيين لهم بالوقوف وراء الاغتيالات. إضافة إلى ما حدث في مصر."
وتنص المادة السادسة من الدستور على "حرية المعتقد والضمير" ما يحد من إمكانية متابعة الاشخاص بسبب الردة. كما لم يتمكن الاسلاميون من إضافة تجريم الاعتداء على المقدسات في الدستور غير أنه من واجب الدولة "حماية المقدسات."
ويعتبر التونسيون أن الدستور هو أول خطوة يتم اتخاذها وأول إنجاز مهم يتم تحقيقه بعد الثورة، غير أن النظرة لمحتوى الدستور باتت أعمق بعد أن تجاوزوا مرحلة النشوة، وطرحت أسئلة أخرى مثل "ماذا عن بقية الحقوق الأخرى للمرأة التي أغفلها الدستور؟"
واتفق ديلو وعبيد على أن قانون الأحوال الشخصية بقي وسيطبق كما هو وقد تم تعزيز مكاسبه إذ أن أحكامه لا تتعارض مع أحكام الشريعة الاسلامية وهو اليوم بالنسبة للتونسيين شيء مقدس.
ويعود قانون الأحوال الشخصية التونسية إلى سنة 1956 وكان لحبيب بورقيبة قد استعان بعلماء الزيتونة لإعداده وقد اجتهدوا في مسائل كثيرة منها منع تعدد الزوجات لكنهم رفضوا إقرار المساواة بين المرأة والرجل في الميراث وقالوا لبورقيبة إن النص القرآني في هذا الشأن واضح ولا اجتهاد فيه.
المادة 46 من الدستور
"تتعهد الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة، ودعمها والعمل على تحسينها. تكفل الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة لتولي المسؤوليات المختلفة في جميع المجالات. وتعمل الدولة على تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة. تتخذ الدولة التدابير اللازمة للقضاء على العنف ضد المرأة."
سعداء ولكن..
وقالت النصراوي " إننا سعداء بهذا النص، لكننا غير راضين عنه، فالدستور يحمي اليوم مكتسبات سابقة للمرأة اضطررنا للمقاومة من أجل الحفاظ عليها، بعد أن باتت محل جدل، وكذلك المد والجزر بشأن الدولة الدينية الذي شهدته تونس في الفترة السابقة."
كما أقر مبدأ المناصفة في المجالس المنتخبة. وجعل من التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم ونص على عقوبة الإعدام.
وأضافت أن "الدستور لم يحقق للمرأة كثيرا من الحقوق التي كانت ولا تزال تطالب بها خاصة المساواة في الولاية على مستوى الأسرة."
ولا تملك الأم في القانون التونسي حق استخراج وثائق لأبنائها أو اصطحابهم إلى الخارج دون موافقة الأب. ولا تتساوى مع الرجل في الميراث.
وشرحت المتحدثة أن "المفكر الطاهر الحداد كان قد دعا سنة 1930 إلى المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، ومنع التعدد وحق المرأة في اختيار الزوج ما ولا يقع تطليقها، عرضه لحملة قوية من المتدينين المتشددين. وأن ما يحدث اليوم تراجع كبير عن الخطاب الذي كان يتردد في ثمانينات القرن الماضي."
واعتبرت إضافة جريمة التعذيب كجريمة غير قابلة للتقادم في الدستور "انتصارا شخصيا لها."
متسائلة عن المفهوم الفضفاض للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، حيث لم يضمن الدستور بوضوح مثلا حق المواطن التونسي في السكن في حين كان واضحا بشأن التأكيد على تبني تونس عقوبة الإعدام."
"كنا أكثر تقدما في ثمانينات القرن الماضي." راضية النصراوي
كما أشارت إلى غرابة النص على ضرورة أن "يكون الرئيس مسلما بينما يوجد بين التونسيين مسيحيون ويهود وغير مؤمنين من حقهم أن يطمحوا إلى رئاسة بلدهم."
وأتبع أعضاء المجلس التأسيسي استصدار دستور جديد بمنح الثقة لحكومة مهدي جمعة الثلاثاء 28 يناير/ كانون ثاني ووضع قدم على طريق البناء المؤسساتي.
فهل بدأت آلة البناء تتحرك في تونس؟ وهل نجح هذا البلد في فك "عقدة" الربيع العربي؟ وهل سيلهم نجاحه دول الربيع الأخرى مثلما ألهمتها ثورته؟
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com