الكاتبة / نانا جاورجيوس
ونحن نحتفل بذكرى إستشهاد كاروز الديار المصرية في26 إبريل سنة68 م والموافق 30 برمودة، حيث سالت دمائه في شوارع الأسكندرية فروت أرض مصر فنبتت بذرة المسيحية الأولى نبتة صالحة ومثمرة كما أرادها السيد المسيح. وعندما نتذكر مارمرقس نتذكر أنه عمود الإيمان الذي أنار تُخم مصر وحول أرضها من الوثنية لأرض القديسين لتحلق في قبة سمائها ملائكة الذبيحة الإلهية في القداسات
حين أقام مارمرقس مذبحاً للرب في تُخمها كما تنبأ «إشعياء19:19»، وهذا المذبح هو تأسيسه لأول كنيسة على أرضها، كنيسة الأسكندرية والكرسي المرقسي مُدشناً بدمائه الطاهرة التي سفكت ذبيحة حب لسيده وإلهه ومخلصه يسوع المسيح. إنه يوحنا المُلقب مرقس الأنجيلي«أع 12: 25،، 15: 37» والذي ولد بمدينة القيروان بالخمس مدن الغربية بشمال إفريقيا في بلدة ابرياتولس لأبوين يهوديين من سبط لاوي، والده أرسطوبولس وأمه مريم أخت القديس برنابا الرسول« كو4: 10»، وكانت تخدم السيد المسيح مع المريمات، و أعد المسيح في بيتها بـ«عُلية صهيون» طعام الفصح وغسل أرجل تلاميذه. لهذا يعد بيتها أول كنيسة في العالم أسسها المسيد المسيح بتأسيسه سر التناول «الإفخاريستيا» في عشائه الأخير. وفي نفس العُلِّية أيضاً حل الروح القدس على التلاميذ والمؤمنين في اليوم الخمسين لقيامته. لهذا لُقب مرقس الرسول بـ «ناظر الإله» لأنه من أكثر التلاميذ الذين عايشوا حياة سيده المسيح و ولازمه و عاين مجده ومعجزاته عن قربٍ.
فهو أحد السبعين رسولاً الذين أختارهم يسوع للكرازة في القرى المحيطة بأورشليم أثناء حياته. وبعد صعود السيد المسيح بدأ خدمته التبشيرية بأورشليم واليهودية ثم أنطاكية وقبرص بأسيا الصغري وأسس مع بولس الرسول بعض كنائس بأوروبا وعلى رأسهم كنيسة روما. سافر من روما لموطنه الأصلي بالخمس مدن الغربية بالقيروان وبرينيكي وبرقة وارسينوي وابولونيا وأقام بها حوالي تسعة سنوات كرز بإسم يسوع وقام بتعميد الكثيرين.
ودخل لمصر ما بين عامي 60، 61م من الجهة الغربية لمدينة الأسكندرية عاصمة مصر آنذاك، واجهته كثير من المصاعب حيث الفكر الوثني المنتشر، ولكن سرعان ما بدأت تنتشر المسيحية بين الوثنيين، فشيد أول كنيسة بالأسكندرية في منطقة بوكاليا- دار البقر- فعُرفت بكنيسة بوكاليا، كما أنشأ مدرسة الأسكندرية اللاهوتية للرد على أفكار المدرسة الوثنية التي كانت الخلفية الطبيعية لمدرسة أثينا الفلسفية ذات الفكر اليوناني الوثني، حتى ثار عليه الوثنيين من عبدة الإله سيرابيس وتربصوا به لقتله، ولكنه واصل بشارته حتى إزدهرت المسيحية في وقت وجيز وفي غضون ثمانية سنوات هي كل مدة بشارته بمصر، وبينما كان يحتفل برفع قرابين عيد الفصح عام 68م، و وافق هذا اليوم عيد الإله سيرابيس. هجم الوثنيين على الكنيسة وسحلوه في شوارع المدينة وحبسوه مضرجاً بجراحه وآلامه و دمائه، فظهر له رب المجد يسوع في تلك الليلة وشفاه وقواه و وعده بنيله إكليل الإستشهاد، وفي اليوم الثالي سحلوه ثانية بشوارع الأسكندرية التي إرتوت من دمائه ولحمه المتناثر حتى فاضت روحه في يد سيده يسوع، وأضرموا ناراً لإحراق جسده نكاية في المسيحيين، فحدث برق و رعد وهطلت فجأة الأمطار فأطفأت النار قبل أن تحرق جسده، فأخذ المسيحيين جسده وكفنوه بإكرام و وضعوه بتابوت ودفنوه خفية بالجانب الشرقي من كنيسة بوكاليا.
وظل الجسد محفوظاً كاملاً حتى الإحتلال العربي لمصر عام 641م في عهد البابا بنيامين الـ 38 الذي أعلمه ملاك الرب أن البلاد ستمر بشدائد عظمى وعليه التخفي عن الأنظار هو والأساقفة فأقام قداساُ وناول فيه الشعب من الأسرار المقدسة وأوصاهم بالثبات على الإيمان وعلى عقيدة آبائهم وأعلمهم بما سيحل بالبلاد من أزمات، وما إن أصبحت مصر تحت سيطرة العرب و بعد ثلاث سنوات، من نهب وسرقة وحرق للبيوت و الكنائس وأثناء غزو عمرو بن العاص للأسكندرية سنة 360 للشهداء 644م وتدميره لأسوارها وسيطرته على حصنها، تكرر سيناريو الحرق والتدمير ونهب لكنائس الأسكندرية على أيدي رجاله ومن بينها كنيسة بوكاليا التي تحوي تابوت القديس مارمرقس ورغم تدمير الكنيسة وحرقها إلا أن رفات القديس كاروز مصر لم تمسها النيران ولم تحترق، وكان البابا بنيامين قد تخفى عن الأنظار ببرية القديس مقاريوس بصعيد مصر، وعند رحيل عمرو وبعض رجاله في سفنهم ليغزو الخمس مدن الغربية الليبية حيث تعرض تابوت مارمرقس للنهب من رجاله وقام أحد بحارة سفن عمرو بن العاص قبل إقلاعهم ظناُ منه أن التابوت يحوي كنزاً مدفوناً، ولما لم يجدوا إلا رفات الجسد أخذوا الثياب ثم أخذ أحدهم وهو أحد بحارة السفن رأس القديس معتقدًا أنها كنزاً وأنها تخص رأس رجلًا عظيمًا، وتحكي لنا مراجع التاريخي التي رصدت هذه المعجزة الإلهية التي حافظت على جسد القديس رغم ما لحق بالكنائس من حرائق وتدمير.
فالعلامة القبطي أبو البشر ساويرس إبن المقفع الراهب و الكاتب وأسقف الأشمونين وهو من القرن العاشر الميلادي ولد سنة915م، يذكر في مرجعه« تاريخ البطاركة» الذي يعتبر من أقدم كتب التاريخ القبطي وأول مصدر لتاريخ آباء الكنيسة القبطية، فيقول في الجزء الأول ص108:{ وكانت أعجوبة عند حرق البيعة المذكورة فعلها الرب، وذلك أنه أخذ رؤساء المراكب وهو ريس مركب الدوقس سانوتيوس تسلق ونزل إلى البيعة وأتى إلى التابوت فوجد الثياب قد أُخذت لأنهم ظنوا أن في التابوت مال، فلما لم يجدوا شيء أخذوا الثياب من على جسد مار مرقس وبقيت عظامه فيه، فلما جعل ريس المركب يده في التابوت وجد رأس القديس مرقس وأخذها وعاد إلى مركبه سراً ولم يعلم به أحد وخبأها في الخُنْ في قماشه....}
ويذكر الأعجوبة كذلك يوحنا بن زكريا إبن السباع اللاهوتي المعروف بـ«إبن سباع» في كتابه« الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة»، وهو من أشهر كُتاب القرن الثالث عشر الميلادي، فيقول في صفحة285:{ وعمل جسده في تابوة، وأقام مدة إلى حيث عبرت المسلمين إلى الأسكندرية وفتحوها بالسيف، وكان ذلك في البحيرة، وكانوا عدت مراكب وأن أحد البحارة عبر إلى كنيسة القديس مرقس التي هي على ساحل البحر المالح المعروفة بالمغارة وكان ليلاً فنزل إلى المغارة فوجد تابوت القديس مرقس فظن أن فيه ذهب فحط يده في التابوة فوقعت يده على الرأس فظن أنها حقاً ذهب فأخذها في الليل وأخفاها في خُنْ المركب
فوضعوا فيها كلاليب وجروها كلهم لأن تخرج،فما خرجت فأمر عمرو بن العاص بتفتيشها، فلما فتشوا المركب وجدوا تلك الرأس مخبأة، فأطلعوها إلى البر، عند ذلك خرجت المركب وحدها،فعلم عمرو بن العاص وكل من كان معه أن ما كان سبب تأخير المركب في البر إلا تلك الرأس وللوقت إستحضر من خبأ الرأس فإعترف له بسرقتها وأنه ضربه وأهانه وسأل عن بطرك النصارى في ذلك الوقت، وكان البطرك أنبا بنيامين وهو هارباً منه في صعيد مصر، فكتب له كتب بخط يده وهو يأمنه فيه على نفسه وسأله الحضور فحضر، وعندما حضر سلم له الرأس المقدسة وبجله وعظمه وقال له الآية التي ظهرت عن الرأس المقدسة ودفع له عشرة آلاف دينار برسم بناء كنيسة، على إسم هذا الرأس المرقسية، فشكر الأب البطرك وإطمأنت نفسه وبنى هذه البيعة بالأسكندرية المعروفة بالمعلقة التي في الحبالين بالثغر إلى يومنا هذا.} وحالياً هي كنيسة مارمرقس - شارع المسلة بالثغر .
ويذكر السنكسار القبطي نفس المعجزة في اليوم الثامن من شهر طوبة بمناسبة « ذكرى نياحة البابا بنيامين الأول الـ 38» الذي جرت المعجزة في عهده، وذكرها أيضا قداسة البابا شنودة الثالث في كتابه«ناظر الإله مرقس الرسول القديس والشهيد».
وظل الجسد والرأس مدفوناً بها حتى القرن التاسع الميلادي، إلى أن سرق الجثمان تجار من البندقية بإيطاليا عام 827م وبنوا على جسده كنيسة بإسمه هناك، أما رأسه فظلت بالأسكندرية وشرع البابا بنيامين في بناء الكنيسة، ولكن حاول الرومان الإستيلاء على الرأس، فخبأها الأقباط بدير القديس مقاريوس ببرية شهيت عام 1013م، ثم بدأت الرأس تتنقل في الخفاء بين أسر أغنياء الأقباط منذ القرن الحادي عشر، بسبب الولاة العرب الذين ظلوا يفتشون عنها ويدفعون مقابلها الأموال الضخمة للحصول عليها، وحين يعلمون بمكانها عند أحد الأسر حتى يقبضون عليهم ويضربونهم ويهينونهم ويبتزونهم مادياً مقابل أن يتركوا لهم رأس القديس،حتى تم بناء مدفن خاص من الرخام في القرن الثامن عشر بكنيسة مارمرقس بالأسكندرية في عهد البابا بطرس السادس.
بينما جسد القديس بالبندقية بنيت له كاتدرائية فخمة بإسمه، حتى طلب البابا كيرلس السادس من بابا روما إسترداد جسد الشهيد مارمرقس عام 1968 بمناسبة مرور 19 قرناً على إستشهاده وبمناسبة بناء كاتدرائية مارمرقس بالأنبا رويس بالعباسية ليستقر بها جسده المقدس أخيراً بعد أكثر من أحد عشر قرناً حافظت فيه روما على جسد القديس مرقس، وسافر وفد الكنيسة القبطية وعادوا برفات القديس يوم الأربعاء24 يونيو 1968ومعهم وفد من كنيسة روما، وصعد البابا كيرلس بنفسه لسلم الطائرة ليتسلم جسد كاروز بلادنا ويحمله على عنقه بإجلال كبير في إستقبال مهيب إحتشدت له الآلاف من أبناء مصر بطول الطريق لتبدأ مراسم إفتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية يوم 26 يونيو-19 بؤونة، وسط إحتفالاً كبيراً دقت فيه كل أجراس كنائس القاهرة وحضره بطريرك أنطاكية ومطارنة الأرمن الأرثوذكس والهند والسريان والأثيوبيين، والرئيس جمال عبد الناصر الذي ساهم بنصيب كبير في بناء الكاتدرائية المرقسية والأمبراطور الأثيوبي هيلاسلاسي ورئيس البعثة الباباوية بروما، ليضعوا رفات جسد رئيس بطاركة كرسي الأسكندرية العظمى ومؤسسه في قبره الرخامي بعد مراسم قداس إلهي حبري ترأسه البطاركة والمطارنة من مختلف دول العالم.
فبقدر عظمتك أيها القديس العظيم بقدر الحفاوة والترحيب والفرح والتوقير الذي إستقبلك بها شعب مصر الذين يدينون لك بالحب والعرفان، فأنت رائحة المسيح الزكية التي أرسلها رب المجد إلينا وأرسل معه حنوطه وأطياب قيامته ليشركنا معه ويقيمنا من وثنية الهلاك ليكون لنا نصيب مع فادينا فإستشهدت لأجل أن يصلنا إيمان سيدك المسيح، الذي إئتمنك على رعية شعبه فأتيت له بالثمر الكثير لتنمو شجرة بِرّ الإيمان وتطرح بركات لا تُحصى على أرضنا، تلك الأرض التي لم ينساها حين أتاها طفلاً فأحبها وباركها وأقام مذبحه عليها إلى أن يأتيها ثانية ليأخذ كنيسته وعروسه المفدية بدمائه وبدماء الملايين من شهدائها ويضمها لجوقة قديسيه بكنيسته السمائية، شفاعتك أيها القديس العظيم مارمرقس فلتباركنا و تبارك كنيستنا و أرض مصر المباركة.
المـــــــــــــــــراجع:
(1) تاريخ البطاركة: ساوريرس إبن المقفع - الجزء الأول
(2) الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة: يوحنا إبن زكريا إبن السباع
(3) سنكسار الكنيسة القبطية
(4) ناظر الإله مرقس الرسول القديس والشهيد:قداسة البابا شنودة الثالث
جميع الحقوق محفوظة للأقباط متحدون © 2004 - 2011 www.copts-united.com