هَاتَفَهَا حبيبها يطلبُ لقاءَها، فخرجت من حالةِ الإحباط و الكآبة لتسرع للقاءِهِ عابرةً شوارع وسط البلد إلي مقهي شهير بقلب ميدان "طلعت حرب" بينما يأتي الصوتُ الساحرُ في الخلفية فَرِحاً متصاعداً راقصاً "آه يا هوا يا هوا" (لم أستطع أن أُخْفِ نشوةً فائقةً غمرتني عندما سمعت هذا الصوتُ الساحرُ في خلفيةِ هذا المشهد)..يجلس إليها الفتي مُتجهماً فيصدمها بكلامٍ جافٍ و سخيفٍ، لتَفِرُ منه هاربةً إلي الميدان الوسيع حيث تظهر في خلفية المشهد صورة "جمال عبد الناصر" محمولة علي الأكتاف وسط حشدٍ يُرددُ "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" ثم "صوت المرأة ثورة ثورة"، في مزجٍ عبقريٍ بين عناصر صنعت "ثورة مصر"، و ليؤكد وعي الحس الشعبي أن "ناصر" كان -ببساطة- سنداً لفقراء الوطن. ظننت أنها النهاية، لكنه -مشكوراً- خَيَّبَ ظني و ضَاعَفَ قَدْرَ النشوةِ و المتعةِ، فَمَدَّ في عُمْرِ السِحْرِ المُبهجِ دقائقَ أخري. نعم.. إنه ساحرٌ جبار يُمسكُ بأطرافِ أدواتٍ تختلطُ فيها مهارة الصانعِ المتمكن بمشاعر المُحِبِ المُتَيم، ليخرجَ إلي النورِ إبداعٌ يتجاوزُ حدودَ القدرة علي التَخَّيُل رغم أنه يصفُ واقعاً يومياً نعيشُه حتي الثُمالة، لكننا لا نتأمله بالقدر الكافي لنسبرَ أغوارهُ و نَنفَذَ إلي أعماقهِ فنَدرسَهُ في تجردٍ و حياد.
يأخذكَ صاحبنا ببراعةٍ فائقةٍ لعالم البنات في عشوائيات المدينة.. يَعشْنَ علي أقصي أطرافِ الحياة.. تشعر كما لو كُنَّ -جميعاً- يَعِشْنَ في معسكرِ تعذيبٍ ضخمٍ تتماهي فيه حدودُ الخصوصية، فلا أسرارَ تُخفيها جدران البيوت (و هل لتلك البيوتِ من جدران؟).. فَقَدت جدرانُ البيوتِ جدواها و مُبررَ وجودها فلم يَعُد هناك ما يقتضي الكتمان، إذ لِترددِ النَفَسِ في الصدور صوتٌ مسموع و للهمسِ في الآذانِ صدىً مُدَوٍ. تعاني بنات مدينتنا -كلهنَ دون إستثناءٍ- من ممارساتِ مجتمعٍ لا يري فيهن سوي "عَورةٍ" تسيرُ علي قدمين.. مجتمعٍ يحتجزُهُنَّ جميعاً خلف أسوارٍ عاليةٍ تَحجُبُ أشياءَ كثيرة.. فلا مسموحَ سوى ما تُحيطُهُ تلك الأسوار، و ما عدا ذلك هو محضُ خطأٍ أو حرام، فما بالك إن كُنَّ مِنْ هناك.. مِنْ تلك التخوم.. مِنْ علي الهامش.. من عشوائيات مدينتنا التي لا قلب لها، حيث "الإحتياج" هو مفتاحُ الطَلْسَمِ الغامض.. كم هُنَّ بائساتٌ بناتُ عشوائياتِ مدينتنا التي لا قلب لها.. البنات اللاتي لا يمتلكن سوي أحلامٍ بسيطةٍ ومشاعرَ مُحبَطةٍ وشرفٍ رفيعٍ.
شاهدت بعينِ الواقعِ هذا العالم ورَصَدتُ معاناته من قبل لأضعها في بحثٍ علميٍ يرتكز علي تحليلاتٍ سوسيوبوليتيكية و يقدم حلولَ موضوعية، إلا أنه -رغم ما يَحمله من إنحيازاتٍ إجتماعية- كان بحثاً جامداً كأنه وجبةٌ فخيمةٌ بلا دسم، ليأتي صاحبنا فيُكسِبُ الوجبةَ دسماً من نوعٍ خاص. تلك كانت حكايةُ ساعتينِ من إبداعٍ ينتزع كل الحواس، فيُكثفها و يَصهرُها ليُنتج منها مشاعرَ تتحول تلقائياً إلي طاقةِ غضبٍ إيجابيةٍ، ثم يتركك لتعود إلي حلولك الموضوعية للتغيير، فتصلَ إلي نفس النتيجة لكن من خلال شخصياتِ بشرٍ من لحمٍ و دم تحكي واقعاً مُراً كالعلقم، نَجْتَرُ عذاباتِهِ في صمت بينما الأملُ يحدونا في حياة أكثر إنسانية.
كان صاحبنا هو المصري حتي النخاع "محمد خان" وكانت البطولة لصوت "سعاد حسني" وآخرين. تلك كانت حكاية كل هذا الإبداع.. "فتاة المصنع".
نقلا عن البداية
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com