ماجد سوس
مع سرعة و سخونة الأحداث الجارية من حولنا سواء في مصر او في العالم و مع التطور الحادث في الكنيسة القبطية في ظل قيادتها الجديدة ظهرت على السطح مصطلحات تفرق بين المصريين لم تكن تطرح بقوة من قبل فنجد على مستوى الوطن ظهر ما يسمى بالفلول و المتحول و عاصر الليمون و حزب الكنبة و أقباط الداخل و الخارج و بالطبع الإرهابي وتاجر الدين وعلى المستوى الكنسي ظهر بشدة مصطلحات الهوية الارثوذكسية و الحفاظ على تراث الآباء و الجو البروتستانتي و الفكر الغريب عن الكنيسة و الطابع القبطي و و و
على اننا ننوه بشدة ان كل هذه المسميات و التصنيفات وغيرها لا خلاف عليها من حيث أهميتها ان وضعت بموضوعية و حيادية و تجرد من التحزب والشلالية و من الهوى الشخصي و من معيار الارتياح النفسي من عدمه ، حتى لا تصير سلاحا بيد ابليس اللعين لشق الصف و تخوين الاخر او تكفيره او إخراجه من الملة او حتى للحكم عليه دون فهم او تمحيص او تدقيق فنصير ديانين فنهلك ولا شفيع .
ولان الموضوع متشابك و متسع و شائك في ذات الوقت ولأني اخشى ان احسب على فريق دون اخر او يضعني احدهم في غير ما انا فيه ، فأنا قبطي ارثوذكسي كان لي شرف تمثيل الكنيسة في العديد من اللقاءات المسكونية و افخر بكل تعاليم الكنيسة و اعشق الحانها و طقوسها الا ان هذا لا يعطيني الحق في ان اقبل ما يحدث في الكنيسة الآن من تخوين الآخر و و اخراجه من ملته و انتمائه بالتذرع بالحفاظ على الهوية الأرثوذكسية .
عندما اسس القديس الأرشي دياكون حبيب جرجس مدارس الأحد القبطية قامت الدنيا ولم تقعد ولاسيما من التقليدين الذين لم يستلموا هذا المنهج من الذين من قبلهم فإتهموه بأنه سيفقد الاجيال هويتهم الارثوذكسية و كان لزاما عن الرجل ان يصمد من اجل ابنائنا و ان يقف أمام مهاجميه بفكر إصلاحي ضخم اتهم حينه انه فكر غربي بروتستانتي ، بينما باتت مدارس الاحد هي التي تعلم ابنائنا الارثوذكسية الصحيحة حتى انها أنجبت الرعيل الاول و الذي سمي بمجموعة مدارس الأحد و من على سبيل المثال لا الحصرهم قداسة البابا شنوده الثالث احد اعظم معلمي المسكونة و العملاقان القمص متى المسكين باعث النهضة الرهبانية في العصر الحديث و الأنبا صموئيل اسقف الخدمات العامة الذي فتح الكنيسة القبطية على كنائس العالم – بالرغم من الحروب أيضا التي تعرض إليها - وغيرهم من الإصلاحيين المجددين الذين لم يقفوا عند الحرف الذي يميت بل الروح الذي يحي.
و لأن الكنيسة القبطية كنيسة مضطهدة و مستهدفة منذ نشأتها و جازت أوقات عصيبة و هجمات منظمة و غير منظمة لمحو هويتها لذا كان التيار المحافظ فيها يميل الى الجمود اكثر من الحراك وهي حقيقة تاريخية لا يمكن لأحد انكارها .
لذا تجد أن الكنيسة و بعد عصورها الذهبية من القرن الاول وحتى القرن السادس إتجهت الى حالة من التقوقع و الإنكماش - لها عذرها فيه - خوفا من فقدانها تراثها الثمين التى حصلت عليه بالدم والعناء . فنجدها تأثرت من جراء الإضطهاد الروماني حيث قدمت اكبر عدد من الشهداء في العالم ، ثم عادت وتأثرت بالفتوحات الاسلامية والعادات التي ادخلها العرب اليها فصارت تخشى التطور الملحوظ امام الجمود الموجود و التشدد الموجودان في الديانتين اليهودية و الإسلامية ولا سيما ان المسيحية جاءت و معها مرونة و تفهم لظروف الناس من مكان الى اخر و حالة الجمود هذه إلتجأت اليها الكنيسة حتى لا تنتقد من غير الأقباط بمقولة انها متغيرة الهوية .
على انه في ظل تخوفها و حرصها الشديد نجد انه تسرب إليها بعضا من الأفكار الإسلامية الغريبة عن الفكر المسيحية ، كفكرة الحلال و الحرام و القدر و النصيب أو كالتشدد في الفصل بين الرجال و النساء أوالإبتعاد عن كلمات بعينها لمجرد انها اسلامية فيمكنك ان تستخدم كلمة الرحوم و لا تستخدم الرحمن !!
وبالتوازي ايضا أتت فكرة التركيز على المنهج التصوفي الرهباني ولا سيما بعد ان قادة الكنيسة الرهبنة في العالم كله فخشيت ان تفقد دورها الريادي . أو بسبب ظهور تقوى الآباء الرهبان و روحانياتهم العالية والتي جعلت الكنيسة تتجه لجعلهم يقودون العمل الكنسي فقل معه دور العلمانيين في الكنيسة رغم ان منهم من تبوأ الكرسي البابوي يوما فأصبح لهم دوراً شكلياً او صورياً بعد ان كان دورا مشاركا فعالا و لا يفوتني في هذا المقام الثناء على قداسة البابا تواضروس الثاني الذي يحاول اعادة ترتيب البيت من الداخل و جعل للعلمانيين دور مؤثر في ادارة شئون الكنيسة.
كما وجدت الكنيسة نفسها تغوص في خلافات مذهبية أتت عليها بعد ان أسيء فهمها في مجمع خلقيدونيا و انقسمت الكنيسة الواحدة الة كنائس شرقية و أخرى غربية ومعها ظهرت فكرة الحفاظ على الهوية و كالعادة أخذالتمسك بها منحنى خطير وصل الى حد التلاسن و تكفير الاخر و في بعض الأماكن وصل الى حد الشجار و القتل و صار هناك بطريركان للإسكندرية .
ثم جاءت الطامة الكبرى في القرون الوسطى و مع ضعف الكنيسة الكاثوليكية في الغرب ظهر فريق إصلاحي بقيادة الراهب مارتن لوثر الذي بدأ فكره الإصلاحي بنية صالحة بغية إصلاح الانحراف الذي أصاب رجال الكنيسة الكاثوليكية الى انه سرعان ما وصل الى حد التحلل من كل قرارات المجامع المسكونية و إنكار أسرار الكنيسة السبعة ولاسيما الكهنوت و المعمودية و غيرهما بل و امتد الى رفض معتقدات الكنيسة من شفاعة القديسين و الحفاظ على قدسية المبنى الكنسي و غيرها .
هنا كان لزاما على الكنائس التقليدية التشدد في الحفاظ على هويتهم و على إيمانهم و عقيدتهم فظهر في الكنيسة القبطية ابطال إيمان حافظوا على كنيسة الآباء بكل ما أوتوا من قوة ولا سيما امام هرطقات خطيرة كادت ان تعصف بالكثيرين .
ولكن في محافظة الكنيسة على تراثها تمادت في خوفها و خشيتها من تسرب التعاليم الغريبة المخالفة لما تسلمته من الرسل فعلى سبيل المثال صارت ترفض كل ماهو خارج من الفكر البروتستانتي حتى فيما لا يمس عقيدتها او ايمانها و صارت مقولة هذا فكر أو إسلوب بروتستانتي ترعب كل من يحاول ان يأخذ من تجاربهم ما يفيد الكنيسة وتعصف بكل عمل قد يفيد شعبها و يقوي علاقة المؤمن بالمسيح و الكنيسة
فتمسك الكنيسة بألحانها الجميلة و لغتها القبطية و تراثها الموضوع بالروح لايمنع إيماننا بعمل الروح القدس أيضاً الآن في كل ما يقدمه الإنسان الروحي من الألحان و التسابيح الجديدة و الترانيم الحديثة طالما انها لا تخالف عقيدة وإيمان الكنيسة وإلا نعد ناكرين لعمل الله المستمر متهمين – حاشا - روح الله بالجمود و لنا مثال رائع في القديس مار افرام السرياني الذي حارب الفكر الأريوسي بوضع كلمات الإيمان الصحيح على نفس أنغام الترانيم و الألحان الأريوسية التي كان يستخدمها اريوس في نشر تعليمه الفاسد و لم نسمع عن رفض الكنيسة لهذه الفكرة الرائعة.
التمسك باللحن القبطي و نغماته البديعة لا يتناقض و لا يصطدم مع كل تسبيح يقدمه شعب المسيح لمجد اسمه فنصلي بالروح و نصلي بالذهن و قد يعمل لحن في شخص و يعمل لحن اخر في شخص آخر فالعبرة بما يمس روح الإنسان و يحثها على التوبة والرجوع الى الله .
و الكنيسة الواعية التي تسير وراء كلمات مسيحها عن ان السبت – الطقس - خلق للإنسان و ليس العكس لذا تجدها لم تمس ألحان ليتروجياتها قداساتها التي تسلمتها ، وان ترجمتها في ذات الوقت للغات العالم من اجل خلاص شبابها ، وبدأت في اتجاه وسطي بجعل خلاص النفوس اهم من التمسك بالجمود فنجد المتنيح البابا شنودة وقد سمح بإدخال الترانيم و الكورالات في اجتماعات الكنيسة بل و في اجتماعه الإسبوعي الشهير حتى ينشغل اولادنا لا بألحاننا ذات اللحن العتيق فحسب و انما متماشيا مع سرعة العصر و ميل أبنائنا للوجبات السريعة فصارت الكنيسة الواعية تقدم هذا و ذاك .
و من شديد الأسف أن الخوف من فقدان الهوية الارثوذكسية – الغير مبرر - أصبح سلاحا عند المتشددين للهجوم الشديد على الكاهن او الخادم الذي يحب الترانيم المسيحية او يقدمها لأبنائه وأصبح من يستخدام الآلات الموسيقية لمجد الله يتهم بالبروتستانتية بالرغم من ان كثير من الكنائس القديمة كان يوجد بها أرغن – كالبيانو – ذو اصوات جميلة و ما الدف و التريانتو الا آلات موسيقية تنظم إقاع اللحن .
لا يفوتني هنا انني قد رصدت علاقة روحية قوية متلازمة بين رجال الله و التسبيح و الآلات الموسيقية منذ عهد الملك المرنم داود مرورا بالنبي العظيم اليشع الذي قال : " فأتوني بعوّاد . و لما ضرب العوّاد بالعود كانت عليه يد الرب " (2 مل 3 : 15 ) و القديس العظيم مار إفرام السريان – و الذي أرشنا اليه قبلا - الملقب بقيثارة الروح ( 306 م ـ 373 م)، هو راهب سرياني من رواد وكتاب وشعراء المسيحيه وبيعتبر اعظم من كتب القصيدة والترنيمة الدينية في الشرق المسيحى. حتى في عصرنا الحديث وجدنا شرائط مسجلة للقمص بيشوي كامل السكندري و هو من اوائل الآباء الذين اهتموا بمدائح كيهك و بإدخال الترانيم في كل الاجتماعات الروحية ، ثم تجد ابونا المتنيح القمص مرقس خليل الدويري وكيل مطرانية الفيوم وهو الواعظ الروحاني الشهير الذي كان يجول جنوب مصر و شمالها يأخذ معه آلته الموسيقية في كل كنيسة يذهب اليها و قد كان يقوم بتحفيظ الشعب الكثير من الترانيم قبل إلقائه العظات .ثم نجد في عصرنا هذا القمص مكاري يونان صاحب موهبة إخراج الشياطين و الكرازة لغير المسلمين و القمص سمعان خادم المقطم الذي استخدمه الرب لخدمة إعجازية عظيمة و لإعادة الضالين البعيدين و خدمة الفقراء و الزبالين ، ثم نجد محبة الواعظ الشهير ابونا - المفوه - داود لمعي وولعه الشديدة للترانيم قبل كل خدمة و ابونااغسطينوس حنا الذي كان يعزف بآلته الموسيقية في مؤتمرات قداسة البابا شنوده في السبعينيات و الثمانينيات و ابونا بيشوي عزيز مدير قناة لوجوس الذي يحرص و زوجته على الترنيم في كل برامجهم الفضائية و ابونا مفجر نهضة الاسكندرية الحديثة اغسطينوس موريس الذي جذب بخدمته وعظاته ،آلاف الشباب الضال . هؤلاء المباركين حفظهم الرب وغيرهم وهم كثيرين لم اذكر منهم سوى القليل على سبيل المثال و الملاحظ لدينا ان معظمهم طعن في نقاء أرثوذكسيتهم لمجرد حبهم الشديد للترانيم وهو أمر شديد الغرابة .
اما الاتهام الثاني الذي رصدته و معي الكثيرين ايضا ، يتعلق بالوعاظ من الآباء و الخدام ، هو طريقة إلقاء العظة نفسها فالمتكلم الذي يتكلم بهدوء حتى وان نام المستمعون معه فهو أرثوذكسي صميم اما وان على صوته او وبخ مستمعيه أو خرجت كلماته حماسية ، فقد تجرد من هويته الارثوذكسية !!. ياللعجب فقد بات المعيار ، نبرة المتكلم لا فحوى الكلام .
من مراحم الرب أن أمثال هؤلاء لم يكنوا موجودين حين تكلم بطرس امام الجمع الغفير في يوم الخمسين بعظته الحماسية و التي انضم على اثرها الآلاف للكنيسة او حين قدم اسطفانوس الشماس عظة عدت كأقوى العظات في تاريخ نشأة الكنيسة ، والا لنعتوهما بالبروتستانتية .
احد الآباء الرهبان ، كبار السن ، قال لي انه يحتفظ بعظة نارية لقداسة البابا شنوده الثالث كانت موجهة لخدام القرى في بداية خدمته ، و كان موضوعها " الروح القدس الناري" ان سمعتها تتصور انه واعظ خمسيني او بروتستانتي بسبب حماسه الزائد .
و رغم انني شخصيا أميل الى الوسطية حتى في طريقة القاء العظة او المحاضرة الا انه يجب علينا ان نحترس يا إخوتي لئلا يكون حكمنا على رجال الله مستندا على معايير شكلية خارجية كطبقة الصوت او طريقة الوعظ فيصير حكمنا بالمظهر لا بالجوهر ونسير بلا وعي معرقلين غاية إيماننا ، خلاص النفوس .
قال لي احد الآباء - متهكما- تصور يا عزيزي انك ان قلت ، الرب يسوع بيحبك ، فأنت بروتستانتي و ان قلت ، السيد المسيح ، فأنت هنا أرثوذكسي !! يا للعجب ..
كان القديس ابونا بيشوي كامل السكندري يأتي بالمتنيحة الأستاذة الدكتورة المؤرخة إيريس حبيب المصري لتلقي محاضراتها على شعب الكنيسة و الخدام و كان البعض ينتقده بمقولة انها امرأة و لايحق لها ان تعلم بينما هو كان يرى انها لا تشترك فقط في الليتروجية و لا تعظ في العشيات و القداسات لكن عليها أن تفيد الشعب بعلمها و دراساتها. فهل لنا ان نقول هنا أن ابونا بيشوي قد تخلى عن هويته الارثوذكسية.
أحبائي هل تعلمون ان هناك من الآباء و الخدام من الذين يحلمون بعمل نهضات روحية و ترانيم و عظات نارية و لاسيما مع تزايد حالات الإلحاد و ترك الإيمان و تزايد حدة الخلافات الزوجية في المجتمع مع وجود ظاهرة الزواج االعرفي التي انتشرت بين أبنائنا الذي تركوا المسيح و زاغوا ، الا ان هؤلاء الآباء و الخدام يخشون ان يتهموا بأنهم يتخلون عن الهوية الارثوذكسية فصار السقوط في الهاوية لمن يمس الهوية و لو للحفاظ على غاية الإيمان...
أحبائي ، كان يسوع يرى هذا التشدد في أعين رؤساء اليهود من الكتبة و الفريسيين حين أخذ يوبخهم و ينتهرهم و ينذرهم بالويلات لتركهم الجوهر الذي يبني الانسان و يخلصه و جريهم وراء الشكل و المظهر . عزيزي يسوع هوهو أمس واليوم والى الأبد و مازالت اسمعه يوبخ بعضنا الان لسان حاله قائلا يابني ان الهوية الارثوذكسية خلقت لخلاص الانسان و لم يخلق الانسان من اجل التشدد و التعصب للهوية والتي تفعله دون ان تعرف حدودها او ضوابطها الحقيقية ، تاركا سيرة الآباء و جهادهم الصحيح متمسكا بالقبر المبيض من خارجه .
كلنا لايوافق ان يتخلى أرثوذكسي واحد عن العقيدة الصحيحة او الإيمان المسلم لنا من الآباء ، شريطة ألا يمتد الى الشكليات التى قد تبقي الكنيسة كشكل خارجي براق بلا مضمون او هدف فتفقد أولادها دون وعي
مرة أخرى علينا عدم تبسيط الأمور الى حد تزييف الحقائق و عدم تعقيد الأمور الى حد عبادة الشكليات.وهو الفرق بين الهوية التي تميز الانسان عن غيرة و بين الهاوية التي تبتلع الانسان حين يجهل و ينحرف عن الطريق الصحيح.
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com