العمل الفني - عن المسرح أتكلم - مخلوق حي، وكل مخلوق حي له حظه في الدنيا، وعليه أن يرضى به. نصيب عرض مسرحية «طبيخ الملايكة» من الحظ كان قليلا. كان العرض جيدا، غير أن الظروف لم تكن ملائمة، فقد بدأت وقتها حرب الاستنزاف وأظلمت القاهرة. أحاطت شكائر الرمل بمداخل المباني لحمايتها من شظايا القنابل المحتملة، ودهن الناس نوافذهم باللون الأزرق. توقفت حركة الإنتاج الدرامي تماما، ورحل عدد كبير من الممثلين النجوم إلى بيروت وتركيا، حتى أشهر كتاب السيناريو في ذلك الوقت وهو الأستاذ عبد الحي أديب سافر إلى تركيا لفترة قصيرة كتب فيها بعض الأفلام. غير أن المسرحيين كانوا يقاومون هذه الظروف القاسية بتقديم عروض تزيد من متاعبهم وديونهم.
بشكل عام، عندما تطالع صفحات المسرح المصري في القرن العشرين على الأقل تكتشف بسهولة أن كل من كان يعمل في المسرح هو شخص «غاوي فقر»، لكنه العشق.. كيف تقنع عاشقا بأن يكف عن عشقه؟ عدد قليل جدا من المسرحيين هو الذي أفلت من الفقر.
كانت مسرحية «طبيخ الملايكة» هي أول عمل أقوم بتمصيره، وأفلح عدد كبير من أصدقائي في إقناعي بأنني ارتكبت جريمة كبري: واحد مؤلف زيك.. يمصّر؟
الواقع أن كل الأعمال الفكاهية التي كان يقدمها المسرح المصري كانت تمصيرا عن أعمال أجنبية تجاهل المؤلفون ذكر أصولها على الأفيشات، لذلك كان شرطي مع جورج هو كتابة اسم المؤلف الفرنسي «ألبير هوسون» على كل إعلانات المسرحية. وحذف كلمة تأليف وكتابة كلمة «تمصير» لم يكن اعترافا مني بحقوق الملكية الفكرية، بل لتخفيف عبء الإحساس بالذنب عن نفسي. في مشوار حياتك ستقابل كثيرا من الأصدقاء والأحباء يتحولون في لحظات إلى وكلاء نيابة يوجهون إليك عشرات الاتهامات بدافع من حبهم لك، وستمر سنوات طويلة قبل أن تكتشف أن الحب كان بعيدا جدا عن دوافعهم. تحدثت في ذلك مع شيخ المسرحيين توفيق الحكيم رحمه الله، فقال لي: «ليس مهما أن تنقل عملا فنيا أجنبيا عن طريق الإعداد أو التمصير.. السؤال هو: ماذا ستفعل به.. هل ستقدم من خلاله إبداعا حقيقيا أم لا؟».
في ذلك الوقت من نهاية الستينيات، تم تعيين الدكتور يوسف إدريس مسؤولا عن المسرح في هيئة المسرح، فانتدبني للعمل معه قارئا للنصوص المسرحية، حيث اكتشفت ثلاثة كتاب جددا: بهيج إسماعيل، مصطفى بهجت مصطفى، وفهيم القاضي الذي رشحته للثلاثي فكتب لهم مسرحية «فندق الأشغال الشاقة» وهي أيضا عن أصل فرنسي. تولى إخراجها الضيف أحمد، وتوفاه الله أثناء التدريبات، فشعرت بأن جزءا من كياني قد انهار. اختفى الضيف غير أن الفرقة المسرحية التي كافح من أجل ظهورها بقيت على قيد الحياة، بل وبدأت تحقق نجاحا مبهرا، إلى أن تدخل الحظ السيئ مرة أخرى وأقعد جورج عن العمل، فبقي سمير ليعمل في الإطار الشهير الذي يسمى النجم الأوحد. لم تعد مهنة التمثيل ترد على خياله، بل الإضحاك.. ويا لها من مهمة شاقة، كان الله في عونه.
أتساءل وأنا أكتب هذه الذكريات: هل أنا أكتب مرثية، أم أعلق على أحداث مباراة لم أعد لاعبا فيها؟ أرفض أن يكون الأمر كذلك، غير أنه الحنين إلى الماضي.
نقلا عن الشرق الاوسط
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com