ما من إنسان فى بر مصر لا يسأل (الوابور) رايح على فين؟ إنه السؤال الأكثر إلحاحاً على شفاه المصريين ليل نهار. سأله الموسيقار محمد عبدالوهاب، ومازلنا نسأله بكم هائل من الزهق والسأم، والموسيقار نفسه يترجم مشاعرنا حين يغنى (أخى جاوز الظالمون المدى.. فحق الجهاد وحق الفدى) ويشعر المصريون بلسان حال الموسيقار الغائب الحاضر حين ينادى (ف.. جرد سلاحك من غمده) ويقنعنا (فليس له بعد أن يغمدا)!
ولست أريد الإبحار الآن فى المحطة والركاب والوابور وجهة الوصول، أريد الحديث عن هذا الموسيقار الذى استشعر، وأقول بثقة إننا لم نعطه حقه وللدقة أكثر.. لم ننصفه. وأعترف، وأنا شاهد على ذلك أننا نحتفل بعبدالحليم حافظ أضعاف احتفالنا اليتيم بمحمد عبدالوهاب الذى صار تاريخ ميلاده عيداً للفن.. وربما أوجه مقالى لشباب لا يعرف عبدالوهاب الذى (انفطم) جيلى على صوته. وعندما يسألنى مذيع حصيف أو مذيعة رصينة عن جيلى أقول: أنا من جيل ياوابور قولى، وجفنه علم الغزل، وكروان حيران، جيل المنفلوطى وجدول الضرب!
لا أدرى، لماذا (نكثف) احتفالنا بالعندليب ولا نعطى عبدالوهاب حقه، وإذا احتفلنا فهو حفل محدود فى الأوبرا (برو عتب). وأتصور - وهى رؤية متواضعة - أن أثر عبدالحليم فى الشباب تفوق مساحته أثر الموسيقار، فهو - عبدالحليم - شريك كل قصة حب عاشها شاب. وعبدالحليم رافق مشواره أفراح الشباب وانكساراتهم. ونبرة صوت حليم تجاوبت مع الحزن الراقد فى أعماقنا، وكأنه موال شجن أو أرغول حزن. أما جيل عبدالوهاب ومريديه - وأنا منهم - فهم يضعون موسيقار الأجيال فى مكانة خاصة وفى إطار خاص، ويحفظون كل ما غنى ويدندنون بالنغم سرا.
وقد عرفت الموسيقار عبدالوهاب فى وقت مبكر جداً ولم أقابل السيدة إقبال نصار زوجته الثانية، بل التقيت الأردنية الرائعة نهلة القدسى رفيقة عمر الموسيقار حتى رحيله. ولما توطدت الصلة بعبدالوهاب كان يسأل بذكاء (هل الوقت مناسب للكلام؟). لابد من إيضاح مهم، أن العلاقات الاجتماعية ضرورية بين الفنان والصحفى فى إطارها السليم، فهذه العلاقات توظف لمصلحة الطرفين. وعندما بدأ لقاء السحاب بين عبدالوهاب وأم كلثوم، على حد وصف جليل البندارى سيد نقاد جيله، كان عبدالوهاب متحفظا فى الحديث حتى لا يقال إنه (متهافت) للتعاون مع كوكب الشرق.
كان يجيد توقيت الكلام ولا يفوقه أحد باستثناء (أيقونة) الفن فاتن حمامة التى تعرف متى تتكلم ومتى تصوم عن الكلام. أتذكر أنى دعيت لبيت الموسيقار فى مناسبة التعرف على الشاعر نزار قبانى. كانت الدعوة محدودة. نزار قبانى وزجته بلقيس، جلال معوض وزوجته ليلى فوزى وأنا وآمال العمدة يومها، لم أكتب حرفا عن تلك السهرة وما دار فيها واعتبرتها من خصوصيات الكاتب الاجتماعية، كما علمنى أسطى الصحافة المصرية موسى صبرى.
ربما كانت هذه أول مرة أرى فيها الموسيقار اجتماعيا فى إطار أسرة، واكتشفت أنه (يصغى) لمحدثه أكثر، وليس لديه شهوة الكلام. و(يفرح) بمعلومة جديدة و(ينتشى) لعبارة لها مذاق. وعرفت أن هناك ثلاثة ينابيع لهذا النهر: محمد عبدالوهاب. موسى صبرى كان يحيط الموسيقار بأحوال مصر السياسية، والموسيقار مدحت عاصم كان (نديم) الموسيقار فى النوتة الموسيقية، ومصطفى محمود الذى كان ينادى الموسيقار (عوبد الورد) وكانت بينهما حوارات تليفونية طويلة كلها تأملات فى الحياة والوجود والناس.
كان التليفون (بطلا) فى حياة عبدالوهاب، كان يراه (نافذته) على الحياة. كان الموسيقار «بيتوتيا» وليس مثل عبدالحليم يزور البشر، حتى إن كامل بيه (كامل الشناوى) قال لنا (إن عبدالحليم يذهب إلى جمهوره ولكن عبدالوهاب يأتى إليه جمهوره). كان الموسيقار يعيش حياة منظمة بشكل غير عادى، مواعيد الوجبات بالدقيقة والثانية. مواعيد المشى داخل البيت لا يخلفها، وكان من أهم طقوسه أنه لا يتكلم أثناء الأكل. فقد جلست مرة أمامه (أثرثر) وهو يومئ برأسه بالموافقة أو الرفض، وقد تفرغ تماما لعملية (المضغ). كان يقول (أكل سليم معناه مضغ سليم). ذات مرة قلت له: ألا تحن لشىء من الفوضى من باب التغيير؟ قال: (فوضى سريرى وغرفة نومى أشعر.. بسعادة الترتيب بعد الفوضى).
إن محمد عبدالوهاب الذى بدأ من حارة برجوان، فى حى شعبى، ذاق مرارة الفقر والحرمان، لكنه كان يغنى فى الأفراح والمجتمعات، وحين اعترف به المجتمع بزغ اسمه، إنها موهبة خرجت من أجواء زحام الناس ونداءات الباعة وخطوات المصلين إلى المساجد ودعوات الأمهات وصراخ الصبية ودلال الملايات اللف! ومن الممكن القول إن لقاء عبدالوهاب بشوقى كان فاتحة الخير له، والانفتاح على الدنيا. فقد قام شوقى بك بـ(صنفرة) حياة موسيقارنا وعلمه (الشوكة والسكينة) فى شتى صنوف الحياة والتعامل مع الفن والمرأة والشعر. وباعتراف الموسيقار: «شوقى بيه قشرنى زى الموزة».
هناك مطربون قلدوا عبدالوهاب لكنهم لم يقتربوا من محاكاة تلك الأحبال الصوتية الذهبية التى كان يتمتع بها موسيقار الأجيال فى همهمات صوته وشدوه على العود. وحدث أنى رافقت شابا متواضع الحال شكلا لكنه لم يكن متواضع الموهبة. رافقته إلى ٩ شارع عرابى وسط البلد حيث مكتب الموسيقار.
كان الشاب هو عبدالحليم على إسماعيل شبانة، وكنت أنتظره فى مقهى أم كلثوم الشهير، بينما هو يغنى أمام الأستاذ على مدى ٣ ساعات أغانيه الشهيرة من أول (فى الليل لما خلى) إلى (بفكر فى اللى ناسينى)، حتى إن الموسيقار (شتم) عبدالحليم إعجابا بنبرة صوته رغم الجسد النحيل!! وصار عبدالحليم أول مطرب فى زمن عبدالوهاب شريكا فى صوت الفن مع الموسيقار والمصور وحيد فريد. ولما قلت مرة (هل أنت مطرب الملوك والأمراء كما يطلقون عليك؟) قال: أضف (والصعاليك) أيضا!
من المدهش أن الموسيقار كانت ثقافته (سمعية)، فكل ما يسمعه (يرشق) فى رأسه، فليس له مكتبة كبيرة وإن احتفظ ببعض الكتب والدواوين الشعرية ممهورة بتوقيع أصحابها، وعندما ذهبنا إليه (نادية صالح وأنا) لتسجيل حلقة من برنامج (من مكتبة فلان) قال لنا بلماحيته الشديدة (ليس عندى مكتبة بالمعنى التقليدى ولكن مكتبتى هنا) ثم أشار إلى رأسه!
إن ثقافة عبدالوهاب السمعية لها مصادر كثيرة، طبيب القلب د. عوض إبراهيم كان يحدثه عن اختراعات العلم المستقبلية. وربما لا يعلم الكثيرون شغف الموسيقار بالبرنامج الثانى فى الإذاعة، وهو البرنامج الثقافى الجاد، ويعترف لى الموسيقار فى إحدى تجلياته (أعطيه أذنى وأنا مرتاح). أكثر من مرة سألت عبدالوهاب عن انتمائه الحزبى فكان يقول (أنا مغنى مصر كلها)، بيد أنى عرفت من مصادر كثيرة أن عبدالوهاب كان مؤمنا بمبادئ الوفد وكان يتبادل مع فؤاد باشا سراج الدين تليفونات صباحية طويلة عن الصحة وأخبار البلد. إن رؤية الموسيقار للمرأة تترجمها زيجاته الثلاث: زيجة (للنهوض بالكيان) وزيجة (للشباب والهوى)، وزيجة (للاستقرار والعطاء)، وإن كان عبدالوهاب يرى أن زواجه الثالث كان (الأفضل لأنها -«نهلة» - كانت تعرف المسافة والمساحة بين الزوج الرجل.. والفنان).
اعتاد الموسيقار عبدالوهاب أن ينزل فى أحد فنادق باريس ضيفا - كل صيف - على الأمير بدر بن عبدالعزيز الذى كان يطلق على الموسيقار (فارس العرب)، وكنت أعرف ولع «الأمير الفنان» بصوت موسيقار الأجيال، وحرصه الشديد على تسجيل بروفات الأستاذ الموسيقية قبل الغناء. كم كانت سعادة الأمير بهذا (الكنز)، يصارحنا به فى مهرجان الجنادرية السعودى الذى كنت ضيفا فيه مع مجموعة منتقاة من الكتاب والفنانين، وكان الأمير يفاخر بهذه الشرائط فيما عدا شريط بروفة (إنت عمرى) حيث قال الأستاذ للأمير بدر: أنا لم أستأذن الست أم كلثوم. فى أحد تجليات عبدالوهاب، يقول (إن أغنية «إنت عمرى» تثبت لجمهور الست أنها لم «تتسنبط» تماما). كان عبدالوهاب يعترف بقيمة السنباطى، لكنه لم يعلن ذلك على الملأ.
كان محمد عبدالوهاب يخاف المرض مثل نجيب محفوظ، وإن كان محفوظ ليكن يخشى الموت، لكن عبدالوهاب كان يهاب الموت. قال لى فى أحد تجلياته عندما رحلت والدته (الرجل يظل طفلا إلى أن تموت أمه، فهو يصبح عجوزا فى أى عمر)! وما أجمل المساجلات التى شهدتها بين الأستاذ والدكتور مصطفى محمود. كان مصطفى محمود يرى أن الفنان يجب أن يطرز حياته (بالأعمال) قبل (الأقوال)، وكان عبدالوهاب يرى أن الفن قادر على تغيير المجتمعات وتشكيلها. كان يؤمن أن الفن (انتظار ما لا ينتظر). وفى تسجيل نادر لإذاعة عمان الأردنية، سأل عبدالوهاب مصطفى محمود عن الموت، فقال: «إنه أمر استدعاء من ملك الملوك».
ورأيت دموع مسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.
المصرى اليوم
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com